عارف عادل مرشد
باحث وأكاديمي أردني
رواية "إخوتنا الغرباء" لأمين معلوف هي الصيغة التخيُليّة المتفائلة لكتابِه الفكريّ "غرق الحضارات"، ويتخيَّل فيها عالمًا على شفا حرب نوويّة يُنقَذ في آخر لحظة من طرف مجموعة بشريّة لم يكن أحد يتوقَّع وجودها. ويرى كاتب هذا المقال أنَّ أمين معلوف في "إخوتنا الغرباء" يخسر شيئًا من شخصيَّته الروائيّة على حساب عالم الفلسفة والفكر، كما تبرز شخصيّة معلوف فيها إلى حدّ اليوتوبيا، فهو يريد حضارتنا مثل ما يتمنّى أن تكون: أخلاقيّة، ذات قدرات علميّة خارقة، يسودها الخير، ولا تنتظر مقابلًا لِما تقوم به من أعمال لصالح البشريّة.
"كم هو محزن أن نرى أممًا كبيرة تتسوَّل قدرًا إضافيًّا من المستقبل"
إميل سيوران (1911-1995)
الرِّواية فنّ له حرفيّته وأحكامه سواء في أسلوب السرد أو البناء الدرامي أو رسم الشخصيات أو شكل الشخصيات الروائية. وعلى الرغم من أهمية هذه الأصول الفنية إلّا أنَّ الرواية بالمحصلة ما هي إلّا موقف يتخذه الرِّوائي في مواجهة العالم الذي يعيشه، لأنَّ الرِّوائي مزيج من الفنان والحكيم والفيلسوف والمؤرِّخ والطبيب النفساني، ولديه رغبة جامحة في أن يعيد بناء العالم ليجعله أجمل وأفضل. وهو لا يزعم أنه يقارع أهل القرار السياسي والثروة في قدرتهم على التغيير، فهو يعمل على تغيير العالم على مهل وبطريقة غير مباشرة. وهذه الرغبة لديه في إعادة بناء العالم ليست مبنيّة على خيالات وأوهام وتمنيات ورديّة، فهي تنبع عند الروائي من وعي عميق بالتاريخ والاقتصاد والسياسة والمعتقدات والعادات والتقاليد؛ لذلك نجد أنَّ الروائي يمتلك قدرًا من التفاؤل يمنحه الأمل في إصلاح الواقع وتطويره -"فتشاؤم العقل لا يقاومه إلّا تفاؤل الإرادة" وفق "أنطونيو غرامشي"- ويبقى مهمومًا بالبحث عن عوامل الإصلاح، التي يكفيه فقط أن يشير إليها من بعيد، أو يلقى شعاعًا من نور فنّه وابداعه عليها، لبعث الهمم والأمل في النفوس.
يجسِّد أمين معلوف (1949) الروائي والمفكر الفرنسي من أصول لبنانية في أحدث رواياته "أخوتنا الغرباء" عالم اليوم الذي نعيشه وسط الجائحة، على الرّغم من تأكيده غير مرَّة على أنه كتبها قبل الوباء مباشرة، ليعود ويؤكِّد من جديد أنَّ الرِّواية في نهاية المطاف ما هي إلّا "موقف من العالم".
صدرت الرِّواية بالنسخة الفرنسية أواخر العام (2020)، وأصدرتها دار الفارابي في بيروت بنسختها العربيّة أوائل شهر آذار/ مارس من العام الحالي، بعد أن قامت الدكتورة نهلة بيضون بترجمتها من الفرنسية إلى اللغة العربية.
"إخوتنا الغرباء" هي العمل الروائي التاسع في مسيرة أمين معلوف، وتأتي بعد آخر كتبه الفكريّة "غرق الحضارات" (2019) الذي عبَّر فيه عن مخاوفه من المخاطر المختلفة التي تتهدَّد العالم المشحون في النزاعات والظلم والحروب، في ظلِّ انهيار المنظومة الأخلاقية والإنسانية وتخلّي القوى العظمى عن دورها في إنقاذ العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية.
فالمأزق الحضاري الذي تعيشه البشرية في هذه اللحظة التاريخية متمظهرًا في: سباق التسلح النووي، تحكُّم الفضاء السيبراني، عجز العلم عن معالجة الأمراض القاتلة، والارتباك العالمي في مواجهة الفيروسات المفاجئة، هو ما تناوله معلوف في هذه الرِّواية.
