قصة: باسم سليمان
كاتب سوري
تحرَّكَ خطوة إلى اليمين، ثمّ استراح مُفسحًا المجال ليستقرّ قُربَه المتدحرِجُ من فوق إلى مكبّ الزبالة.
ضربَ الحذاء بربّاطِه صدغَيْه، بعد أنْ عادَ له اتِّزانُه الذي فقده بسبب الدَّحرجة من فوق، فطفق يزيل الغبار العالق به جرّاء السُّقوط عبر منحدر التلّة، قائلًا: لا بدّ، من أنّه كابوسٌ ألمَّ بي. إنّ القدمين مرآةُ الجسم والفكر، فلا ريْبَ أنّ هذا الكابوس انعكاس لألم قدمَيْ سيِّدي فيَّ! فمَن غيري يشعُر بالتَّعب الهائل للجسم الممتدّ فوقي، فتنتقلُ مشاعر الغضب إليَّ عبْرَ خطوات ثقيلة، وقدمين تكادان تمزِّقانني. كانت ليلة عاصفة، مَن دبّرها له؟ مَن استطاع أنْ يحفرَ أعمق منه؟ دخل إلى البيت، صَرخَ، وعَرَّ، وقاتَلَ الجميع وضرب الخادمة بي، عندما أفقَدَها جنونُه رشدَها، فتأخَّرت لتلتقطني من أمامه. أنا مَن سمعتُ الكلام الذي قيل له، وحوّله إلى ثور هائج: "أنتَ لم تعُد محلّ ثقة". فلم يملك إجابة إلّا بكلمة: "ولكن!".
***
إنّه يوم من الجحيم، رائحة الموت وحدها هنا؛ تنفذ إلى أعماق الجلد المدبوغ. الشمس كجمرة في العين، فيما أشباح سوداء تحوم في المكان، ودخان ينبعث من احتراقٍ بطيء.
إنّها أبديّة العذاب! صاح المتدحرِجُ مِن فوْق، وتابَعَ مُولولًا: "يا ويلي، ماذا فعلتُ حتّى أجني لنفسي هذا الدّرك!"، وأخذ يضرب بربّاطِه على صدغيه، وذهب في نوبة تذكُّر، كأنّه في مُرافعة أمام عدالة عمياء:
كنتُ لطيفًا على قدميه، وكأنّهما في غيمة نديّة، لم أسبِّب له رائحة كريهة، وجرابه كأنّه للتوّ قد خرج من الخزانة. لم تتعرَّق قدماه، ولم يحسّ بالحرارة ولا البرودة؛ أنا مَن كنتُ أتلقّاهُما عنه، أستقبلُ بصدري الأرض الجافّة والمبلولة وسواد الإسفلت. لم يعرف المسامير اللحميّة منذ ابتاعَني، فقد كنتُ مطيعًا، أستجيبُ لحركتِه، أتمسّك بالأرض، كمخلب سبْعٍ. ماذا فعلتُ لتتنكّر لي يا سيدي! أيَّ ذنب اقترفت؟
- هوّن عليكَ.
تكلّمَ مَن تحرَّكَ خطوة إلى اليمين. اِتَّسَعَت فوَّهة وُلوج القدم في الحذاء، وكأنَّ قدمَ فيلٍ حُشرت فيها لهول ما رأى قُربَه؛ هيكل جلديّ متقلّص على نفسِه كالخوف، متآكل الرّأس والصّدر، تسرَّبَت منه الكلمات كالدّهن الذي يُصبغ به عندما تُكثر منه الخادمة.
- لا، أنت وحشّ!
عادَ مَن أخذ خطوة إلى اليمين للقول: "هوّن عليكَ"، وهو يراقب طيرًا يعلو وينخفض وأشباحًا تعبث في فوضى المكان.
- لا لستُ ما تظنّ؟! ولستُ شبحًا، لكنّه زمن التأمُّل والتفكُّر قبل أن يصل هذا الاحتراق البطيء إلينا. ما زلتَ جديدًا، وهناك حياة أخرى تنتظركَ؛ لربَّما معرفة جديدة لتكفّر عمّا ارتكبَه صاحبكَ القديم، لو أنّك كنتَ قاسيًا على قدميه بمسمار لحميّ واحد فقط؛ لربّما تذكّر الأقدام العارية. لو لم تتشبّث بالأرض؛ لتَزَحْلقَ وسقَطَ من عليائه وأحسّ بمَن ذابت أقدامهم وأحذيتهم لكثرة ما مشوا وركضوا في زواريب الحياة.
أتذكّر، تمامًا، اليوم الذي اشتراني مالكي فيه، عندما هرم صاحبٌ لي وتمزّق صدره إثر ذبحة قلبيّة لكثرة الإجهاد، لم يتركه وحيدًا في محلّ الأحذية ليكون مصيره حاوية الزّبالة، وإكرامًا له، لبسه للمرّة الأخيرة إلى البيت، وخفّف له من حمله، فتحوّل إلى "شحّاطة". في البيت عشنا أيامًا سعيدة حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة، فرثاه بكلمات جميلة. كان حذاءً جيدًا، أمّا أنا، فقد خدمتُ لديه كحمار صبور، وعاملني جيدًا في أيامي الأخيرة، ولم يبخل عليّ بالدّهون، وأخْذي إلى الحذّاء. كانت حياة جميلة، فقد رقص بي في نجاح ابنِه، كذلك في زواج ابنته. لقد حميتُه كثيرًا من السُّقوط. وعندما كانت تخونني قدرتي ويتزحلق، كان يتأكّد من سلامتي. كان شرطيًا جيدًا لم يتأخّر عن إطلاق صفّارته، ويندُر أنْ حدَثَ ارتباك مروري أو حادث دهس في مكان وقوفه، حتّى إنّهم تأخّروا في وضع الإشارة الحمراء لجدارته في العمل. نعم أستطيع أنْ أفخر، لقد عشتُ أيامًا جيدة.
***
صمَتَ مَن تحرَّك إلى اليمين خطوة، فألسنة الاشتعال البطيء، قد بدأت تداعبه.
ما زال المتدحرِجُ من فوق فاغر الفم متوسّع العين، لم يحرِّك خطوة تجاه مَن صَمَت منذ قليل.
الأشباح، التي كانت بعيدة اِقترَبَتْ، ظَلَّلَه ظلٌ، امتدَّت يدٌ قاسية قذرة، التقطته، قلّبته ثمّ أحسّ برائحة نتنة، وقدم لزِجَة تدخل جوفَه، مع ابتسامة عريضة توسّطت وجه الشَّبح، ثمّ خطوة للتأكُّد، وتتابعت الخطوات.