قصة: إياد حمّاد
إعلامي وكاتب أردني
مجموعة من الصّبية يلاحقون مشرّدًا في وسط البلد، المشرّد يغطي رأسه، يهرب منهم، يشتمهم، يدعو عليهم، يتضاحكون، يتفرّقون، يبقى هو في مكانه، مقابل المُدرَّج الروماني، تحت درج يصعد إلى جبل القلعة. بعد سويعات مجموعة أخرى تلتفّ حوله تغنّي له: "يا مجنون... يا مجنون"، يُكيل لهم الشتائم، يحمل عصًا ملقاة على الأرض، يُطاردهم، يهربون، يتفرّقون. شاب وصديقه يتابعان المشهد المحزن، ثم يمضيان في طريقهما، يهمس أحدهما للآخر: "كان أفضل أستاذ جامعي، فقَدَ أولاده في حادث سير"، يتعاطفان معه لثوانٍ معدودة، ثم يختفيان وسط حشود المارّة.
"لماذا لا يتركونني بحالي؟"، سؤال يلحُّ عليّ، أنا تركتُ دنياكم فاتركوني، دعوني في مكاني الضّيق، هو لي الدّنيا بما رحبت. من مكاني هذا أدرُسُ التاريخ بعد أن كنتُ أدرِّسه، أرى الحضارات التي مرَّت ورحلت، أتحدَّث مع قائد العمونيّين، أتبادل معه الخطط للدّفاع عن المدينة في وجه الحيثيّين والهكسوس، أراه يتطاول في ربّة عمون ليُصبح أطول من العماليق، لكنه يسقط أمام الآشوريّين. ثم يرث البابليّون المدينة، أتناقش مع قائدهم لبناء برج بابل آخر في وسط المدينة، يرفض اقتراحي، أكرهه، ألعنه، لا أشفق عليه عندما يطرده الفُرس، أقف مع الفُرس ضدّ العرب. "مَن لا يُقدِّم لهذا البلد شيئًا ليس عربيًّا!"، الفُرس لم يقدّموا شيئًا أيضًا، رفضوا مقترحاتي، ندمتُ على وقوفي معهم. الإغريق والرومان قدّموا لي المُدرَّج، نفّذوا مقترحي تمامًا كما هو، لذلك لا أبتعد عنه، أبقى أدور في فلكه، أنا والمدرَّج نكمل الشكل ليصبح دائريًّا، ندور حول أنفسنا ونكتفي ببعضنا. الأمويّون قدّموا لي جبل القلعة على اتِّساعه، بنوا قصرًا للحُكم، أشرفتُ عليه لبِنة لبِنة، وأنا الآن على أعتاب جبل القلعة أحكم وسط البلد، أتابع احتياجاتها.
لم تكن مشكلتي إلّا مع النّاس، أنهار من النّاس تمرُّ في تعرُّجات وسط البلد، يدفع بعضها بعضًا، لا أحد يقف، مَن يقف سيأخذه التيّار معه، منذ أيام العمونيّين وأنا أكره مَن يمرّ من وسط البلد، لا أعلم لماذا لا يختفي النّاس من هذه البقعة؟ لماذا يستمرّون بالذهاب والإياب؟ وسط البلد لا يعنيهم إلا كمَمرٍّ ينفذون منه إلى أماكن عملهم أو سكناهم. هم ليسوا أهله، لا يفقهون جغرافيّته، ولا يأبهون لتاريخه الضارب في القدم، هم ليسوا أولياءه! هم عقبة في تاريخ هذا المكان. ما عاد الناس يتحدَّثون حول هذا المكان وتطويره، ما عادوا يتناقشون مع الأهالي، معي أنا شخصيًّا. يتعاملون مع تاريخ يمتد لسبعة آلاف عام بنظرة قاصرة، هم فقط يتعاملون بمبدأ ترحيل الأزمات، وتخفيف التجمّعات. يحتلون كل فراغ ليستبدلوه بعمران هزيل، لا يثبت مع الزّمان، ولا يناسب روح المكان، وسيمحوه التاريخ ليس غدًا، بل الآن!
النّاس وحوش، يقتلون بعضهم، يستخدمون أدوات قتل جديدة لم يسمع بها التاريخ من قبل، أدوات قتل مختلفة، لا يعدّونها أدوات قتل، يسمّونها أسماء كثيرة، يعتبرونها أيّ شيء إلا أنْ تكونَ أدوات قتل، أو وسائل قتل. وسائل نقل في ظاهرها وفي باطنها وسائل قتل، تحمل النّاس في أحشائها، وفي لمح البصر تنتزع أحشاءهم، أنا أكره النّاس الذين لا يأبهون بالتاريخ، وأكره الحافلات والسّيارات لأنّها تزوِّر التّاريخ، تزوِّر دورها الحقيقي، تخفيه تحت أشكالها المختلفة وألوانها المبهرجة. لا ناس هذا الزّمان ناس، ولا وسائل نقله وسائل نقل! اللّعنة عليهم أجمعين، أتمنى أن يختفوا جميعًا من الوجود، يرحلوا كما رحل غيرهم وبقيت آثارهم، لا أريد أن يشاركني في هذه المدينة أحد. حتى الصغار يؤشِّرون إلى مستقبل قاتم لوسط البلد، يكرهونني وأكرههم، أتمنى أن يزولوا قبل الآخرين.
حلّ الليل الجميل أخيرًا، حلّ الهدوء المنتظر، تفرّغت لمناجاة الآثار، للاجتماع مع القادة الكبار، النّقطة التي طرحتُها اليوم كانت الأهم على الإطلاق، "كيف نجعل المدينة خالية من الناس والمركبات؟"، تناولنا الموضوع، تداولنا جوانبه، اقترحوا حلولًا كثيرة، رفضتُها جميعها. حلولهم كانتْ بحسب عصر كل واحد منهم، أنا الوحيد العابر للعصور، المُطّلع على مرّ الدّهور، وهذه الأنهار تجري من تحتي؛ أنهار الناس. أنا أعرف ماذا تريد المدينة، وكيف أحقِّق حلمها. لم أركن إلى تطميناتهم أنّ غدًا سيشرق فجرًا جديدًا لا ناس فيه ولا مركبات، حاولوا إقناعي أنّهم هذه المرة سينجحون، فقد وحّدوا جهودهم. نمْتُ على أملٍ تمنَّيتُ ألا يكون كاذبًا.
صحوتُ على هدوء غريب، على أصوات عصافير لم أسمعها من قبل، على روائح زكية لا تخالطها روائح وسائل القتل. من مكمني تحرَّكتُ، وسط البلد في رابعة النّهار مهجورة، لا ناس، لا مركبات، تجوّلتُ وحيدًا، لم أرَ أحدًا. أخيرًا نجح القادة الكبار في تحقيق وعدهم. تنفَّسَت المدينة، تغيَّرَت ألوانها للأفضل، ظهرَت مفاتنها، برز جمالها الأخّاذ. عادت الأمور إلى نصابها، عادت البلد إلى حضن أحبابها، عادت إليّ بألقها وفَلقها! عدتُ الملك المتوَّج لها، والتاريخ مَن سيحكم عليّ، وأنا سأرضى بحكمِه، ليس لأنه يعرفني جيدًا، بل لأنه يحكم جيدًا على الأشياء والأشخاص.
في مكان بعيد عن وسط البلد، الشاب الذي همس لرفيقه عاد يهمس له: "مع بدء حظر التجوُّل بسبب فيروس كورونا، مَن سيحنّ على المشرّدين في وسط البلد؟".