قصة: ياسر ذيب أبو شعيرة
قاص أردني
استيقظَ أهل إحدى المدن على وجود مسمارٍ حديديٍّ منتصب بشموخٍ في أحد الشوارع الرئيسة في المدينة، كان المسمار مزروعًا في الشارع مثل سنبلة قمح، وسِنُّهُ مدببةً وحادّةً جدًا. وعلى الرّغم من وجود علامات الصدأ والاهتراء فيه، إلا أنه كان يقف بهيبة مستندًا على رأسِه المثبَّت بالأرض بقوة. وقف جمعٌ من الناس مندهشين، يتساءلون عن كنهِ هذا المسمار، وكيف وصلَ إلى قلب الشارع، ومَن الذي غرزه فيه بهذه الصورة؟
قال أحدهم: "أعتقدُ أنَّ مَن غرز المسمار في الشارع شخص مهمٌّ جدًّا، أو مسؤولٌ كبير، فلا أظنُّ وجوده جاء مصادفة، لذا؛ لا أنصحُ أن نحرِّك المسمار من مكانه، أو نقتلعَه، فإنَّ ذلك عمل له عواقب وخيمة". قال آخر: "ربّما أنَّ هذا المسمار من أصل الشارع، وقد برز منه اليوم بعد سنين قضاها تحته"، قال آخر: "لقد قرأتُ في إحدى الصُّحف أنَّ مساميرَ الحديدِ قد تنزل من أعلى فتصل إلى الأرض، وتثبت فيها وكأنَّها جزءٌ منها، وهذه المسامير قيّمة جدًّا، ومفيدة أيضًا للشارع وللعابرين فيه، ولا تجوز إزالتها، أو ثنيَها".
ظلَّ الناس يتهامسون مدةً طويلة عن حقيقة وجود المسمار في الشارع، ثم تفرّقوا بعد أن اتفقوا أن يتركوا المسمار مكانه ثابتًا كالمنارة، وأن يخبروا أهل المدينة بوجوده؛ لينتبهوا عند عبور الشارع أن يلمسوه، أو يدعسوا عليه، فلا تَنغرزُ سنُّهُ في قدم أحدهم، ولا يتأذَّى المسمار من إطارات السيارات، أو من مرور العربات التي تحمل البضائع، والخضار والفواكه إلى البقالات والمحالِّ التجارية على جانبي الطريق.
في حديقةٍ مجاورة للشارع كان الأولاد يلعبون كرة القدم فرحين بعد يوم شاقٍّ وطويل في المدرسة، فما يزال معلمُ الرياضيات، يُكثر من الشّرح، ويزيد في حلِّ أمثلة المسائل الرياضية. ركلَ أحدهم الكرة بقوّة فانطلقت في الهواء، ثم ما لبثت أن سقطت في الشارع على سنِّ المسمار، فسُمع صوت خروج الهواء منها بشدة، وكأنه انفجارُ قنبلة أو لغم. أسرع الأولاد إلى الكرة المثقوبة، فحزنوا كثيرًا، ولاموا صديقهم الذي ركلها وعاتبوه بعنفٍ شديدٍ. صاح أحدهم في راكلِ الكرة المشؤوم، ثمَّ وكزه بيده، فوقع على الأرض فانغرزتْ سنُّ المسمار في فخذه، وصار يصيح من شدة الألم. اجتمع الناس حول الولد المجروح، وحملوه إلى الطبيب ليعالجه، قال الطبيب، لم أنتهِ من علاج العجوز التي دعست على المسار إلا قبل لحظات. انهال الناسُ المتجمهورن في الشارع على الولد الآخر بالصراخ، يكيلون له وابلًا من اللّوم والعتاب، وهددوه بأن يُسجن عقابًا له على فعلته. قرَّر الأولاد جميعًا ألّا يلعبوا كرة القدم في الحديقة بعد اليوم.