فـَ"إخوتنا الغرباء" هي الصيغة التخيُليّة المتفائلة لكتاب "غرق الحضارات"، التي يتخيَّل فيها معلوف عالمًا على شفا حرب نووية يُنقَذ في آخر لحظة من طرف مجموعة بشريّة لم يكن أحد يتوقَّع وجودها. فتفكير معلوف وطريقة طرحه في هذه الرواية يُظهر ميزة غريبة له يمكن أن نسمّيها، في غياب مصطلح أفضل، "البائس البهيج" أو "المتشائم البهيج" وهو الطرح الذي يتكرَّر مرارًا، وبتنويعات مختلفة في أغلب كتاباته، الأدبية منها والفكرية، وهذا الطرح يتلخّص في وجود شيء فظيع، وشنيع، غير أنه، في تلك الشناعة، تكمن بذرة خلاصه بطريقةٍ ما. ففي روايته هذه يتخيّل معلوف مجتمعًا مختلفًا عن عالمنا المعاصر الذي يتَّجه نحو الأسوأ، فهو يتخيّل عالمًا على شفا حرب نووية يُنقَذ في آخر لحظة من طرف مجموعة بشريّة لم يكن أحد يتوقع وجودها، كما أسلفنا. فمعلوف يريد في "أخوتنا الغرباء" أن يقول لنا إنَّ جنسنا البشريّ لديه القدرة على إنتاج شيء غير متوقَّع تمامًا. صحيح أنَّ هذه الرواية هي بالمحصلة عمل عن الحنين واليوتوبيا، لكنها محاولة من معلوف يخبرنا من خلالها بأنَّ الأمل ما يزال حيًّا في إصلاح عالم فَقَدَ صوابه.
• وقائع الرِّواية
ربَّما يكون أجمل ما في الرواية هو قراءتها بدل الكتابة عنها، فلطالما قيل "إنَّ أسوأ ما يمكن أن يحدث مع الموسيقى هو الكتابة عنها بدل الاستماع إليها". إلّا أنه يمكن إيجاز رواية "إخوتنا الغرباء" -تقع الترجمة العربية لها في 324 صفحة- التي كتبها معلوف في قالب يوميّات على امتداد شهر من دون تحديد السنة (من 9 تشرين الثاني/ نوفمبر إلى 9 كانون الأوّل/ ديسمبر) في الآتي:
رسام اسمه "ألكسندر" أو"ألك سندر" يعيش في جزيرة صغيرة اسمها "أنطاكية" على ساحل المحيط الأطلسي، ورث الجزء الأكبر منها عن أبيه، حيث تفرَّغ للرَّسم بعد أن أكمل دراسته في القانون والاقتصاد، وراح يبيع رسوماته إلى منابر إعلاميّة، وبعد أن كان يعتقد أنه لوحده في هذه الجزيرة يكتشف أنَّ هناك شخصًا آخر يشترك معه في سكن الجزيرة، سيدة تُدعى "إيف- سان جيل" سبق أن أصدرت رواية ذاع صيتها عنوانها "المستقبل لم يعُد يسكن على هذا العنوان"(ص119)، تبدأ علاقته بها عندما تتقطع ذات ليلة كل وسائل الاتصال، وعبر صديقه القديم "مورو" الذي يعمل مستشارًا لرئيس الولايات المتحدة الأميركية، يكتشف أنَّ هذا الانقطاع للاتصال هو ظاهرة عالميّة وليست فقط في جزيرته الصغيرة، ممّا يدفع بـِ"ألك" للظنّ أنَّ سبب هذا الانقطاع هو كارثه نوويّة بسبب أنَّ المرحلة السابقة لهذا الانقطاع كانت مرحلة توتُّر عالمي مع التخوُّف من حرب نووية، فيخشى "ألك" أنَّ هذا ما حدث، وفي الحقيقة ما حصل هو أمر آخر، لم يكن هو أو غيره يتوقعه، وهو أنَّ اللحظة التي سبقت اندلاع حرب نووية، حصل فيها شيء غريب منع من وقوعها، وهو تدخُّل أمّة لم نكن نعرف نحن البشر أنها موجودة بيننا، وتأتي إلينا هذه الأمّة بأمل وتغيير جذري في كل نظرتنا إلى العالم، هي أمّة تعود إلى الحضارة الإغريقية، مطلقًا عليها معلوف اسم "أصدقاء إمبيدوقليس"(ص92) -الفيلسوف اليوناني في فترة ما قبل سقراط- وعلى شكل أحداث وردود فعل تأخذه الرواية بين "إخوتنا الإغريق" والولايات المتحدة الأميركية باعتبارها القوة العظمى في عالمنا المعاصر، يسعى "ضيوفنا غير المدعوّين"(ص290) إلى برهنة "الإخوة"، بمستشفياتهم العامة التي تشفي من جميع الأمراض، وتقهر الموت نفسه، عبورًا بآمالهم في الشفاء بدءًا من الرئيس الأميركي، واستقرارًا في فضاء الجزيرة التي تنتهي فيها الرواية بمغادرة "الإخوة" تاركين رسالة للبشرية يسألونها فيها إن كانت مستعدّة للباقي، فيما أثمرت علاقة "إيفا" بـِ"ألك" بحملها منه، فكأنّما الحياة ستبدأ للمرة الأولى بالأمل في ظلِّ السَّلام.
