فدوى العبود
كاتبة سوريّة
ماذا لو صدّقت والدة "أديسون" أنَّ طفلها غبيّ ولا مستقبل له! "أديسون" الذي كان شريد الذهن فاقدًا للسمع! وماذا لو أنَّ "كافكا" تخلّص من حساسيّته العالية ببترها أو تجاهلها، وراجع طبيبًا نفسيًّا برجوازيًّا وأخذ يفكر في شفاء نفسه ليتابع مسيرة والده التجاريّة! لقد استطاع بفعل لجلجة وجوديّة وعبر رؤية (بالغة الدقّة والرّهافة) أن يلمس سرياليّة الوجود ولا معقوليّته في حقيقتها، وأنْ يزيحَ السّتار عن اللاعقلانيّة التي تتخفّى تحت الإجراءات والعبارات العقلانيّة ظاهريًّا. وبرهن أنَّ ثمة أشياء يمكن رؤيتها فقط بعدسة تولد معنا.
لا نولد بمفردنا، فإضافة إلى الحبل السُريّ الذي تقطعه القابلة هناك حبال سِريّة غير مرئيّة تربطنا بذكرياتنا البعيدة (يونغ) أو بالميول والشرور الفطريّة الكامنة والمدمِّرة (فرويد). لكن إذا تجاوزنا علم النفس التقليدي، سنعثر على بصمة خاصة وُلدت معنا؛ رؤية فرديّة، "تحديقة خاصة" -يحبُّ بعض الفلاسفة أن يطلقوا عليها الحسّ السليم- وهذه التحديقة تختلف من فرد لآخر ولها أحيانًا مظهر عيوب نحاول إخفاءها، ولا يحتاج المجتمع إلى جهد كبير لقطعها فيما بعد بمقصِّ السُّخرية أو الاستغراب أو الرَّفض. ويحدث أن يتخلّى أحدنا عنها خوفًا أو كراهيةً -لثقل حملها-وليس جزافًا القول: "إنّه ومع كل شروق شمس تموت موهبة".
هل يمكن أن ننكر ما تسبِّبه الحساسيّة المُفِرطة، أو الميل للصمت والعزلة؟ يمكننا استحضار الوجه الشاحب لـِ"بروست" يتأمَّل من سريره فجيعة زمن مفقود أو زمنٍ ساديّ يفعل فعله في الناس والأشياء وهم غافلون، نقول: هل ننكر ما تسبِّبه من متاعب لأصحابها!
تجعلنا هذه المزايا نبدو للآخرين بمظهر غريب (أبله أو مرتبك) وبينما يشرب الرفقاء من نهر ليثي (النسيان) ويتابعون الطريق. يتغذّى فينا إحساس العجز عن مجاراتهم؛ فيقوى لدينا الميل للعزلة والبعد عن الرفقة.
لم يكن "كافكا" الابن المثالي لتاجر براغ الثري -الجزار سابقًا- كان فتىً هزيلًا مصابًا بالارتياب والحساسيّة العالية ونوبات البارانويا. هذه العيوب التي يتطوَّع عادة علم النفس البرجوازي -رافعًا عن ساعديه بشهامة لمعالجتها- وهدفه الأوَّل والأخير يتمثَّل في جعلنا -أشخاصًا متوسطين ومتشابهين- يبتغي تناسق أعشاب الحديقة. وحكمته المثاليّة: (الذكاء هو القدرة على التكيُّف).
لقد وضع "كافكا" البيروقراطية تحت عدسة مكبّرة -هي هذه الحساسية بالضبط-فوصف المكاتب المتشابهة، والموظفين الذين يعيَّنون من قبل القصر؛ والذين ينامون فوق الأسرّة التي تتوسط مكاتبهم المبقّعة ببقايا الأكل وفتات الخبز. ألا نتساءل كم من البشر ضاعت مواهبهم ضحيّة هذه المكاتب والموظفين! كم من التلاميذ أضاعوا معدّلاتهم، وكم من المرضى ماتوا نتيجة بؤس الإجراءات!
