بقلم "أنطوني هادن غوست"
ترجمة: مصطفى أحمد نورالدين
كاتب ومترجم من مصر
رسَمَ "داميان إلويس" ما لا يقل عن 200 استوديو فنّان، بما في ذلك استوديوهات "مونيه" و"سيزان" و"غوغان" و"فريدا كاهلو" و"بيكاسو" بالاعتماد على الصور والمُخيّلة. تحكي لوحاته قصصًا عن كل من هؤلاء الفنانين، وفيها محاولة لوصف اللحظات التي كان فيها الفنان في أقصى درجات إبداعه. في العام 2020 قال "داميان": أريد أن تمنح هذه اللوحات الأمل في هذه الأوقات العصيبة. هناك خسارة وحزن في كل مكان حولنا ويشعر الكثيرون بأنهم محاصرون في منازلهم. تقترب لوحاتي من المساحات الخاصة حيث استخدم الفنانون إبداعهم وخيالهم لتغيير الطريقة التي ندرك بها العالم".
كان والد "داميان إلويس" وجدُّه فنانين. يقول: "كلاهما ترك لي فراشيهما". لكن "إلويس"، الشاب البريطاني، ذهب إلى هارفارد مصمِّمًا على كتابة المسرحيّات. كانت الكتابة على الجدران بمثابة تغيير في قواعد اللعبة. يقول: "كانت اللوحات على جدران مدينة نيويورك حيّة وتتحوَّل كل يوم". كان هذا عام 1984.
بعد هارفارد، استأجره المخرج "سيدني لوميت" للعمل في فيلم. يقول "إلويس": "كانت وظيفتي هي التحكُّم في الحشود. كانت إحدى عمليات التصوير في محطة بنسلفانيا. أخرجتُ الجميع. وكان هناك "كيث هارينج" يعمل على ملصقات سوداء بالطباشير الأبيض. أخبرته أنَّ ما كان يفعله يبدو أكثر إثارة للاهتمام ممّا كنتُ أفعله". تحدَّث هو و"هارينغ" عن الكتابة على الجدران. يقول "إلويس": "لقد كان ودودًا ورائعًا للغاية". لكنَّ "هارينج" أصرَّ على أن يرسم "إلويس" لوحة قبل أن يتحدَّثا مرَّة أخرى.
سرعان ما حصل "إلويس" على مهمة أخرى. كان من المقرَّر استبدال منزل "لوميت" في ناطحة سحاب، لذلك كان خارج المكان وأراد أن يتأكد "إلويس" من متعلّقاته بأمان أيضًا. "اتفقنا"، يقول: "في اليوم التالي أدركتُ أنني أمتلك مفاتيح حجر بني مزدوج في شارع ويست 56". "أنا محظوظ جدًا! هذا هو المكان الذي يمكنني فيه رسم لوحة. بصفتي بريطانيًا، كنتُ غير مرتاح جدًا للخروج إلى الشارع وأن أرسم الكتابة على الجدران، لذلك كنتُ أرسم كل يوم في ذلك المبنى".
كان المبنى ضخمًا، وسرعان ما غُطي سطحه المسطّح بكتابات "إلويس" وكان مرئيًّا للغاية. انتشر الخبر وتمّ إخبار "روبرت فريزر"، تاجر لندن البارز، الذي كان في نيويورك ليجمع أوّل عرض بريطاني عن فنّ الكتابة على الجدران في نيويورك، عن هذا الممارس البريطاني. "كان صاحب الجاليري متشككًا". لا يوجد فنانو جرافيتي إنجليزي. لا يوجد فن جرافيتي في إنجلترا". لكنه أرسل مساعده "جيرارد فاجيوناتو" للتحقق من ذلك، وأبدى العمل باستخدام إبهامه. يقول "إلويس": "أحبَّ روبرت لوحاتي". بعد ذلك بشهرين، كان "إلويس" في المملكة المتحدة لافتتاح معرض أدنبرة الرئيس، "سوق الفاكهة".
ثم نزل "إلويس" إلى لندن والتقى بـ"جان ميشيل باسكيات" في معرضه الاستعادي في ICA، حيث كان لـ"روبرت فريزر" يد المساعدة. عرض "فريزر" على "إلويس" عرضًا فنيًّا للكتابة على الجدران في شارع كورك، "أريد سرد القصص"، لكنَّ "إلويس" قال لـ"فريزر": "لا يمكنكَ سرد القصص باستخدام علبة الرذاذ. سأذهب إلى باريس لأتعلم الرَّسم بفرشاة".
كان "إلويس" يتحدَّث الفرنسية بشكل هامشي، لكنه جاب أرصفة باريس. يقول: "في أوَّل يوم لي ذهبتُ إلى استوديو "بيكاسو باتو لافوار"، ولم يكن هناك شيء، لقد زال. في اليوم التالي ذهبتُ إلى حيث كان لدى "ماتيس" استوديو في كواي ميشيل. هذا المبنى لا يزال موجودًا، لكن لم أتمكَّن من تجاوز البوّاب".
