د. دلال عنبتاوي
كاتبة وناقدة أردنية
في كتابه "رشدونيوس" عملَ راشد عيسى على سرد سيرته الذاتيّة الأدبيّة بالانحياز المُطلق للشِّعر. فاتَّكأت تلك السيرة على سرد الأحداث الشخصيّة والخبرات التي مرَّ بها الكاتب، وظلّت تكشف عن العلاقة الخاصة ما بين راشد والشِّعر، فحملت العناوين في المتن لفظة شعر صراحةً، وظلَّت تدور في دائرة الشعر ومَداراته، وقد أورد راشد عيسى الكثير من محطّات حياته التي استوقفته أو ظلّت محفورة في ذاكرته منذ طفولته وحتى الآن، وظلَّ منحازًا للشعر وهو يقوم بسردها، فجاءت رقراقة عذبة، وأقل ما يمكن أن يُقال بها إنَّها مدهشة؛ ترسم البسمة على شفتيكَ وتداعب طفولتكَ التي غابت عنكَ منذ زمن بعيد.
"رشدونيوس"... عنوان تحتار فيه، أهو نحت أم اشتقاق؟ أم هو اختراع لم يصل إلى ضفافه أحد من قبل؟ راشد عيسى كما هو وكما اعتدنا عليه في لغته الغريبة الجميلة التي تنهل من وادي الجنّ، كما يقول، لذلك يبدو العنوان وللوهلة الأولى تهويمًا من الخيال في فضاء بعيد شاسع مفتوح على التخييل والتأويل، لكن عبارة "هويّتي الشعريّة" تعيده إلى الأرض ليمدَّ فيها جذوره كما النبتة التي تتطلّع إلى السماء الزرقاء وقدمها مغروسة في جوف الأرض وبطنها.
يأخذكَ هذا الكتاب إلى نهرِ لغتِه لتبحَثَ بكلِّ وَلَه عن "رشدونيوس" مَن هو؟ كيف جاء؟ ومن أين تشكَّل؟ ويجيبك ولكن بعد أنْ تَتعَبَ عيناك في البحث عنه؛ وفجأة تمسك يدكَ بإجابة حيرتك حين يقول في الأوراق المعنونة بـِ"شعراء وشاعرات تأثّرتُ بهم" في الورقة الرابعة المعنونة بـِ"الزيتونة": "كان لنا في غصنها السفلي المتين أرجوحة عامة لكل الأطفال، وفي حفرة جذعها موقد صغير نشوي عليه البطاطا والبصل والعصافير التي نصطادها. لم يكن يعلم أيّ من أصدقائي الأطفال أنني كنتُ أنام على الأغصان القويّة المتشابكة داخلها كلّما منعني أبي من دخول البيت. هناك على أحد الأغصان ذات الجلد الأملس نقشتُ اسمي المفضَّل لديّ (رشدونيوس) وهو اسم أطلقَتْه عليّ جارتنا القبرصيّة الأصل. كانت تحبُّني جدًا تحضنني وتقول: ليتك ابني!!".
ومن هنا يتعالق العنوان مع اسمه كثيرًا؛ راشد عيسى، وتبحر بك الصفحة الأولى عبر عتبة الإهداء التي اختال عليها مرَّة أخرى بعبارة "يد الفنجان" وكأنه يفترض أنَّ المتلقي في الصفحات القادمة سيشرب فنجان قهوته بكلِّ تؤدة وتأمُّل وشفافية وهو يقرأ، وستظلّ يد الفنجان عالقة بين أصابعه، ولن يغادرها حتى ينتهي من احتساء قهوته تلك، فيقول: "يمثِّل هذا الكتيّب اقتراحًا تجريبيًّا عفويًّا حاولتُ فيه أن أدوِّن رؤاي السياحيّة في آفاق الشعر بعامة، وفي هويّتي الشعرية بخاصة، وهو بصورةٍ ما شهادة إبداعيّة تتخاطر فيوضها عبر ثلاثين عامًا من المغامرات الرعويّة في هضاب القصيدة رغبتُ في تدوينها قبل أن يحدودب الظهر كقوس النَّدم وتتهاوى الأحلام مثل عصافير مسمومة، وقد أوجزتُ الأعوام الثلاثين في أربعة عشر ديوانًا بطموح لا يتعدى العَشَم بأن يجد المتلقي فيها لو بيتًا أو سطرًا شعريًّا يليق بذائقته... أعترفُ بأنَّ سياحاتي في هذه المدوّنة تشبه مخاطرة طفل جسور في تسلُّق عمود كهرباء أو في خطف علبة حلوى من يد لص محترف... مبتهج أنا بما سبّبته لي القصيدة من شقاء لذيذ منح كينونتي فرصة الاستمتاع بأخاديع الدنيا وأباهيجها الكاذبة"(رشدونيوس بن عيسويه).