لقد صوّر الغباء البشري، والقسوة البشرية وأعاد لنا الإحساس بعدالة الأدب. فوضع عار الوجود تحت مجهر الذنب، وأثبت أنَّ فتح العينين على اتِّساعهما شرط غير كافٍ للرؤية.
ونتساءل ماذا لو كان "كافكا" قد تخلّى عن هذه الملكة ببترها أو تجاهلها. وراجع طبيبًا نفسيًّا برجوازيًّا وأخذ يفكر في شفاء نفسه ليتابع مسيرة والده التجاريّة! لقد استطاع بفعل لجلجة وجودية وعبر رؤية (بالغة الدقّة والرهافة) أن يلمس سرياليّة الوجود ولا معقوليّته في حقيقتها، وأن يزيح الستار عن اللاعقلانيّة التي تتخفّى تحت الإجراءات والعبارات العقلانية ظاهريًا. وبرهن أنَّ ثمة أشياء يمكن رؤيتها فقط بعدسة تولد معنا.
ماذا لو صدّقت والدة "أديسون" أنَّ طفلها غبيّ ولا مستقبل له! "أديسون" الذي كان شريد الذهن فاقدًا للسمع!
هل انتهى الأمر هنا؟
لا تتوقف الحياة -ولن تتوقف- عن إدهاشنا كل يوم وهي تقدِّم للحس السليم عِبرًا لا تنفد. وكما لا يسير النهر في خط واحد إلّا في الظاهر فقط، فإنَّ العشب لا ينبت بمستوى واحد، قبل أن تلمسه ماكينة جزُّ العشب.
لا نولد متشابهين -وهذه بديهيّة لا يجدر البدء بتأكيدها- ولكن يحدث أن نحمل ما يمكنني أن أطلق عليه "لجلجة وجوديّة". نعم يحدث أن يتلعثم وجودنا الشخصيّ أو نولد ونحن نعاني من العثرات الغريزيّة. وبهذا تنفتح ثغرة بيننا وبين الحياة من حولنا. وكما يصعب على المتلعثم أن يلفظ جميع الأحرف دون أن يثير السخرية، سيصعب علينا أن نتقبّل مفارقات كياننا وبالتالي نرفض أنفسنا.
هل كان "إدغار آلان بو" بحاجة إلى تجربة الموت والمعاناة كي يهدم جدران "عائلة آشر" وهي دلالة على جدران وجودنا المتصدِّع! الذي تنعكس عليه الظلال. لم يرَ "إدغار آلان بو" في الحياة سوى حوريّة تمرّ أمامنا كشبح ثم تغوص في أعماق نهر قاتم اللون. لقد كانت رؤيته الحادة أشبه ببرق عَبَرَ بسرعة وخلَّف وراءه أجمل أثر!
و"ديكنز" الذي استطاع بحاسة خاصة "رؤية الفراغ بين المرء وبين ذاته" فرسم ببراعة أشكالًا قَلِقة للوجود. قدَّم لنا شخصيات معطوبة كالسيدة "هافيشام" وشخصيات مُرابِيَه تعبد المال، "المال بمعنى الحماية لا المتعة"، وفي النهاية لمس عمق الشخصيّات الهشّة التي يمكن لحدث -مهما كان ضئيلًا- أن يُحيلها إلى حطام. لقد ولد "ديكنز" مزوّدًا بحاسة لرؤية هذا الفراغ.
هل يحق لرجل أن يبكي أمام نهر؟ ألا نعتبره مجنونًا؟ لكن "هيراقليطس" بكى أمام نهر يتغيّر وصاغ قانونه "لا نستطيع أن نستحمَّ في مياه النهر مرتين". إنَّ نبتة منحنية لهي نبتة شاذّة حين يكون الزرع كله بجذع مستقيم، لكن ماذا لو كانت تستعدّ لطرح وفير من الثمار!
هذا يجعلنا نفكر قليلًا في وهم السَّعي نحو الكمال، أو التوافق لتلافي ما نحسبه عيوبنا. قد يكون النَّقص كمالًا لو فكّرنا فيه ويقدِّم لنا التاريخ أقسى الأمثلة (حيث صدرت المجازر الكبرى عن المفتونين بالكمال)!
