مخلد بركات
روائي وقاص أردني
رواية "في حضرة إبراهيم" صرخة إدانة، ومحاولة للترميم، وانعاش الذاكرة الفلسطينيّة، وفضح العديد من الملابسات السياسيّة، كأنَّما عامر طهبوب يكتب هنا سرديّته الخاصة التي تفضح سرديّات أخرى حول فلسطين، ومدنها وقراها، سرديّة رمزيّة وواقعيّة في آن، تنبش صندوق الذاكرة السياسيّة، تعرّيه أمام الشمس، ومن جانب آخر تنبش في الذاكرة الجمعيّة والفرديّة للفلسطينيين، وبخاصة ناس الخليل بعد حرب حزيران، وما اعتراهم من وساوس وهواجس ما بعد الحرب، وضبابيّة المصير، وأخطار الاحتلال.
حينما نقرأ رواية عامر طهبوب "في حضرة إبراهيم"، نشتبك بداية مع سيمياء العنوان حينما يحيلنا مفهوم الحضرة إلى مرجعيّات دينيّة من القدسيّة والتصوُّف، وإبراهيم هو أبو الأنبياء، المهاجر بحثًا عن متعة الروح، وليكون العتبة لولوج عالم الرواية في شيء من المهابة المتوقَّعة والقدسيّة في أسرار الرواية وأمكنتها، حيث حارات الخليل والقدس والعديد من العواصم والمدن في مختلف أصقاع العالم، وفضاءات واسعة من الأحداث المتشابكة، في نسق من نزف الذاكرة، أو حينما تفوح رائحة الذاكرة، ربما مثلما تفوح رائحة أعواد الميرميّة وهي تحترق بين جمر، بين ثلة من الأشقياء، نافذة، وليلة هاطلة بالثلوج.
"في حضرة إبراهيم"، هي رواية الوثيقة، أو سيرة مدينة، والمقصود هنا مدينة الخليل، تؤرِّخ وتكشف وتبوح، ضمن مساقات ومنعرجات زمنية ومكانية تبدأ تحديدًا عام 1968، وثيقة اجتماعية وسياسية وتاريخانية، مليئة بالاحتجاج والصراخ وبذور المقاومة من قبل شخوصها، كما تُعتبر وثيقة معرفية وأركولوجية، تعطي القارئ تفاصيل مكثفة عن الخليل المدينة، عن ناسها وحاراتها وتشابكات أحداثها في زمن معيَّن، وعن مدن أخرى، وهي نص نستالوجي وجداني، غارق في البوح والحميمية، وفي استدعاء الطفولة.. مثلما قال "أوليفر ساكس": "كان هناك نوع من العاطفة المرتجفة التواقة، وحنين غريب لعالم مفقود، نصف منسي، ونصف يتذكر".
ولعلَّ أبرز ما يمكن تبيانه في هذا العمل الروائي الجميل ما يلي:
• بين السيرة الذاتيّة والخيال
تمزج كيميائيّة هذا العمل بين السيرة الذاتية للكاتب وبين أحداث وشخوص متخيّلة، وهناك تقاطعات عديدة مع الحياة والخبرات التي عاشها، لتكون سيرته الذاتية مدادًا ومعينًا خصبًا لمجمل الأحداث في الرواية. ومن ذلك قول السارد:
" كان سعد رجلًا كريمًا، يعدّ لنا السامر، ويعدّ لنا الطعام في مزرعته التي تقع في (حسبان)، على طريق الأغوار الجنوبية، ويجلس في انتظارنا، طالما أشعل لنا موقدة الحطب في فصل الشتاء، ليجلسني قربها، ويقول لمن حوله: اجلبوا المزيد من الحطب، وضعوه بجانب هارون، هذا رجل يحب الدفء".