• بين السيرة والأدب
كان أوّل كتاب يوضع في السيرة الذاتية ما كتبه "جان جاك روسو" بعنوان "اعترافات"، وقد لاقى قدرًا كبيرًا من النجاح في قارّة أوروبا وخارجها لمساهتمه في تحريك مشاعر القرّاء نحو المكاشفة ومحاسبة النّفس، وانتقلَتْ كتابة السيرة إلى اللغة العربية على يد الشيخ أحمد فارس الشدياق، وكان قد أصدر كتابه في باريس. وبعد هذا أصدر عبدالرحمن شكري سيرة ذاتية أسماها "الاعترافات في مدينة الإسكندريّة"، ومع ذلك يُعدُّ طه حسين رائد كتابة السيرة الذاتية العربيّة بإصداره كتاب "الأيام" الذي عُدَّ الأشهر في الأدب العربي المعاصر، ومن بعده أصدر العديد من الأدباء والمفكرين سيرهم الذاتيّة كأحمد أمين، وإبراهيم المازني، وعباس محمود العقاد، كما قامت الشاعرة نازك الملائكة برواية سيرتها الذاتيّة بعنوان "سيرة من حياة نازك الملائكة".
السيرة الذاتية هذا اللون الأدبيّ الجميل، الذي اعتُبر بوحًا أدبيًّا صادقًا، بالدرجة الأولى، وهو ليس عبارة عن مجرَّد سيرة يسرد فيها الكاتب حكاية عمره ويتوقف في محطاتها، بل إنها قصة حياة ومذكرات تروي عمرًا قد يكون حافلًا بالتجارب والأفراح والمآسي والوجوه والأسماء والأصوات، وقد يكون منغلقًا على الذات وأفكارها وغربة مشاعرها. هي رحلة أدبية، يأخذك فيها الكاتب بجرأة إلى عالمه الخاص وتجربته الفريدة، وتتشكل الصور والأصوات والمواقف والأحداث على شكل رواية لها شخوصها وأبطالها؛ إنَّ السيرة الذاتية بالنسبة للكاتب هي "فضفضة" من نوع خاص وفريد تخلِّصه من القلق النابع من تجربته الحسيّة التي اكتسبها من الحياة، ويُشترط فيها أن يكون الكاتب صادقًا مع نفسه حتى يصدِّقه القارئ، لا يكذب ولا يتجمّل؛ لذلك تتميَّزُ السيرة الذاتية الأدبية في أنها تقوم على سرد الأحداث الشخصيّة، والخبرات التي مرَّ بها الشخص، وذلك بأسلوب أدبي خياليّ، قصصيّ روائيّ في الوقت ذاته، وهناك الكثير من كتب السيرة الذاتية الأدبية في العالم العربي، ومنها "رحلة جبلية.. رحلة صعبة" لفدوى طوقان، و"البئر الأولى" لجبرا إبراهيم جبرا، وغيرها.