"لكن في مركز "بومبيدو"، صادفتُ لوحات "بيكاسو" و"ماتيس" لاستوديوهاتهما جنبًا إلى جنب. جلستُ أمام تلك اللوحات لعدة ساعات. كنتُ أبكي لأنني كنتُ أدرك في تلك اللحظة كم أحبُّ الرسم. أحببتُ الخط والشكل واللون. أعتقد أنني كنتُ أفكر في أنَّ جدّي وأبي رسّامان وأنَّني كنتُ أرسم الآن. لم يكن شيئًا أردتُ فعله حقًا. لقد حدث للتوّ".
ذهب في اليوم التالي إلى متحف "جوستاف مورو" الموجود في الاستوديو المزدوج السابق لمستخدم الرموز الذي قام بتدريس "ماتيس".
جلس "إلويس" على سلَّم حلزوني لرسم المساحة. كانت لوحات استوديو "بيكاسو" و"ماتيس" لا تزال في ذهنه، وكان يعلم أنَّ "بيكاسو" قال ذات مرَّة إنَّ الطريقة التي يضع بها الفنانون أشياءهم تخبركَ كثيرًا عن هؤلاء الفنانين كما تفعل لوحاتهم. يقول: "لقد حققتُ إنجازًا". "أدركتُ ما كان عليّ القيام به. قرَّرتُ أن أطرقَ باب كل استوديو فنان يمكنني أن أجده وأسأل: هل يمكنني رسم استوديو خاص بك؟".
كان لـ"إلويس" مشروعه لكنه لم يعرف فنانين في باريس. ليس هناك أيّ مشكلة، يقول: "لقد مشيتُ في جميع أنحاء باريس. لا يمكنكَ أن تتخيَّل كم مشيت". وجَدَ أوَّل مرسم له في مبنى فارغ، وحدَّد مكانه برائحة زيت بذر الكتان، وتطوّر من هناك. "كنتُ أطرق أبوابهم وأطلب رسم الاستوديو الخاص بهم. كانوا ينظرون إليّ بارتياب... (حسنًا، حسنًا! إذا كنتَ تجلس بهدوء شديد في الزاوية). في نهاية اليوم، كان الفنان يُلقي نظرة. سيقول: (جيد جدًا. كما تعلم، إذا كنتَ تحبّ الفوضى التي أعانيها، فسوف تحب فوضى صديقي). وهكذا إلى التالي. وهذه اللوحات الصغيرة كانت تحكي قصصًا عن كل من هؤلاء الفنانين."
كان هذا مشروعًا لمدة عامين. عندما تمَّ ذلك، انتقل "إلويس" إلى لوس أنجلوس، وأنشأ استوديو، وتزوَّج، وشرع في مسعى مختلف تمامًا. لمدة سبع سنوات، عاش هو وزوجته "ليوان" في كولومبيا، رسما لوحات ضخمة للغابات المطيرة المهددة. عادا إلى لوس أنجلوس في عام 2000 عندما أصبحت كولومبيا خطيرة للغاية. يقول: "لقد تخلّصتُ من عملية اختطاف فارك". "عندما عدنا إلى لوس أنجلوس، كان أوَّل شيء فعلته هو شراء جهاز كمبيوتر. لأنه لم يكن لدينا أجهزة كمبيوتر أو هواتف أو أجهزة تلفزيون أو أيّ شيء هناك". عاد هوسه المبكر إلى الظهور. قال: "أوَّل شيء بحثتُ عنه على جوجل كان استوديو بيكاسو باتو لافوار".
ظهرَتْ تسع صور صغيرة على الشاشة. بدأ "إلويس" في الرَّسم منها، في محاولة لإعادة بناء استوديو دُمِّر قبل غزوته الأولى إلى باريس. يقول: "لكنني لم أستطع فهم شكل الاستوديو... ثم رأيتُ يدَ واحدةٍ من آنسات أفينيون في إحدى الصور. نظرتُ إلى الآخرين، فوجدتُ ذراع الرجل الآخر في صورة أخرى. لقد طبعت "آنسات أفينيون"، وفجأة تمكّنتُ من إرفاق جميع الصور معًا مثل أحجية الصور المقطوعة ورؤية شكلها. كانت تلك لوحة رائعة. أردتُ أن أكون ذبابة على الحائط وأرى ما يجري في استوديو أبطالي".
"هكذا بدأتُ"، يقول "إلويس" إنه رسم حتى الآن ما لا يقل عن 200 استوديو فنّان، بما في ذلك استوديوهات "مونيه" و"سيزان" و"غوغان" و"فريدا كاهلو". يقول: "ربَّما أكون الشخص الوحيد باستثناء بيكاسو الذي وطأت قدمه جميع استوديوهاته، ورسم في بعضها". إنه يأخذ كل أبحاثه معه، وأحيانًا يكون هو الشخص الذي يخبر شاغلي الفضاء الحاليين بالفنان الشهير الذي عمل هناك ذات مرة. "أخبرتُ امرأة في باريس أنَّ غرفة معيشتها كانت حيث اخترع بيكاسو التكعيبيّة، وامرأة أخرى أنَّ مكتبها هو المكان الذي طوّرت فيه ماتيس الفوفيزم. في العام الماضي، قمتُ بتحديد موقع استوديو ليختنشتاين الستينات في مدينة نيويورك، ولم يكن لدى الطالب الذي يعيش هناك أيّ فكرة عن فنّ البوب الذي تمّ إنشاؤه في غرفة نومه".
