أنس بوسلام
كاتب مغربي وباحث في سلك الدكتوراه
يتمحور هذا المقال حول أدب السجون باعتبار أنَّ هذا الأخير يمثِّل مختلف أشكال التعبير (نصوص، قصص، أفلام، صور،...) التي تعكس واقع الحياة الإنسانيّة داخل السجون، ويَطرقُ الموضوع عددًا من النقاط الأساسيّة؛ منها سلب الحريّة ومحو بشريّة الإنسان، وكذا مظاهر معاناة السجين البدنيّة والنفسيّة والإنسانيّة والاجتماعيّة، ودراسة السجن بوصفِه عالمًا للمتناقضات والأضداد بامتياز.
لعلَّها مفارقة وجوديّة كون أصغر الفضاءات (الزنازين) هي التي أنتجت أرحب التخيُّلات والذكريات وأطول الاعترافات والأحلام، وهي مفارقة تَبرز لدى معاينة (أدب السجون) بمختلف أشكاله التعبيريّة. وفي هذا المقال اخترنا التجربة المغربيّة كنموذج لأدب السجون، وانفتحنا، أيضًا، على أبرز التجارب العربيّة، هذا وتعتبر المقاربة السيكوسوسيولوجية والتناول السيكوبيداغوجي والأشكلة الفلسفية أهم المداخل النظرية الأساسية -في نظرنا- لتناول موضوع كهذا.
ويحقِّق تسليط الضوء على هذه القضية (أدب السجون) الأهداف الآتية:
- الاستفادة من أدب السجون في الكشف عن الدلالات العميقة لتجربة فقدان الحقوق، ومنها الحرية والكرامة والعدل وغيرها.
- التوعية والتحسيس بمظاهر انتهاك آدميّة الإنسان من خلال أدب السجون.
- إدراك وتقدير أهميّة التجارب الإنسانيّة للاعتقال السياسي ومراراته انطلاقًا من هذا النوع من الأدب.
وتكمن أهميّة هذا النوع الأدبي في تناول موضوع الحرية وفقدانها من زاوية غير تقليدية، بل ومنفتحة على آفاق جديدة للدراسة، وهي أدب السجون باعتباره جنسًا أدبيًّا يكتنز العديد من المعطيات والدلالات الإنسانية والنفسية والاجتماعية العميقة والمعقدة حول تجربة فقدان الحرية، وقد تكون هذه الأدبيات حول السجن أو عن مرحلة قبله أو مكتوبة أثناء إقامة الكاتب في السجن، وهي تتَّخذ عدة أشكال مثل الرِّواية والمذكّرات والقصص، وقد تكون واقعيّة أو محض خيال، كما أنَّ الكتابة عن السجن تُعدُّ سلطة مضادة للسجّان. فإذا كان الجلّاد يحاول طمس معالم جريمته، فبالكتابة يحاول المعتقل التذكير بها والتنصيص على حجم تجاوزات السلطة، وإذا كان السجن فضاءً سالبًا للحرية وحادًّا من الحركة الجسدية، فإنه عاجز عن سلب المعتقل حرية التفكير والتذكُّر والحلم والكتابة.
يطرح هذا الموضوع مجموعة من التساؤلات لعلَّ أهمّها: إلى أيّ حد عبَّر أدب السجون عن تجربة فقدان الحرية نتيجة سبب الاستبداد والشمولية في وطننا العربي؟ وهل توفَّق كُتاب هذا النوع الأدبي في صياغة ذاكرة مضادة لِما هو رسميّ؟ بمعنى: هل نجحت محكيّات السجن في تعميم الوعي بجراح المرحلة وإسقاط صفة "التابو" عن أدب السجون؟ وكيف لكتابة تمجِّد الألم أن تكون ممتعة؟ وما حجم تطابق ما كُتب مع الحقيقة؟ وكيف حضر الجنس والدين وكيف غابا؟ وكيف تمثّلت المرأة هذه التجربة من داخل وخارج السجن؟ وما هي السجون المعنويّة التي بقيت تلاحق المعتقل بعد خروجه من السجن؟ وهل حققت الكتابة عن التجربة أهدافها؟ ونقصد بذلك الانتصار الرمزي للمعتقل، فإلى أيّ حدّ توفَّق في هزم الموت داخل المعتقل، وكتب عن التجربة بقصد توضيح بشاعة السجّان في منح هذا المعتقل صفة المنتصر..؟
إنَّ تعدُّد هذه الأسئلة بقدر ما يحيل على ثراء المتخيّل السجني بقدر ما يؤشِّر على تلك النزعة الشكيّة المتبقية في أعماق المعتقل وهو يكتب جرح الأسر. ترى هل حقًّا توفَّق في نقل التجربة أم لا؟ كيف تمَّ اختيار الحالات والظروف، ورقيت –اعتباطًا- إلى دور عناصر بارزة كفيلة بأن تؤدّي معاني أكثر من غيرها؟ أيّ المقاييس اعتبرت لحسم مسألة الأساسي والثانوي والموضوعي والذاتي؟ هل حقًا استطاع أدب السجون أن يتجاوز مفارقة الأعمى- الرسام، والعازف- الأصم، والراقصة- المشلولة؟ عمّاذا دافعت هذه الكتابة وماذا حاربت؟ أيّ صمت نجحت في قهرِه بتفجير فيض الكلام في جميع الاتِّجاهات؟ أيّ صورة قدَّمت عن المعتقل؟ سذاجة؟ أم صحو؟ أم عصبية؟ واقعية؟ طوبوية؟ صمود؟ استسلام...؟
كما تنفتح أمام المتأمِّل للموضوع عدد من الفرضيّات نجملها كالآتي:
- نجاح أدب السجون العربي في التعبير بكل عمق عن تجربة فقدان الحرية أمام سلطة القمع والاستبداد العربي.