• ملامح السيرة الذاتيّة الأدبيّة
(الشعريّة) في "رشدونيوس"
عمل الكاتب والشاعر راشد عيسى هنا على سرد سيرته الذاتية الأدبية بالانحياز المطلق للشِّعر، وبدا هذا واضحًا منذ الصفحة الأولى ومن خلال عناوين تلك الأوراق، يقول في الورقة الأولى المعنونة بـِ"فضاء الشكران والاعتراف": "أفيض بالامتنان إلى شجرة الشِّعر التي أحسنت تربيتي دون سائر الأشجار؛ فشجرة المعرفة العقليّة أغصانها قضبان حديديّة مسنّنة مؤلمة سرعان ما تصدأ، وشجرة الأيديولوجيا خوّانة، ظلالها رطوبة وبقع ندم، وشجرة الزَّمن من نوع الصبّار الشّوكي أليم المرارة، وشجرة الوطن مخيفة، وحدها شجرة الشِّعر وطن لشعوب رؤاي، فلقد آوَت طيور أحلامي المشرَّدة منذ كنتُ لغزًا في بطن أمي إلى أن صرتُ عكّازًا أسند أحديداب الجبال الهرمة".
في هذا الكتاب، ومن ورقته الأولى في كتابة هذه السيرة ظلَّت تتراءى من بين السطور أوراق متميِّزة تحكي عن الذات، وظلّت تكشف عن تلك العلاقة ما بين راشد عيسى والشِّعر، ولذلك جاءت العناوين لتلك الأوراق تحمل لفظة شعر صراحةً: "ما أنت أيها الشعر"، "الطبيعة ديوان الشعر الأجمل"، "أيها الشعر يا فيلسوف الكبرياء"، "أيها الشعر يا جنوني الرشيد"، "أيها الشعر... يا أرجوحة طفولتي"، "الشعر موسيقاي"، وكل العناوين ظلَّت تدور في دائرة الشعر ومداراته، ومن خلال تلك الأوراق طالعنا سرد الأحداث الشخصيّة بقالب شفّاف لا يبتعد عن الشعر، بل يتقارب معه إلى درجة الانصهار فيه أحيانًا، وهو يقول عن هذا: "علّموني أنْ أبدأ ولا أفكر في المآب، وأنْ أكتب الشِّعر بنشوة برعم يعنيه أنْ يتفتَّح ولا يعنيه أنْ يصبحَ وردة آيلة للذُّبول....".
لقد اتَّكأت تلك السيرة الذاتيّة الأدبيّة على منحيين هما: سرد الأحداث الشخصيّة أوَّلًا، وسرد الخبرات التي مرَّت بها الشخصيّة ثانيًا.
• سرد الأحداث الشخصيّة
من المعروف أنَّ أيّ سيرة يتجشَّم الكاتب عناء سردها، لا بد أن يكون بها سرد خاص لمحطات مرّت بها الشخصية وتوقفت عندها من خلال عمليات المدّ والجزر في حياته، ولقد أورد راشد عيسى الكثير من محطات حياته التي استوقفته أو ظلّت محفورة في ذاكرته منذ طفولته وحتى الآن، وظلَّ منحازًا للشعر فيها حتى وهو يقوم بسردها، فجاءت رقراقة عذبة، وأقل ما يمكن أن يُقال بها إنها مدهشة.. بل ومدهشة بامتياز؛ ترسم البسمة على شفتيك وتداعب طفولتك أنت... تلك التي غابت عنك ومنذ زمن بعيد.. ففي أوراقه المعنونة بـِ"أيها الشعر يا أرجوحة طفولتي" يقول: "نعم في العاشرة على حدِّ ذاكرتي اقتنعتُ بأن لا علاقة لي بي أيضًا ولستُ بحاجتي إلا بمقدار بقائي حيًّا لأضمّد غصن زيتون منكسر وأواسي منزلًا يبكي على سكّانه الراحلين وأطعم قطًّا ماتت أمه بعد الولادة. شعرتُ بكل قواي الطفولية العنيفة أنَّ مكاني الصحيح في كرمة عنب أو في كوخ من قصب عند منبع نهر حزين... صعدتُ سلّم الحياة وحيدًا وعلى كتفي طفولتي وصرخات أمي وعنفوان أبي، وعلى ساعدي غراب أحمر يحاول التغريد، وفي قدمي حذاء مدبَّب قادر على إحراج مؤخرة الكرة الأرضيّة...". ويسترسل قائلًا في "شعرية العمر": "لم يغادرني الطفل قط، عبارة يسعدني ترديدها، ولم يتخلّ الشعر عني حتى لحظة هذا البوح اللئيم. لا أدري ما الذي يجدِّد قواي المخياليّة؟ حقًّا لا أدري ماذا يريد الشعر منّي وأنا في الستين!! أما آنَ لجنيّة الشعر أن تخلعني؟! ماذا تريد من رجل وضع الدنيا في سلّة وأهداها لِمَن يحتاجونها؟ أنا ممّن عبروا الجسر قبل أن يصلوه؛ لذلك اشتبكتُ في قصائد متعددة مع زمن الكهولة والشيخوخة وأرذل العمر لأنني أخشى إذا بلغت من العمر عتيّا أن لا أستطيع التعبير شعريًّا عن تلك المرحلة الوداعيّة حين يخون الجسم ويتعفّن الوعي وتهرم شبيبة أخيلتي". وفي أوراقه المعنونة بـِ"شعراء وشاعرات تأثّرت بهم" يكسر الكاتب هنا أفق التوقُّع عند القارئ، فهم ليسوا شعراء عظام مرّوا بحياته وشاعرات تركنَ بصمتهنَّ باللغة أو بالحضور، بل هم عالم آخر هم كانوا: الصحراء/ نار الحطب/ الديك/ الزيتونة/ الحذاء/ النهر/ الناي/ الحصان/ السراج/ صباح القرية/ المرأة.
يقول في ورقة "الصحراء": "أشكر زمن طفولتي الذي أهَّلَ وجداني بامتياز الشتات والانعتاق السهل من سجن الإرادة باتِّجاه إحساس سعيد بمذاق الحريّة وكرامة التيه حيث البوصلة متعطلة والمدى مشمئزّ وفضاء الرُّؤيا مربوط بالهواء المنعش.. أغلب كائنات الصحراء شُعراء وشاعرات لديهم إجابات سهلة عن أسئلة صعبة محرجة.. تلك هي الصحراء التي زوَّدتني بقيمها الشريفة ولاسيّما سماحة الوجدان وخصوبة الخاطر واتِّقاد الخيال ليكون شِعري نوعًا من عواء الذئاب الجريحة الجائعة، ولا أريد أن يكون غير ذلك...". وكأنَّ الكاتب هنا يضع يده على تلك المكوّنات الأولى لشاعريّته وذائقته الشعريّة، ويتشارك مع الصحراء كل هؤلاء... كل هؤلاء هم مَن تأثّر بهم وعدَّهم شعراء وشاعرات يملكون ملكة الإبداع وموهبة الشعر العظيم القويّ؛ لذا تأثّر بكل واحد وواحدة منهم بطريقة فريدة عظيمة خلّاقة مبتكرة... يقول عن الديك: "منذ الخامسة من عمري وبيني وبين الديك أخوّة، فهو أحد أفراد عائلتنا، وأنا في الصف الأول الابتدائي تشاجرتُ مع ابن جيراننا قرب باب بيتنا، لم أكن أتوقَّع أن يقفز الديك على وجه خصمي وينقر وجهه نقرةً مؤثِّرة دامية، ولولا حكمة أبي في معالجة الأمر لقتل الجار ديكنا". وفي تأثُّره بـِ"صباح القرية" يقول: "صباح القرية مهرجان شعري يشارك فيه جميع الشعراء والشاعرات: نبع القرية، العصافير حول أعشاشها، دموع الفرح فوق الأزهار، بغل الحرّاث، المناجل في أيدي الحصّادين، أطفال ما قبل المدرسة، البيوت الحجرية المهجورة، أنين كلبة في حالة ولادة، ورق التوت محتفلًا بدود القّز، لكن سيد شعراء هذا المهرجان هو الصقر الذي يحوم حول أرجاء القرية ليحرس الأفق من الثعالب التي تستغلّ غياب القرويّين وتهجم على أقنان الدجاج".
