د. هاني حجاج
كاتب مصري
في فيلم "الأب" استطاع "فلوريان زيلر" أن يُخرج كل ما هو حميم وصادق في الممثلين، فكل حركة أنامل كان لها معنى، وكل تعبير صمْت نطَقَ بالصِّدق. ومع أنَّ من الشائع سقوط أيّ مُخرج مسرحي في هاوية الافتعال والانفعال عندما يقدِّم شيئًا للسينما، إلا أنَّ "زيلر" عرف كيفيّة زرع رسائله بمهارة على الشاشة، ناهيك عن السيناريو المكتوب بقلم حكَّاء من الدرجة الأولى، فجعل من المونولوج الطويل نقطة تشويق، ومن موضوع ضيِّق يَسهُل أن يُصيبك بالملل، جعل منه هنا شلالًا متدفقًا من الحيويّة.
فيلم "الأب" في الأصل مسرحية لمخرجه الفرنسي "فلوريان زيلر" حوَّلها إلى نص سينمائي بمشاركة "كرستوفر هامبتون" (مؤلف "علي ونينو" و"الأب الطيب" و"حكايات من غابات فيينا" ومعالج "بيت الدمية" المعروضة في برودواي)، ولعلّ المتابع لهذه الأعمال سيدرك فورًا أنَّ بناء فيلم "الأب" وأفكاره ورؤاه تنتمي بالكامل لـِ"زيلر"، فنستطيع الاعتراف بضمير مستريح أنَّ استعانته بـِ"هامبتون" هنا أقرب لترجمة طابع وروح النص للإنجليزية. على كُل حال، عَمَد كلاهما على جَعْل المُشَاهد يرتاب ويتساءل في النِصف ساعة الأولى من مُدَّة عرض الفيلم، ثم تنْبَعِث الإجابات بالتدريج وبحيث تُشارك في تجميع الأجزاء لتفهم. وليس قبل اللحظة الأخيرة تُدرك كل شيء.
التقنية الفنيّة التي استعان بها المُخرج لدمج الماضي في الحاضر تعتمد في الأصل على الابتعاد عن الكادرات الغريبة، والوصلات التي تتَّسم بالطرافة الفنيّة، والراكورات الجديدة المفاجئة، وخلافها من وسائل البلاغة في اللغة الفيلميّة -وليس كما يفعل بعضهم في أفلام كثيرة حين يستخفّون بجوهر هذه النقطة، فيجعلونا ننتقل فجأة من مكان إلى آخر ومن زمن إلى زمن كأنَّ الحيلة مطلوبة لذاتها- كذلك، فإنّ المخرج الفنّان يلتزم بالطابع الأدبي للفيلم وكأنه يبتعد بالمتفرِّج العادي والمحترف الذي أدمن اللغة السينمائيّة المجرَّدة عن الوسائل السينمائيّة المعروفة.
لقد هاجم "جورج سادول" وكثير من النقاد المعروفين أسلوب وضع الحوار ومزجه بالتعليق وعدم مطابقته في بعض الأحيان للصورة المعروضة أمام المتفرِّج، تلك الطريقة التي استحسنها بعض روّاد الموجة الجديدة التي أدخلها "زيلر" هنا في حنايا المبدأ الكلاسيكي الذي ينص على أنَّ السينما فن واقعي حتى لو تعمّد صُنَّاعه الابتعاد عن الواقعيّة (كما كان يفعل "آلان رينيه" مرارًا)، فنجد مثلًا لقطات لمناظر ثابتة، من وجهة نظر ذكريات الأب، تأتي فجأة بعد لقطات لمناظر متحركة، أو إيقاعًا سريعًا مصدره سخونة المونولوج في نفسه، يترك فجأة بعض المشاهد ليتبعه إيقاع بطيء مملّ عمدًا؛ إشارة لشكل حياته الخالية الوحيدة، أو نجد صورًا لا علاقة بينها تتوالى على الشاشة لتصدم المشاهد وكأنَّ المخرج يقصد بهذه الطريقة أن يُفسد على المشاهد انسجامه مع ما يعتقد هذا الأخير أنه أحداث الفيلم، ليرغمه على التفكير في مضمون آخر بعيد عنه، فمن أبرز معالم التَّوليف في هذا الفيلم ابتعاده عن أدوات الربط المعتادة التي يقول الكلاسيكيون عنها إنَّها من مستلزمات سلاسة التَّوليف، وبالرّغم من ذلك لا نشعر بأيّ صدمة من خلال تلك التوليفات المتعدِّدة المتعمَّدة.
برعت عمليّة المونتاج في الاستعانة بالموسيقى التصويرية (عازف الكمان "راينمار نيونر"، وإشراف موسيقي "جيلوم كليمنت"، والتأليف الموسيقي لـ"ديفيد منكه")، وفي الأستوديو ثم في المونتاج الرقمي صنع "زيلر" من جديد كل المناظر والمنقولات وقطع الأثاث التي كانوا يستخدمونها في مسرح هوديني بسينوغرافيا عالية (ديكور "كاثي فيذرستون"، مؤثرات بصرية "ماريا أندرياني")، فبينما كان يستطيع في المسرح أن يحقق مؤثرات لونيّة محدودة صارت تحت يديه –في الفيلم- باليتة ألوان لا حصر لها.