• ثيمات الرِّواية
يمكن إيجاز الثيمات الرئيسة في "إخوتنا الغرباء" بثلاث ثيمات هي:
الأولى: تقوم على تساؤل حول الدافع لاستحضار معلوف الحضارة الإغريقية، وجعلها محور الرواية، فمعلوف يُعيد كل أوجه الحضارة إلى الإغريق، من العلوم إلى المسرح والديمقراطية والفلسفة، بما يمكن أن يُصطلح على تسميته "المركزية الإغريقية" التي يرى مفكرون كثر أنَّها مبالغ بها، وأنَّها تنطلق من خلفيّة أيديولوجيّة تتجاهل مساهمات ثقافيّة هائلة قدَّمتها حضارات عديدة أخرى قبل الإغريق وبعدهم.
وربّما أراد صاحب "صخرة طانيوس" باستحضاره "المعجزة الأثينية" أن يفتح أعيننا على المثال الحيّ الذي يقدر أن ينتشل البشريّة من أزمتها الحاليّة، والذي من خلاله قدَّم رسالة مبطّنة لقادة العالم ومفكِّريه ومبدعيه مفادها، أنه لا يوجد شيء له أهميّة في حضارتنا المعاصرة، بقدر أهميّة العلم والتفكير، وجهود العلماء والمفكرين، القادرين على تدبير أمور البشر، مع تأكيده على أنَّ آلية المنظومة الرأسمالية النرجسية وغير المستنيرة، لم يعُد يوجد لها فائدة تُذكر.
الثانية: تناقش الرواية معضلة كبرى يمرُّ بها عالمنا المعاصر هي؛ أنَّ العولمة، على الرّغم من أنها غدت منصّة عالمية واحدة للبشرية جمعاء، إلّا أنها لم تجعل أبناء البشرية أقرب إلى بعضهم بعضًا، بل دفعتهم إلى البحث عن ما يميّزهم عن بعضهم بعضًا. وكأنَّ معلوف أراد أن يقول لنا: صحيح أننا غدونا نشبه بعضنا أكثر فأكثر، ولدينا الرؤية ذاتها للعالم، ونستخدم الأدوات ذاتها، ولدينا المعرفه ذاتها، لكننا بقينا نتمسَّك باعتقادنا أنَّنا مختلفون تمامًا، وأنَّنا أقرب إلى أجدادنا من قربنا إلى بعضنا بعضًا، فنحن لا ندرك تأثير جيراننا الذين يعاصروننا، ونظلّ نعتقد أنَّ أجدادنا وأسلافنا أكثر أهميّة في حياتنا.
هذا الاستحضار للماضي في قلب الحاضر، يطلق عليه معلوف في كتاباته الفكرية المتعددة مُسمى "ثنائيّة التوجُّه الرأسي مقابل الأفقي"، في الوقت الذي يجب أن تتعايش فيه البشرية مع بعضها بعضًا، وأن يكون التأثير الحقيقي نابع من داخلها تجاه أبنائها بشكل أفقي متبادل، نجد أنَّ العكس هو ما يحدث، بحيث يطغى على البشرية التأثير الرأسي أو العامودي على الأفقي. وهذا الوضع وفق معلوف يُعدُّ أمرًا طبيعيًّا جدًا، لعدم مواكبة تطوُّرنا الذهني للتطوُّر العلمي والتكنولوجي، فنحن ما زلنا غير قادرين على التعامل مع سرعة التطور التقني، لذلك تجدنا نحاول أن نحمي أنفسنا بالقول إننا لسنا متقاربين جدًا، وما زلنا مختلفين عن بعضنا بعضًا، وسيظلّ هذا التأكيد على الهويات المختلفة -وفق معلوف- هو الاتجاه الأقوى في عالمنا المعاصر على المدى القصير، مع اعتقاده بأنَّ العالم على المدى الطويل يتجه نحو توحيد الجنس البشري، الذي سيصبح يومًا ما أمّة واحدة من شعوب مختلفة تمامًا، لديها الشعور بالمصير المشترك. فالخطاب الرِّوائي والفكري عند أمين معلوف يصدر عن نظرة إنسانويّة للتاريخ البشري، تقفز فوق الانقسامات القومية والدينية والسياسية، خطاب يجدِّد فيه معلوف إيمانه بمستقبل أفضل للبشريّة.
