معاذ قنبر
كاتب وباحث سوري
لا ينطلق البحث العلمي من الإدراكات البديهيّة، بل يرتبط بأسلوب خاص من التفكير، ذلك أنَّ البديهيات لا تكفي وحدها لفهم طبيعة العلم، ويعود ذلك بشكل أساسي إلى أنَّ الأفكار العلميّة الخصبة هي بطبيعتها مضادة للبديهيّات، ولا يمكن الوصول إليها بمجرَّد النَّظر في الظواهر، وهي تخرج بالتالي عن دائرة الممارسة اليوميّة التي كثيرًا ما يعتمدها العلم الزائف. وبالتالي فإنَّ ممارسة العلم تتطلّب إدراكًا واعيًا لنواقص التفكير البديهي، وهذا ما يميِّز العلم عن التكنولوجيا حيث كثيرًا ما يجري الخلط بينهما.
إنَّ الغاية من العلوم هي فهم التحديات ومواجهتها من أجل تجاوزها والتغلب عليها، وليس وضع بيانات تقوم على أساس التشكّي والتشاؤم، هذا ما نتعلّمه من تاريخ العلوم، وهذا ما تعاونت من أجله البشرية لمواجهة المجاعات والأمراض والكوارث الطبيعية عبر العصور. وهذا يعني أنَّ العلم ليس تعبيرًا جامدًا عن القوانين الطبيعية التي نسمع عنها جميعًا في مراحل التعليم، وهو ليس مجموعة من القواعد الاعتباطية التي تعتمد قراءة الطالع. وإنَّما هو كيان معرفي متطور، ينطلق من أن الكثير من الأفكار التي نبحث فيها حاليًا سيثبت خطؤها أو عدم اكتمالها يومًا ما، وأنَّ الأوصاف العلمية تتغيّر مع تخطّينا حدود معرفتنا نحو مجاهيل جديدة وخوضنا غمارها لنصل إلى مناطق أبعد يمكن أن نلمح فيها إشارات لحقائق أعمق.
ولكي يمكن لموضوع ما أن يطلق عليه اسم "علم" يجب أن يشترط فيه كحد أدنى، الثبات المنطقي الداخلي بمعنى "الاتِّساق"، وأن تكون التفسيرات التي يقدِّمها مقبولة أو متوائمة مع فروع العلم الأخرى، وأن تكون مجموعة القوانين والآليات السهلة التي يضعها قادرة على تفسير ظواهر أخرى أكثر تعقيدًا، وأن تكون صياغاته القانونية قابلة -قدر الإمكان- للتعبير عنها بصيغة رياضية، أو يمكن تعميمها كميًّا بشكل دقيق دون تناقض أو تزييف للوقائع.
فهل تنطبق هذه المقولات على العلم الزائف؟
سنجد في الواقع صعوبة بالغة في تحقيق أدنى معيار يمكن من خلاله التأكُّد من إدعاءات التنجيم، أو التأثير عن بُعد، أو التخاطر، أو التقمُّص، أو غير ذلك حيث يذكر أنه عندما تكرّرت الدعوة إلى الفيزيائي الكبير "فاراداي"، لمشاهدة ظواهر غير طبيعية، أجاب قائلًا: "سأترك للأشباح أن تجد طريقة لنفسها تلفت بها نظري إليها، لقد تعبتُ منها". وهذا ليس إلا تأكيد على فكرة أنَّ العلم لا يأتي وفق مبدأ الإلهام المفاجئ من عدم كما يروّج له العلم الزائف، بل هو بناء تراكمي منظَّم. فعلى سبيل المثال: عندما نتحدَّث عن قفزة النظرية النسبية لـ"أينشتاين" علينا أن نتذكر أن نربطها بما قبلها كهندسة "ريمان"، وإحداثيات "غاوس"، ورياضيات "هيلبرت"، وتحوُّلات "لورنتز"، وفضاء "منكوفسكي"، وفلسفة "بواناريه" الرياضية... كذلك عندما نتحدث عن نظرية "دارون"، علينا أن نربطها بما مهَّد لها بدءًا من تصوُّرات أصل النظام الشمسي عد "كانط" و"لابلاس"، ثم نظريات الجيولوجيا التي أرجعت عمر صخور الأرض لملايين السنين عند "هوتون"، والتشريح المقارن عند "كوفييه"، واكتشاف وتصنيف المتحجّرات عند "وليم سميث"، وانتقال الصفات عند "لامارك"، ونظرية انقراض الأجناس وصراع البقاء عند "بوفون"، والانتقاء الطبيعي عند "ويلز"... إنَّ النظريات العلمية الحقيقية لها تاريخ نسقي منطقي كأيّ فكر منتج، وليست وقائع معزولة ميتافيزيقية نحاكمها ونحكم بها من خلال منظورها الضيِّق.