يعمل "داميان" أحيانًا من الصُّور، وأحيانًا، كما هي الحال مع "هيلما أف كلينت"، يلزم إعادة بناء تخيُّلي.
تُعرض هذه اللوحة لاستوديو "هيلما" في معرض "إلويس" في وحدة لندن في ميدان هانوفر. تبدو لوحة استوديو "جان ميشيل باسكيات" في شارع كروسبي بنيويورك كما لو أنَّ الفنان قد غمر فرشه وغادر. لوحة أخرى تصوِّر استوديو "أليكس كاتز". ساعد جيري سالتز في ذلك. وكذلك فعلت "بيتي تومبكينز". تُظهر اللوحات الفنية الأخرى مساحات عمل "نيكولاس بارتي"، و"جورجيا أوكيفي" في نيو مكسيكو، و"روز وايلي"، استوديو "لوسيان فرويد" الممتلئ بالنفايات، مع كلاب في النافذة، ومنزل "سي تومبلي" في جيتا.
مساحة "تومبلي" مليئة بالتفاصيل مثل صحيفة مفتوحة. يقول "إلويس": "ابن ساي، أليساندرو، صديق عزيز. كان ساي مهتمًا جدًا بالشرق الأوسط. كنتُ قد قمتُ برسم لوحة قبل استخدام خمس صور بولارويد صغيرة أخذها ساي من الاستوديو الأخير. كان هذا الاستوديو في منزله. كانت لديه مساحة تجارية كبيرة في مكان قريب، ولكن بعد ذلك، مع تقدُّمه في السن، بدأ العمل مرة أخرى في غرفة صغيرة أسفل منزله. سأعود إلى هناك وأرسم المزيد من اللوحات هذا العام بالتأكيد".
كثيرًا ما يشير الفنانون المعاصرون إلى الماضي، في كثير من الأحيان بشكل محبط. إنَّها هديّة "داميان إلويس" لعمل لوحات تقدِّم الحياة العمليّة لعالم الفن بالدفء والألفة.
يكتب "إلويس": يبدو الأمر وكأنه حظ نقي من خلال عدسة ما نعيشه الآن، حيث قضيتُ صيف 2019 في زيارة استوديوهات "ليشتنشتاين" و"فرانكنثالر" و"هارينغ" و"كاتز" و"روثكو" و"هيس" و"كوساما" و"باسكيات" و"كيلي" في مدينة نيويورك، واستوديو "تومبليز" في جيتا، واستوديوهات "روز وايلي" و"لوسيان فرويد" في لندن. منذ ذلك الحين، كنتُ مشغولًا برسم كل تلك الأماكن، محاولًا وصف اللحظات التي كان فيها هؤلاء الفنانون في أقصى درجات إبداعهم. إنه مشروع بدأ منذ سنوات عديدة. بدلًا من الذهاب إلى مدرسة الفنون، ذهبتُ إلى باريس لأتعلم الرَّسم. لم أكن أعرف أحدًا ولم يكن لديّ استوديو هناك، لكنّي قرأتُ نصيحة "ماتيس" للفنانين الشباب، بأن يذهبوا إلى المتاحف وينسخوا الأعمال الفنيّة المفضّلة. في أحد الأيام الأولى في باريس، زرتُ استوديو "غوستاف مورو" حيث تعلَّم "ماتيس" الرَّسم. كنتُ أرسم تلك المساحة عندما أدركتُ بالضبط ما سأفعله في باريس. على مدار العامين التاليين، تجوَّلتُ في جميع أنحاء تلك المدينة ورسمتُ لوحات لكلّ استوديو فنان يمكنني العثور عليه. أريدُ أن تمنح هذه اللوحات الأمل في هذه الأوقات العصيبة. هناك خسارة وحزن في كل مكان حولنا ويشعر الكثيرون بأنهم محاصرون في منازلهم. تقترب لوحاتي من المساحات الخاصة حيث استخدم الفنانون إبداعهم وخيالهم لتغيير الطريقة التي ندرك بها العالم.
• تعريف بالكاتب الأصلي للمقال:
أنتوني هادن- جيست (من مواليد 2 شباط/ فبراير 1937) كاتب ومراسل ورسام كاريكاتير وناقد فني وشاعر بريطاني أميركي يعيش في مدينتي نيويورك ولندن. يكتب بشكل دوري في المجلات الكبرى وله العديد من الكتب المنشورة بما في ذلك ألوان حقيقية: الحياة الحقيقية لعالم الفن والحفلة الأخيرة، ستوديو 54، ديسكو وثقافة الليل.
المصدر / https://whitehotmagazine.com/articles/pictures-from-pandemic-damian-elwes/4802