- عدم توفُّق أدب السجون في كسب معركة القلم والفكر والاستقلالية في وجه النظام الشمولي العربي.
- لكل بلد عربي خصوصيّته فيما يتعلق بأدب السجون وهامش الحرية ومستوى الاستبداد أو التحوُّل الديمقراطي، ولا يمكن إصدار أحكام معمّمة.
- عدم إمكانيّة إصدار حكم إيجابي تمامًا أو سلبي تمامًا، فأدب السجون العربي ظلَّ محكومًا بنسبيّة النتائج.
إنَّ الكتابة السجنيّة بالنتيجة تشمل الكتابة في السجين وعن السجن، وفي الحالتين معًا لا تخرج كتابة هذا الفضاء البغيض عن أفقين سرديّين لا ثالث لهما: فحضوره إمّا أن يؤدّي لخلاصة ملحمية، حيث المقاومة والصمود. أو مآل مأساويّ كالانتهاء إلى الجنون أو الموت أو الانتحار، وجدير بالذِّكر أنَّ بعض الكتابات السجنية المغربية والعربية عمومًا قد فقدت جزءًا كبيرًا من بريقها وصدقيّتها نتيجة توافق أصحابها مع النظام السياسي نفسه الذي اعتقلهم ونكّل بهم وانتهك حقوقهم، فباعوا ماضيهم النضالي مقابل تعويضات ماليّة أو مناصب أو امتيازات زائلة، وأعطوا جلّادهم شرعيّة جديدة، ونقصد هنا المفهوم السياسي العام للجلّاد وليس المعنى المباشر له المرتبط بالمعتقل فقط، وبذلك خسروا هم –بالمقابل- أنفسهم وقضيّتهم وإبداعهم الأدبيّ، ولهذا كانت تجربة الاعتقال محكًّا حقيقيًّا للمثقف العربي: هل هو على قناعة حقيقية بما يؤمن به أو بمرجعيّته الأيديولوجية، أم أنه بمجرّد ما تعرّض لمثل هذه التجربة المريرة وأطلق سراحه غيَّر بوصلته للاتجاه المعاكس؟ فإنْ كان من النوع الأوّل غالبًا ما تكون كتابته السجنية صادقة ومقنِعة ومؤثرة ومبدعة... وإنْ ثبت أنه من الصنف الثاني جاءت كتابته -في الغالب- متكلفة متصنعة متكسِّبة وغير مبدعة.
من خلال استقراء مختلف اتجاهات الكتابة المتعلقة بأدب السجون في العالم يمكن إجمال أهم الأفكار والانشغالات التي اهتمَّ بها هذا الجنس من التأليف في النقاط التالية:
أولًا: التطرُّق لمحن السجن من سلب للحرية، ومحو بشرية الإنسان وتنميطه في دولاب النظام السجني بتجريد السجين من لباسه المدنيّ وتوحيد اللباس، واستبدال اسم السجين برقم، وتحريم الكلام في أوقات معيّنة، وإخضاع الجميع لنظام سجني آلي ولا إنساني... إضافة إلى التعذيب بمختلف أشكاله؛ كالتعذيب البدني والعزلة (السجن الانفرادي) ومنع الزيارة ومنع التريُّض والإزعاج بالإضاءة أو الصوت وسوء التغذية...
ثانيًا: اعتبار فضاء السجن فضاء للمتناقضات، يتَّضح ذلك من خلال ما يلي:
- السجن منتج لعزلة المعتقل تارة، ومصدر الاكتظاظ تارة أخرى.