وبالمقابل: تنطلق جميع أشكال وموضوعات العلم الزائف من مبدأ أساسي يبني عليه ترهاته، المبدأ هو: "من الأسهل أن نفهم العلم فهمًا سطحيًّا دون الدخول في تعقيداته". وبالتالي يسهل من خلال تبنّي هذا الشعار التكلم عن مفاهيم عامة غير مضبوطة وتحتمل الكثير، يروِّج لها إعلام يعتمد بقاؤه على الإثارة؛ فيجتزئ ليأخذ ما هو أكثر إبهارًا وتأثيرًا استهوائيًّا يمسّ الخيال ويداعب الرغبات بحتميّة تلعب على وتر التشويق- التسويق، دون أن يقرأ العلم الموجود في قلب هذه التقارير.
بهذه الحالة المشوَّهة لا نكون نتكلم عن علم، بل عن سياسة موجَّهة. ذلك أنَّ أغلب أشكال العلم الزائف تبنى على أساس خليط غير مضبوط بناء على توقعات ذات طابع انفعالي مبنيّة على الدين ومقدار بسيط من العلوم الطبيعية مع بعض الأرقام الرياضية، بنغمات توافقيّة ذات طابع أخلاقي عاطفي لا يقوم عل أيّ أسس تجريبية أو نظرية منطقية، وبالتأكيد يخلو من أيّ نزعة نقديّة، وبالطبع فإنَّ معدَّل إخفاق هكذا نوع من التوقعات هو عالٍ، لكن موجَّه بحيث يتم تركيز الانتباه على حالات محدودة، وهنا يدخل عامل الجذب وليس المعرفة، كون لتلك الطريقة تأثير ذو طابع نفسي إيحائي، ولو كان ذلك على حساب كل علمية ممكنة، حيث يفضِّل السياسيون والجمهور العام أنْ يسمعوا العلماء وهم يعطون أجوبة نهائيّة محدّدة (أبيض- أسود) ملؤها الثقة، مع توقعات أكيدة.
إنَّ إظهار الشكّ والقول إنَّ كل شيء سيكون على ما يرام، سيكون أقلّ جذبًا من قول أولئك الذين يبشِّرون بالقدر المشؤوم. وهنا سنذكر بعض الأمثلة التي تطالعنا بها كتب التاريخ:
يقول العهد الجديد من إنجيل متى (الإصحاح 16- الآية 28) إنَّ العالم سينتهي قبل موت الرسول الأخير، غير أنه لم ينته، وكان يوم الدينونة سيحدث بعد 1000 عام، وحين اقتربت نهاية العالم، لم يكن من الضروري بذل طاقة وجهد لزراعة المحاصيل، وكثيرون لم يزرعوا المحاصيل، وانتهى العالم بالنسبة لكثيرين منهم، ليس بسبب الدينونة، بل بسبب المجاعة التي روَّجها العلم الزائف.
وكانت بداية القرن السادس عشر زمنًا للتوقعات عن نهاية العالم، وعلى الرغم من الإخفاقات بكل التوقعات، إلا أنَّ الناس كانوا راغبين بالاعتقاد والتصديق بالتوقع التالي، منها توقُّع الطوفان الإنجيلي الذي سيصيب لندن سنة 1523؛ حيث غادر أكثر من 20 ألف من سكان لندن سكنهم نحو مناطق أكثر ارتفاعًا، لكن ذلك لم يحدث، فادَّعى المنجمون أنهم أخطئوا بالحسابات 100 عام، ومضت الأعوام المائة ولم يحصل شيء.
كذلك ادَّعى الكاردينال "نيكولاس دي كوزا" أنَّ نهاية العالم ستكون سنة 1704، ولم تأتِ النهاية. وأنتجت عائلة "برنولي" السويسرية مجموعة من علماء الرياضيات توقَّع أحدهم من خلال سلسلة رياضيّة سُمِّيت "أرقام برنولي" بأنَّ العالم سينتهي باصطدام مذنَّب بالأرض في 19 أيار/ مايو من عام 1719، وقد استمر العالم مع ذلك. وهذا ما نراه حاليًا مع أغلب ادِّعاءات متنبئين كوارث المناخ بناء على توقعات نماذجهم الحاسوبيّة التي لا يمكن بحال من الأحوال أن تحاكي بدقة ما يحدث في الطبيعة خلال ملايين السنين. وهم في الواقع لن يكونوا موجودين عندها ليبرِّروا إخفاقهم.