سأتوقف هنا قليلًا... في الحقيقة لا بدَّ من الحديث المطوَّل عن علاقة "رشدونيوس" الشاعر مع المرأة، والتي عدَّها هو ممَّن تأثَّر بهم وأثَّروا في حياته، وباعتقادي الشخصي أنَّ وقفة مثل هذه الوقفة لا تفي تلك العلاقة الوشائجيّة الدافئة بينه وبينها حقّها، لكنني آثرتُ أن أتوقَّف ولو قليلًا... في أوراقه المعنونة بـِ"شعراء وشاعرات تأثّرتُ بهم"، حيث يقف عند المرأة مطوّلًا ويتحدَّث عن التأثُّر وعن تلك العلاقة موظِّفًا الشعر والنثر معًا، فهو بعد العنوان الجانبي العريض (المرأة) يبدأ بسؤال جدلي صريح وواضح يواجه به ذاته: "لماذا تحضر المرأة في ثلثي شعري ويزيد؟؟؟"، ويجيب عليه بإجابة جميلة خفيفة الظِلّ قائلًا: "هذا سؤال محرج مثل قطعة (جاتو) محشوّة بالفلفل الحار، غير أنَّ كتفي قادرة على تحمُّل عبء الإجابة، ويدي تملك الشجاعة الكافية لأنْ ترشَّ الملح الأحمق على جرح جميل". ثم يقول لها شعرًا: "لأنكِ شعر دخان وكل النساء هوامش بين السطور/ لأنَّ النساء دخان رماد وأنت الرحيق/ وريحان هذا الفؤاد الشقي/ غرستك في آهتي وردة/ ولملمتُ من شوكة الحزن عيد العبير...". وفي مكان آخر من تلك الأوراق يقول: "ازدادت أمواج الحلم اندفاعًا باتجاه المرأة الخارقة غير المتحققة، ورحتُ أهجس كيف يمكن أن تكون المرأة زوجة وحبيبة وأمًّا في آنٍ معًا؟ نشطت شبيبة أخيلتي فأنجزتُ ديواني الثاني بعنوان (امرأة فوق حدود المعقول) وكنتُ آنذاك محررًا أدبيًّا في صحيفة "الجزيرة" في الرياض. جميع قصائد الديوان تشتغل على هالة الحبيبة الوهميّة برومانسيّة حالمة، وقد استغرب كثيرون من أصدقائي شجاعة تخصيص ديوان كامل في الحب والغزل". ويسترسل في حديثه عن المرأة: "تعاظمت القيمة الإنسانية والجمالية في نفسي، وبات يخيّل إليّ أنَّ (الحبيبة الزوجة الأم) ثلاثيّة لا يمكن اتحاد عناصرها في امرأة إلا من قبيل التوهُّم الذي يجلس بجانب اليقين على استحياء؛ ففي ديوان (ريشة صقر) تجسَّد حزني بوضوح على فقدان الأنثى الكاملة التي تترانى لها مهجتي البريّة النافرة، وذلك في قصيدة طويلة عنوانها (أسئلة الجنّ) ختمتُها بهذا المقطع:
يا ليتني صدَّقتُ أمي حين قالت/ وهي تبكي عند باب البئر في عزّ الظهيرة/ والندم/ لا يا ابن روحي لا تؤمن للحياة فسوف/ تعرف حين تجرحكَ النساء بأنَّ مجدكَ في/ الألم/ وبأنَّ قلبكَ طير وهم رفّ في قفص الحقيقة/ وما الحبيبة يا ابن قلبي غير/ سوسنة رقيقة/ فاختر لقلبك مَن تكون حبيبةً يومًا وأعوامًا صديقة".