- السجن فضاء يجمع بين الفوضى والنظام، بين التدمير والتأهيل.
- السجن فضاء يجمع بين الضحيّة والجلّاد.
- احتماليّة الانهيار والاستسلام أو اكتساب القدرة على مقاومة ألم التعذيب.
- السجن يسعف إلى اكتشاف الذات من جديد أو فقدانها إلى الأبد.
وإذا رصدنا تطوُّر أدب السجون في المغرب نموذجًا، يمكن الوقوف على الآتي:
1- مرحلة الستينات:
يمكن نعتها بالمرحلة الحماسيّة، وعلى الرغم من ذلك تميَّزت بقلّة الإنتاج، ومن نماذجها:
- عبدالكريم غلاب، "سبعة أبواب" (1965).
2- مرحلة الثمانينات:
المرحلة المأساوية (بداية الوفرة في إنتاج أدب السجون)، ونذكر ممّا كُتب خلالها:
- عبداللطيف اللعبي، "مجنون الأمل"، ترجمة علي تزلكاد والمؤلِف، 1983.
- سعيدة المنبهي، مختارات من ديوان سعيدة المنبهي، مجلة البديل، ترجمة عبداللطيف اللعبي (1982).
3- مرحلة التسعينات:
أثناءها ازداد الكم، ومن أمثلة ما أُلِّف إبان هذه المرحلة:
- مليكة أوفقير، وميشيل فيتوسي، "السجينة"، ترجمة غادة موسى الحسيني.
- صلاح الوديع، "العريس" (1998).
- عبدالقادر الشاوي، "كان وأخواتها" (1999).
- إبراهام السرفاتي، "المغرب من الأسود إلى الرمادي" (1998).
- كريستين السرفاتي، "سجن الموت في المغرب"، باريس (1992).
4- بداية الألفيّة الثالثة:
حيث عَرَفَ أدب السجون غزارة في الإنتاج، ومن نماذجه:
- مليكة أوفقير، "حدائق الملك"، الجنرال أوفقير والحسن الثاني ونحن، شهادة ومذكرات، ترجمة ميشيل خوري (2000).
- عزيز بنبين، "تازماموت"، ترجمة عبدالرحيم حزل، (2011).
- الطاهر بنجلون، "تلك العتمة الباهرة"، ترجمة بسام حجار (2002).
- فاطنة البيه، "حديث العتمة" (2001).
- خديجة مروازي، "سيرة الرماد" (2000).
- Serhane Abdelhak.Kabasal.les Emûtes de Tazmamart.Mémoires de Salah et Aida Hachad.tarik, Casablanca, 2004.
وقد تفرَّع أدب السجون المغربي إلى صنفين:
* محكي سجني مدني: سبقت الإشارة إلى نماذجه.
* محكي سجني عسكري: ومن أهم أمثلته نذكر:
- أحمد المرزوقي، "الزنزانة رقم 10".
- محمد الرايس، "من الصخيرات إلى تازمامارت"، ترجمة عبدالحميد جماهري.
- المفضل المغوتي، "ويعلو صوت الآذان من جحيم تازمامارت"، مذكرات المعتقل المفضل المغوتي (2009).
وفيما يلي نخبة من أبرز نماذج أدب السجون العربي مع جنسيّات المؤلفين:
- صنع الله إبراهيم، "تلك الرائحة" (مصري).
- صنع الله إبراهيم، "شرف".
- حبشي، فوزي، "سجين لكل العصور" (مصري).
- أحمد رائف، "البوابة السوداء: صفحات من تاريخ الإخوان المسلمين" (مصري).
- نوال السعداوي، "مذكراتي في سجن النساء" (مصرية).
- رضوى عاشور، "فرج" (مصرية).
- السيد يوسف، "مذكرات معتقل سياسي: صفحة من تاريخ مصر" (مصري).
- فواز حداد، "السوريون الأعداء" (سوري).
- لؤي حسين، "الفقد" (سوري).
- مصطفى خليفة، "القوقعة: يوميات متلصص" (سوري).
- خيري الذهبي، "من دمشق إلى حيفا 300 يوم في إسرائيل" (سوري).
- ياسين الحاج صالح، "بالخلاص يا شباب: 16 عامًا في السجون السورية" (سوري).
- محمد الماغوط، "العصفور الأحدب" (سوري).
- Dabbarh, Heba, juste five minutes..nine years in the prison of syria, translated by Bayan khatib, (syrian).
- سهى بشارة، "مقاوِمة"، ترجمة أنطوان أبوزيد (لبنانية).