ولم يكن القرن العشرين مختلفًا كثيرًا، فكانت هناك توقعات عديدة عن كوارث بيئية أو سكانية ستحدث في نهاية القرن وكانت جميعها خاطئة، كما كان لدينا في الثمانينات، تواريخ مختلفة عن نهاية العالم، منها مثلًا: عندما أوشك زحل والمشتري على الاقتران في كانون الأول/ ديسمبر 1980، قيل إنَّ العالم سينتهي، لكنه لم ينتهِ، وأغلبنا عايَنَ الهستيريا التي رافقت توقُّعات انتهاء الألفية الثانية ليلة انتهاء عام 1999 وبداية عام 2000، لكن حصل الأمر ولم ينتهِ العالم ولم تتوقف الكمبيوترات عن العمل واستمرّ اليوم التالي كاليوم الذي سبقه.
ومن جهة أخرى، نجد صورة حديثة يروِّج لها أصحاب العلم الزائف، تقوم على أساس تكذيب منجزات العلم الحقيقي التاريخية. إنَّ التشكيك بمنجزات العلم من خلال مجموعة من الأفلام التشويقيّة المحبوكة بطريقة الجذب الهوليودي (تكذيب أو تشكيك بواقعة الصعود على القمر- التشكيك بإمكانية تصوير وقائع مادية أو أحداث كونية كالثقوب السوداء- التخويف بأفلام تأخذ طابع وثائقي عن كوارث مناخية قادمة...) وفي الواقع فإنَّ هذه الأشياء لا تمثِّل الطريقة التي يعمل بها العلم، بل هي طريقة ترويج وعمل تقوم بها أفلام هوليودية (ومشابهاتها) لتقدِّم نموذجًا إبهاريًّا لعلم زائف.
والملاحَظ أنَّ المشكلة الأساسية في القصص العلمية الزائفة التي يروِّج لها الإعلام، تكمن في أنها لا تتضمَّن أيّ أدلّة علمية على الإطلاق، إلا عبارات بالغة العمومية مثل "أظهرت البحوث، بيَّنت الدراسات..."، وذلك لأنَّ معظم هذه القصص أو الصحف والإعلام المشجِّع لها، في كل أشكاله المقروءة والمسموعة، عن حسن أو سوء نيّة، تنطلق من مبدأ أنَّ القارئ لا يفهم الجزء العلمي من المسألة، لذا فإنه يجب التخفيف من الجرعة الفكرية والعلمية في هذه الأخبار، مع ما يؤدّي إليه ذلك من ضرر بالغ بالمقدرة النقديّة وإحداث فجوة بين الفهم وعدم الفهم لمصلحة الإثارة والتشويق، واجتذاب الجهل وفق قاعدة برّاقة صحيحة في الواقع، لكنَّها قد تنطوي في مضامينها على تشويه هائل، هي عبارة "دمقرطة العلم".
ومن هذا المبدأ "دمقرطة العلم" تصبح المعلومات متوفرة بشكل يفوق الوصف، لكن دون أن تترافق مع أيّ أساس فلسفي نقدي أو منهجي علمي وفق اعتماد الحجّة السابقة من ضرورة تخفيف الجرعة العلميّة. وعندما تصبح المعلومات أكثر توافرًا بشكل لا يتوافق مع أهميّتها الفعلية في أكثر الحالات، فإنَّنا نقع في فخّ الانتقاء المعلوماتي بشكل يتوافق مع معتقداتنا وليس مع مدى اتساق ومنطقيّة ووجاهة المعلومة، ومن خلال ذلك يتمّ توجيه المعرفة التي قد تأخذ في أغلب الأحوال الطابع العلمي الزائف الذي سيقود إلى وعي زائف.
وبنظرة مدقِّقة سنجد أنَّ تقديم الأدلّة على الظواهر التي يروِّج لها العلم الزائف تقودنا إلى افتراض أنَّ أيّ شخص يمكنه ممارسة البحث العلمي من دون أيّ حاجة إلى تدريب أوّلي، وبينما نحصل على المعرفة العلمية التقليدية بصعوبة وجهد، وتندر فيها الاكتشافات المهمة جدًا، فإنَّ اكتشاف هذه الظواهر غير الطبيعية تبدو سهلة ولا تحتاج إلى أيّ جهد لاكتشافها. وينطوي هذا غالبًا على خطأ شائع يعتمد عليه مروِّجو العلم الزائف، هو الاستدلال الزائف. أيْ مغالطة الانتقال من مقدِّمة أو مجموعة مقدِّمات ذات أسس مرتبطة بالبحث العلمي، لتصل إلى نتائج لا علاقة لها بالمقدِّمات تسوَّق على أنها حقيقة، وللتوضيح سنذكر بعض الأمثلة:
1- في إثبات التخاطر عن بُعد يحدث الاستنتاج المغلوط وفق التالي:
- المخ مؤلف من ذرات (حقيقة علمية).
- الذرات مؤلفة من جسيمات (حقيقة علمية).
- الجسيمات تخضع للنظرية الكموميّة في الفيزياء، وبالتالي تخضع للارتياب الكمومي (حقيقة علمية).