السيناريو مكتوب بقلم حكَّاء من الدرجة الأولى، المُخرج الفرنسي هو أحد أعظم كتاب السيناريو في عصرنا، بحسب وصف "التايمز"، كتب (المرأة الأخرى) و(ممنوع الإزعاج) و(فلوريدا) و(قلعة في السويد)، وهو هنا يدير كل مشهد ببراعة عجيبة تجعل من المونولوج الطويل (مشاهد "هوبكنز"؛ الأب) نقطة تشويق، ومن موضوع ضيِّق يَسهُل أن يُصيبك بالملل في عَرض آخر جعل منه هنا شلالًا متدفقًا من الحيوية.
أخرج "زيلر" كل ما هو حميم وصادق من "أوليفيا كولمان" (في دور الابنة آن، ظهرت في دور الملكة آن في "المُفضَّل"، ومسلسل "البؤساء"، و"الكتب السوداء")، "إيموجن بووتس" (لورا)، "روفوس سيويل" (بول)، و"عيشة ذاركر" (د.ساراي، ولعبت من قبل إيمليا في "عطيل"). كل حركة أنامل كان لها معنى، وكل تعبير صمت نطق بالصدق. وقد شاع أن يسقط المخرج المسرحي في هاوية الافتعال والانفعال عندما يقدِّم شيئًا للسينما، لكنَّ "زيلر" يفهم روح المسرح فعلًا؛ فعرف كيفيّة زرع رسائله بمهارة على الشاشة.
عزَّز "سير أنتوني هوبكنز" رؤية "زيلر" لحيرة الأب الذي يعاني من اضطرابات في الذاكرة يتبعها خلل في تواصله مع المحيطين؛ فيرفض مساعدة ابنته، ثم في محاولة لإضفاء معنى للمستجدات التي أحاطت به، يتشكك في نوايا الجميع. الممثل الجبار تناول كل انفعال ممكن وأخذ المُشاهد من تلابيبه وأقحمه في عزلته الخاصة. تُبادله لعبة الإتقان الممثلة المجيدة "أوليفيا كولمان" (ليس أقل من أوسكار!)، خِفَّة روح خفية وراء صلابة مَكِينَة، كيف لا وهي تقدم لحظة كتابة هذه السطور صوت (ليلي) في المسلسل الكارتوني سيمبسون وفي الوقت نفسه تلعب دور الملكة إليزابيث الثانية في (التاج)؟ وفي دورها هنا تريد الأفضل لوالدها لكنها تُعاني مع تفاقم حالته بشكل يومي بين ألزهايمر وبدايات فُقدان الذاكرة، ما بين الصبر والأمل والإحباط والوجع. كان الديالوج في كل مشاهدها مع الأب ثقيلًا مفعمًا بالشَّجن، ليس بالضرورة أن يُبكيك أو يثير تحفُّزك، لكنه في كثير من مواضعه آية في صِدق ردود الأفْعَال.
أكثر المَشاهد نراها من وِجْهة نظر الأب، بمعونة بعض الحيل السينمائية البارعة تختفي الموجودات وبعض أجزاء الديكور في المنزل، تتكرَّر بعض المواقف وتُستبدل الشخصيّات. أنتَ لا تعرف لماذا، وتظن في البداية أنها أخطاء راكور فادحة، لكنّ هذا مستحيل لأنّ كل شيء هنا مُحكم، إلا أنَّ المخرج قام بتصوير الفيلم بمنهج اللغز البوليسي، يتلاعب بالخط الزمني وتفاصيل الكادرات حتى يستحكم الغموض، وندرك في دهشة وأسى أنَّ هذه هي الحياة في عين وقلب مريض ألزهايمر المُسنّ. هل يمكننا اعتبار ذلك حبكة ملتوية "بلوت تويست"؟ نعم، لكنه سيجعلكَ ترى الفيلم كأنه قصة جديدة تمامًا في المُشاهدة التالية!
أداء "هوبكنز" هنا سماوي يستحق الأوسكار الثانية (فاز بالأولى عن دوره في الفيلم الرهيب "صمت الحملان")، يتقمَّص نفسه متصالحًا مع أيّ متغيّرات، بل إنَّ اسمه في الفيلم هو أنتوني أيضًا! لكنَّ لجان تقييم الجوائز الكبرى –كما هو معروف- لا ترتاح للأعمال السينمائية القادمة من عالم المسرح، وبالأخص إذا صنعها كاتب مسرحي، ونأمل أن يكون "زيلر" مع فيلمه (الأب)، عبارة عن استثناء يؤكِّد القاعدة!