وحين يتحدَّث راشد عيسى عن المرأة يقول: "إنَّ المرأة التي تليق بمنازل فؤادي وعقلي وروحي هي التي تتلامح فيها لآلئ الصّداقة، وإنَّ الصداقة الحقّة أعلى مستويات الحب". ويقول: "يبدو أنَّ الشِّعر والمرأة والحياة ثلاث كينونات ينبغي أن تُعاش دون تفكير بأسباب كلّ كينونة أو بخلائقها وتحوُّلاتها، ولا أرى سببًا لوضع أيّ منها تحت مجهر العقل أو محكّ التحليل العلمي".
• سرد الخبرات التي مرَّت بها الشخصيّة
لا يستطيع مَن يكتب سيرته وتلك السطور من ذاكرته إلّا أن يضمِّنها بعضًا من الأحداث التي مرَّت بها تلك الذات وعايشتها وتمثّلتها تمثُّلًا حقيقيًّا، ولا بدَّ له أن يكشف عن مدى وقع تلك الأحداث على ذاته وسطوتها عليه، لذلك يجد الكاتب لزامًا عليه أن يسرد بعض تلك الخبرات التي مرّ بها، ففي أوراق "رشدونيوس" المعنونة بـِ"الشعر أبي الحقيقي واللغة أمي العظيمة" يقول راشد عيسى: "اتصلت بي هاتفيًّا طفلة العاشرة سألتني: هل أنتَ الشاعر الراحل راشد عيسى؟ قلتُ: نعم. قالت: أريدُ أن أجري معكَ حوارًا حول قصيدتكَ (البصيرة) الموجودة في كتابنا. سألَتْني فأجبتُها، وفي نهاية المكالمة طلبت منّي رقم هاتف أحمد شوقي".
إنَّ سرد الخبرات التي مرَّت بها الشخصية يكاد يشكِّل عالمًا من الحكاية متكامل الأطراف، وهو في الغالب ما يتكئ على عالم الرواية موظفًا تقنياتها مقتربًا منها كثيرًا ليضع المتلقي في دائرة الحدث والحكاية، ليصبح المتلقى قادرًا على الدخول إلى سيرة الكاتب وحياته.. يقول الكاتب في أوراقه المعنونة بـِ"شعراء وشاعرات تأثرتُ بهم" مستعيدًا زمنًا مستقطعًا ومهمًّا من طفولته في حديثه عن الزيتونة يستذكر: "ولأني وحيد أهلي وتلميذ متفوِّق في الولدنة فإنني لم أسلم من رفاقي، ولا سيما عندما أتشاجر مع أحدهم، فيجتمع عليّ إخوته ويُلحقون بي أذى من الضرب، كان لا بدّ من استدعاء قواي المؤجَّلة؛ نجرتُ غصنًا من الزيتونة وبتُّ ألاحق الإخوة الأعداء واحدًا واحدًا وأشبعهم ضربًا ليكفّوا عن التعصُّب عليّ وتركي في حالتي".
وفي الورقة المعنونة بـِ"الشعر أبي الحقيقي واللغة أمي العظيمة مرة أخرى" يقول في سرد أحداث مرَّ بها وعايشها: "كنّا خمسة في أحد مهرجانات الشارقة الشعرية عام 2013، ولا يكاد أحدنا يعرف الآخر، قال أحدهم وهو شاب كان فائزًا بجائزة أمير الشعراء: اسمعوا منّي هذه الأبيات الجميلة لشاعر أحبُّه ولا أعرفه، ثم قرأ الأبيات. سألتُه لمن هذه الأبيات؟ قال: لشاعر اسمه راشد عيسى ولكنّي لا أعرفه، فقلتُ له: لو سمحت إنْ عرفتَه دلّني عليه فأنا أبحثُ عنه من سنوات".
في الحقيقة أنَّ هذه السيرة ثريّة، بل وثريّة جدًا.. وبها جوانب كثيرة تحتاج للحفر والدراسة والبحث، فهي منهل عذب لكنّها لا تروي العطش ولا تطفئ الشغف، بل تأخذكَ إليها فتظلّ مسحورًا بها ولا تقوى على مغادرتها مطلقًا...