ذات صباحِ، انطلقت سيارة الأستاذ خليل متجهة إلى المدرسة، كان الأستاذ خليل معلم اللغة العربية قد اشترى السيارة بالأقساط عن طريق أحد الوسطاء الجشعين، فقد باعه إياها بضعف ثمنها، لم تكن السيارة جديدة؛ ولكنها كانت تفي باحتياجات الأستاذ، تنقله من المدرسة وإليها، ويستعملها بعد دوامه سيارةَ أجرة، ينقل الناس من السوق إلى بيوتهم، ويشارك في الأعراس بنقل المدعوّين إلى صالات الأفراح، فيصدح زامور السيارة، ويرتفع صوت مسجّلها بالأغاني والأهازيج. خمسة دنانير جميلة جدا كعمل إضافي، يجبر كسر الراتب القليل، ويأتي ببعض الحاجيات إلى البيت والأولاد.
وفي أثناء عبور سيارة الأستاذ خليل الشارع الرئيس، لم ينتبه إلى الطريق جيدًا، فصعد العجل الأمامي للسيارة على سنِّ المسمار صعود الفارس على حصانه، فثُقب العجل وانسلَّ هواؤه بهدوء انسلال السهم من كبد العصفور، ومالت السيارة على جنبها الأيمن وكأنها فقدت خاصرتها في حرب. نزل خليل من السيارة يتفقد المسمار، فوجده كما هو شامخًا لم يتحرك قيد أنملة، ولم ينحنِ مقدار مليمتر واحد. التفت خليل إلى الجهة المقابلة، فشاهد أبا نضال صاحب محل الإطارات ينفجر من الضحك، سأله خليل عن سبب ضحكه الهستيري، فقال: "إنك خامس شخص يدعس على المسمار، ويثقب إطار سيارته هذا اليوم". عالج أبو نضال ثقب الإطار، وملأهُ بالهواء، وأخذ نصف دينار من الأستاذ خليل، ووضعها في علبة مثبتة على الطاولة. انطلق خليل إلى دوامه، يشتم نفسه، ويلومها على عدم الانتباه للطريق. وكز مِقود السيارة بيده، ودعس بشدة على دعسة البنزين، انبعث دخانٌ أسودُ داكنٌ من محرِّك السيارة الضعيف.
بعد حوادثَ عدّة تعرَّض لها أناس كثيرون من المارة والراكبين وسالكي الطريق، قرَّر أهل المدينة إيجاد حلِّ نهائيّ للمسمار، يقي الناس من ضرره المتكرر. توالت الاقتراحات والحلول والأفكار، ثم قرَّروا أن يبنوا حول المسمار حلقة مثل الدوّار باستخدام أحجار البناء البيضاء المتينة، ويضعوا لافتة كبيرة، يحذِّرون الناس فيها من الاقتراب من البناء، أو الوصول إلى المسمار؛ إذ يمكنهم الدوران، أو الالتفاف، أو السير على طرفي الشارع. لم يكن سهلًا على العربات التي تنقل الأشياء أن تدور حول المسمار، فقد سقط كثيرٌ منها بما يحمل من بضائع تحت ظلّ المسمار الشامخ.
استمرَّ الأمر كذلك مدةً طويلة، وعندما حلَّ الشتاء، صار الماء يتجمَّع حول المسمار، ما سبَّبَ اهتراءه، وزيادة الصدأ في قوامه، وخُشِي عليه أن يضعف أو يذبل أو يهلك، فينالهم غضبٌ ممّن لا يعرفون؛ أولئك الذين وضعوا المِسمار في شارعهم. اجتمع أهل المدينة، يفكرون في إيجاد حلِّ جذريٍّ لهذه المشكلة، كان أفضل الاقتراحات وأحسنُها ما قدَّمه رئيس المخفر، فقد كان أكثر الناس معرفةً بحال المسمار وأحواله، وأكثرهم انشغالًا به؛ إذ شهد كلَّ الحوادث التي حصلت في تلك المدّة. وافق الجميع على الاقتراح الذي سينهي معاناة الناس، ويوقف شكواهم، ويخلصهم من ذاك الهمّ الرابض على صدورهم.
انطلقتِ المعدات الكبيرة للشروع بفتح شارع جديد، بدأت الحفارات بالعمل، وشقّت الجرّافات الطريق على امتداد طويل، وحملت الناقلات الكبيرة التراب والحجارة بعيدًا، ثم شُقَّ طريق جديد، وصار جاهزًا للعبور عليه، والسير فيه بأمان. واكتمل العمل في مدّة قياسية.
ذات صباحٍ، استيقظ أهل المدينة على وجود مسمارٍ مزروع في الشارع الجديد.