إنَّ حساسية "فان كوغ" وحدّة طبعه عكست لنا ألوان الوجود المبهرة، كما أنَّ طالبًا كثير الشرود قد يستحق اللوم من والديه أو مدرِّسيه، لكنَّ هذا الطالب الذي له هيئة أبله ربّما يبدع لنا أعمالًا كثيرة، ولنتخيَّل عناوين بعضها؛ ما رأيكم بعنوان (الحارس في حقل الشوفان)، أو قصص عن (اليوم المرتجى لسمك الموز)! عرفتم قصدي إنه "ج.د.سالنجر"، ولعلَّ الأمثلة هنا لا تنتهي حول هذه الحاسة التي تظهر كنتوءٍ في كياننا كله وفي نظرتنا وصميم وجودنا. فنظهر للآخرين كمعطوبين يستحقون الرفض، وعندئذ سنحاول جاهدين سترنا عن أعينهم وأعيننا!
تُعلِّمنا الطبيعة أنّ التواء غصن شجرة يمكن أن يعني رسالة ترحيب بنبتة زاحفة ستتابع نموّها لتصل الغصن فتتفتّح فوقه! العيش كالآخرين مختلف عن العيش بينهم ومعهم. فالأول يقتضي الذوبان والثاني بقتضي الندِّية والقبول.
لقد حرص علم النفس الكلاسيكي على وضع روائز للذكاء وابتكار حدود نهائية تحصره في "القدرة على التكيُّف" بينما صدرت أعظم الأعمال الأدبيّة عن أشخاص (غير متكيفين)، وحتى الابتكارات العلمية قدَّمتها عقول جميلة لمن لم يستطع أحد فهم رهافة أرواحهم وقوة الحدس لديهم والأسئلة غير المتوقَّعة التي تؤرِّق وجودهم. ألم يحطِّم "نيتشه" النسق التقليدي الكلاسيكي بكتابة شذريّة مفتّتة!
ربّما على كل منّا أن ينظر بانتباه إلى تلك "التحديقة الرائعة الخاصة التي وُلدت معه" ولو بدت غريبة. وأن نتوقَّف عن النَّظر لها باعتبارها عيوبًا، بل طريقة في الوجود. وهي برهان ناصع على أنّ الطبيعة ليست عمياء وهي تعرف كيف تتدبر أمرها. فتحوِّل البذرة إلى شجرة ثم تشكر الأخيرة -البذرة الأم- بمضاعفتها في قلب كل ثمرة!
"بودلير" يلمس بلمحة بصر هذه النقطة من الحساسيّة العالية ويخرج عن المعنى المألوف للذاكرة (إنَّ الذاكرة الحقيقيّة، من الزاوية الفلسفيّة، لا تكمن على ما أعتقد إلّا في تخيُّل حاد جدًا. سهل الاستثارة وقادر على دعم كل إحساس).
نولد مع سِماتنا ثم يرافقنا الخوف (الخوف من أحكام الآخرين، من حساسيتنا، من اختلافنا) ويحدث أن نعيش في مكان لا يتسامح مع هذه السمات والعقوبة المخففة هي السخرية. وعلينا في كل لحظة أن نخفى ذلك لنظهر متكيِّفين، ومثاليين ومحبوبين... وقد نجهد لقتل مزايانا وإعدامها يوميًّا بمشنقة الأحكام القاسية؛ وهذا حالنا الذي نوجد عليه فنكون (متلعثمين أو ميّالين للعزلة أو مرتابين، عشاقًا للوحدة أو مفرطين في الكلام والتعلُّق؛ منحازين للصَّمت والظلّ أو للشُّرود). علينا أن ندافع عمّا يعتبره (الآخرون) عيوبًا وكأنَّها مزايا! هذا الدرس الأوَّل الذي نتعلّمه من متابعة سِيَرِ الناجحين والمتفرِّدين.
إلى الذين وُلدو تحت نجم متلعثم "عيوبنا في بعض الأحيان ليست سوى مزايا" إنْ لم تتطوَّر في سياقها الذي وُجدت من أجله، ستعود لتظهر على هيئة كوابيس، وإخفاقات سيزيفيّة لا تنتهي!