- المخ مؤلف من جسيمات، وهو مصدر الأفكار عند الإنسان (حقيقة علمية).
- الأفكار تخضع بالتالي للنظرية الكمومية في عدم التحديد الارتيابي (خيال علمي لم يثبت حتى الآن).
- إذًا بالإمكان أن تؤثر أفكار شخص في شخص آخر (خيال علمي).
- النتيجة: النظريّة الكموميّة تثبت التخاطر (علم زائف) حيث لا علاقة هنا بين المقدِّمات المبنيّة على بحث علمي متَّسق منطقيًّا ومبني على أسس استقرائيّة، والنتيجة المرتبطة بافتراض يرتبط بالخيال والرغبة البشريّة غير المقاسة.
2- الثقوب السوداء في الكون.
- الثقوب السوداء موجودة في الكون وتمَّ رصدها (حقيقة علمية).
- قوانين الفيزياء الحالية لا تستطيع أن تشرح بدقة ما الذي يحدث داخل الثقوب السوداء (حقيقة علمية).
- هناك احتمال في حدوث تصادم بين ثقبين أسودين (حقيقة علمية).
- عند تصادمهما يحدث نفق لولبي قد يربط بين كونين (خيال علمي وافتراض لم يثبت حتى الآن).
- هذا النفق لا يخضع لقوانين الفيزياء المعروفة (خيال علمي).
- بهذا النفق هناك إمكانية للسفر عبر الزمن (خيال علمي).
- النتيجة: الثقوب السوداء تثبت فرضية السفر عبر الزمن التي حصلت لبعض الناس (علم زائف). حيث لا علاقة بين المقدمات المبنيّة على استقصاء وبحث علمي دقيق، والنتيجة المرتبطة بافتراضات وخيال علمي غير مُثبت.
• خاتمة
عندما سُئل الفيزيائي "فاينمان" عن الأطباق الطائرة قال لأحد المؤمنين بهذه القصص: "إنَّ وجود هذه الأطباق ممكن، ولكنه بعيد الاحتمال". فردَّ محاوره قائلًا: "إنَّ هذه إجابة غير علميّة إذْ ليس باستطاعتكَ إثبات عدم وجود الأطباق الطائرة، فكيف تزعم أنها بعيدة الاحتمال؟"، فأجاب "فاينمان" بأن الطريقة العلمية تحدِّد ما هو محتمل، وما هو بعيد الاحتمال، وليس ما هو مطلق اليقين. وأنَّ تقديره للموقف صحيح، فالعلم يتقدَّم بحدس مدروس تقارن محتوياته بالتجربة. ومهما قال معالجو الطب البديل، أو متنبئو الأبراج والخريطة الفلكية، أو مروِّجو المواد التي تقي وتعالج جميع الأمراض السارية وغير السارية، الشديدو الصخب، فإنَّ الأطباء الأكاديميين والبيولوجيين المختصين وعلماء الكون والفيزياء، يهتمّون يتقصّي وتقفّي الآثار التي تُفضي إلى نتائج، والتي تعبِّر عن بنية العالم الحقيقية وتنقذ ملايين الأرواح.
يمكن للجمهور الذي يقع ضحيّة العلم الزائف أن لا يفهم كيف يعمل العلم أو الفكر العلمي، وبالتالي يقع بسهولة ضحيّة الجهَلَة وأنصاف العلماء وأصحاب الدَّجل العلمي الذين يسخرون ممّا يجهلون، وينسفون تاريخ العلم التراكمي لمصلحة اعتقاد زائف. إنَّ الفرق بين الفهم وعدم الفهم هو الفرق بين الإعجاب والثقة والاحترام من جهة، والخوف والكراهية من جهة أخرى. تسطيح المعرفة هو كراهية وتزوير، وخوف من إمكانية البحث عن الحقيقة.
• المراجع:
1- تشارلز إم وين، أرثر دبليو ويجنر: الطفرات العلمية الزائفة، ترجمة: محمد فتحي خضر، كلمات عربية للترجمة والنشر، القاهرة، ط1، 2011.
2- بن جولديكر: العلم الزائف، ترجمة: محمد سعد طنطاوي، مؤسسة هنداوي للطباعة والنشر، القاهرة، ط1، 2015.
3- جوناثان سميث: العلم الزائف وادعاء الخوارق "أدوات المفكر النقدي"، ترجمة: محمود خيال، المركز القومي للترجمة، القاهرة، ط1، 2016.
4- إيان بليمر: السماء والأرض- الاحترار العالمي "العلم المفقود"، ترجمة: عبدالله مجير العمري، المنظمة العربية للترجمة ومدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية.
5- لويس وولبرت: طبيعة العلم غير الطبيعية، ترجمة: سمير حنا صادق، المشروع القومي للترجمة، القاهرة، 2001.