الثيمة الثالثة والأخيرة للرواية، تركز على تأثير وسائل التقنيات الحديثة على حياتنا، ففي عالم أصبح فيه كل فرد من سكانه يعتقد أنه يمتلك الحقيقة، يصبح التساؤل المطروح هو: كيف لنا أن نلتقي ونتمكن من العمل على مواجهة التحديات الكبيرة التي تهدد الجنس البشري؟ فكأنَّ "معلوف" أراد أن يقول لنا في روايته: إنَّ الأدوات التي توفرها لنا التقنيات الحديثة يأتي معها دليل الاستخدام الفني لهذه التقنيات، لكنها تخلو من دليل الإرشاد الأخلاقي والاجتماعي لاستخدامها، وعلينا نحن أن نبتكر مثل هذا الدليل، عن طريق دمج وسائل التواصل الاجتماعي، وجميع التقنيات الجديدة في حياتنا عبر ثقافة الحوار وتقبل الرأي والرأي الآخر. أي أنَّ علينا أنْ نتعايش مع هذه التقنيات بشكل يؤدي إلى دمجها في حياتنا الديمقراطية. قد يستغرق ذلك الأمر وقتًا، لكننا لا نستطيع أن نتجنب أو نمنع التعامل مع هذه التقنيات، فهي تتيح لكل واحد منا المشاركة في التفكير، وحتى في اتخاذ القرار في مختلف المجتمعات والدول، وهذا أمر مهم جدًا، إلّا أنه لا بد من الحرص على أن يصبح استخدام هذه التقنيات مندمج في حياتنا الديمقراطية، مما يعزز بالمحصلة من محاولة إيجاد أفضل السُّبل لمواجهة التحديات التي تواجه الكوكب البشريّ.
وفي الختام، يمكن القول إنَّ "إخوتنا الغرباء" قد لا تعكس جانبًا كبيرًا من الإبداع الرِّوائي الذي عوَّدنا عليه أمين معلوف في رواياته السابقة، وبالأخص روايته "ليون الأفريقي"(1986)، ففي "إخوتنا الغرباء" يخسر معلوف شيئًا من شخصيته الروائية على حساب عالم الفلسفة والفكر. فهي تحتوي مساحات واسعة لكل أشكال الفانتازيا والمنطق والسياسة والفلسفة، فـ"إخوتنا الغرباء" بقدر ما تحتوي على عناصر من الخيال العلمي، بقدر ما تنتمي إلى الواقعية، وبقدر ما هي وجودية فلسفية، فإنها سياسية أخلاقية، وبين الخيال والواقعية، تبرز شخصية معلوف في "إخوتنا الغرباء" إلى حدّ اليوتوبيا، فهو يريد حضارتنا مثل ما يتمنّى أن تكون: أخلاقيّة، ذات قدرات علميّة خارقة، يسودها الخير، ولا تنتظر مقابلًا لِما تقوم به من أعمال لصالح البشريّة.
هذه هي الرِّسالة المركزيّة التي يسيّرها معلوف على طول روايته، واضعًا إياها على لسان أحد "أصدقاء إمبيدوقليس" الملكة "إلكترا": "إنَّ المسألة محسومة بالنسبة إلينا نحن أصدقاء إمبيدوقليس، وماذا عنكم، أيها الإخوة الذين لقيناكم؟ هل أنتم على استعداد لاعتبار الموت عدوكم الوحيد؟ أجل، الموت، الموت وحده. لا القوى العظمى الغريمة، لا الشعوب الأخرى، لا الأعراق الأخرى. لا نحن. الموت فحسب. إنه العدو الوحيد الذي يستحق أن يُقاتَل، ويُدحر، ويُهزم. هل أنتم على استعداد لإعادة النظر في أولويّاتكم، وفتح صفحة جديدة، معنا، وفيما بينكم؟"(ص320).