- يوسف الصايغ، "السرداب رقم 2" (عراقي).
- عائشة عودة، "أحلام بالحرية" (فلسطينية).
- أيمن العتوم، "ذائقة الموت" (أردني).
- أيمن العتوم، "يا صاحبي السجن".
- عبدالرحمن منيف، "شرق المتوسط" (سعودي).
- أحمد عبدالغفور عطار، "بين السجن والمنفى" (سعودي).
تُعتبر الكتابة عن السجن سلطة معاكسة للسجّان، فإذا كان الجلاد يستهدف محو آثار جريمته، فإنَّ الضحيّة بالكتابة تحاول التذكير بهذه الجريمة والتأكيد على حجم انتهاكات السلطة. غير أنَّها كتابة لا يمكن عزل فضحها للآخر عن فضح الذات في حدود معيَّنة وذلك من خلال وقوفها عند ملامح التعايش مع المرض والجوع والكبت والجنون أحيانًا، والضعف الإنساني عمومًا. إنها بقدر ما تنفِّس عن المكبوت وتبحث عن توازن نفسي، تجعل الذات تعاود عيش جرح الاعتقال. كتابة يمكن اعتبارها وجع مضاعف وصرخة مدوية لضمير ملتاع. هي بالنتيجة ممارسة استشفائيّة قصد استرجاع الثقة في النفس وفي المجتمع. إنَّها نضال مواز للنضال داخل المعتقل.. صحيح أنَّ الذات بالبوح والاعتراف تجد نفسها في وضع ملتبس، إذْ إنَّها تتأذّى وتتطهّر في الآن ذاته، الأمر الذي يطرح علينا سؤالًا عميقًا من قبيل: هل الجحيم هو أن نتذكَّر جرح الاعتقال أم ننساه؟ علمًا بأنَّ ثمة بالجوار تأمُّلات فلسفيّة تعتبر "أنَّنا لا يمكن أن نتحرَّر إلّا من خلال التذكُّر"، بحسب تعبير "فريدريك نيتشه".
نخلص إلى النتيجة التالية: إذا كان السجن فضاءً سالبًا للحرية وحادًّا من الحركة الجسدية، فإنه عاجز عن سلب المعتقل حرية التفكير والتذكُّر والحلم والكتابة.. فبالكتابة يُضفى بعض المعنى على تجربة الاعتقال والسجن الذي تجتهد الدولة في إخفائه عن أنظار المواطنين بتشييده خارج المدن قصد إبعاده عن وعيهم، غير أنَّ الكتابة تتوفَّق في جعله شاخصًا للعيان في كثير من الحالات...
كما نستنتج أنَّ هناك قواسم مشتركة في الكتابة السجنيّة العربيّة، ولكن لا نغفل أنَّ لكل بلد عربي جانبًا من الخصوصية ترتبط بهامش الحرية ومستوى الاستبداد أو التحوُّل الديمقراطي، ولا يمكن إصدار أحكام معمّمة، وهو ما يعني عدم إمكانيّة إصدار أحكام مطلقة في هذا الاتجاه أو ذاك، فأدب السجون العربي ظلَّ ويظلُّ محكومًا بنسبيّة النتائج.
• المراجع:
- بنكراد، سعيد، أدب السجون في المغرب من الشهادة إلى التخييل، قصة ودراسات أدبية، anfasse.org، 2 كانون الأول/ ديسمبر 2007، شوهد في 1/9/2019.
- بودهان، محمد، تازمامارت، نصب من العار في التاريخ السياسي للمغرب المعاصر، tawiza.ifrance.com/tawiza89/tazmamart.htm.، أيلول/ شتنبر 2004، شوهد في 1/9/2019.
- حاتمي، محمد، أدبيات السجون كمصدر تاريخي: الإشكالية والمقاربة، ندوة "كتابات الاعتقال السياسي"، الرباط، 20 أيار/ ماي 2004.
- حزل، عبدالرحيم، سنوات الجمر والرصاص: نصوص وحوارات في الكتابة السجنية، الجزء الأول، الملحق الثقافي لصحيفة الاتحاد الاشتراكي، الجمعة 11 حزيران/ يونيو 2004.
- الحلفي، عبدالعزيز، أدباء السجون، ط2، دار الكاتب العربي، د.ت.
- الفيصل، سمر روحي، السجن السياسي في الرواية العربية، دمشق، منشورات اتحاد الكتاب العرب، 1983.
- يوسف، شعبان (منسقًا ومحررًا)، ندوة أدب السجون، القاهرة، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 2014.
- Foucault, Micheal, Surveiller et Punir: Naissance de la prison, Paris, Gallimard, 1975.