• الواقعيّة التسجيليّة
من اللافت للنظر في رواية "في حضرة إبراهيم" كثافة التفاصيل؛ بحيث يقترب هذا العمل من تخوم الواقعية التسجيلية، أو النقدية أحيانًا، أو للمدرسة الروسية في الوصف، ممّا يذكِّرنا بـِ"دوستويفسكي" في روايته "الأخوة كارامازوف"، وبرائعتي نجيب محفوظ "زقاق المدق" و"خان الخليلي"، و"أرض النفاق" ليوسف السباعي. وقد نحى العمل منحى سرديًّا يقوم على القطع والاسترجاع، والـ"فلاش باك"، حين اعتمد البناء الروائي تقنية الحكاية داخل الحكاية، أو الصندوق داخل الصندوق، حكاية ثلة من أصدقاء الكاتب، حاصرتهم ليلة عاصفة من الثلوج، في مزرعة جبلية، في أجواء شبه أسطورية، ليبوح الكاتب بالحكاية الأخرى، سرد تفصيلي مشوق عن مدينة الخليل، وتقاطعات مع مدن أخرى، في سرد مكثف بالتفاصيل المنتجة.
"قال محمود العلي، وهو يلقي بقطعة خبز على الجمر، ففاح عبقها:
- الحكايات لا يصلح لها إلا مثل هذه الأجواء.
قضم شيئًا من قطعة الخبز، وعاد إلى حيث كان يجلس، ثم نهض ثانية، واقترب منّي، وقال مشددًا على مخارج الحروف:
- عليك يا هارون أن تكتب ما تقوله لنا، ما تقوله وثيقة تاريخية يجب أن يقرأها الجميع.
عاد إلى مكانه، وحدّق بوجهي:
- هيا أكمل".
• الأمكنة والسجلّ الاجتماعي
تزخر الرواية بالأمكنة سواء في الخليل أو القدس، أو في العديد من المدن الأخرى التي زارها الكاتب، وبالحواريات واللغة العامية؛ ومنها ما ورد في صفحة 28 على سبيل المثال:
"خش يا عمي بلش شغل بس لا تتعلم النياطة من شعبان،
- أنا نايط يا عمي الحاج؟
- نايط وستين نايط، وأبو جلدة كمان، من يوم ما اشتغلت في القهوة ما غيرت هالشحاطة في رجليك، هرعيتو، حربي اشترى بابوج جديد على حسابي".
وذلك لإضفاء المصداقية والواقعية على تفاصيلها وتنامي الحدث فيها، لتكون أقرب إلى السجل الاجتماعي لحياة أهل الخليل، وخاصة أنَّ الأزياء والطقوس والعادات واللهجة الخليلية كانت موجودة بقوّة، وفي الهوامش تمّ التعريف بدلالة المفردات العامية ومعانيها، ومن هنا فهي للأجيال القادمة بمثابة وثيقة تحافظ على مختلف الطقوس والعادات والتقاليد والحوارات والأمكنة في الخليل، كي تظلّ للذاكرة رائحة ولا يمحوها النسيان.
• القِناع والتَّورية
شخوص الرواية، في العموم، حقيقيون، عاش معهم الكاتب، وقد استخدم هنا تقنية القناع، أو التورية، وبدَّل في أسمائهم، كما نجد بعضهم داخل المتن في الحكاية الثانية، مهمّشين، بسطاء، من قاع المدينة، مثل حرافيش نجيب محفوظ، أو شخصيات محمد شكري في "الخبز الحافي"، ومن أمثلة هؤلاء في الرواية نجد الحرفيين والتجار البسطاء، مثل: وحيد الحجة مصلح الأحذية، حسونة الخضرجي، شاهر ناصرالدين مصلح البسكليتات، أولاد صلاح بائعي الألبان والحويرنة... وغيرهم الكثير.
• زخم الأحداث والتحوُّلات السياسيّة
في الرواية زخمٌ بالأحداث والتحوُّلات السياسية التاريخية التي وقعت في العديد من الدول العربية وفي فلسطين تحديدًا، التي آلت في نهاية المطاف إلى الفجيعة وسقوط فلسطين بيد الاحتلال، كما تعالج العديد من قضايا الفساد، والتخاذل، والانقسام، ومن هنا فهي صرخة إدانة، ومحاولة للترميم، وانعاش الذاكرة الفلسطينية، وفضح العديد من الملابسات السياسية، كأنَّما عامر طهبوب يكتب هنا سرديته الخاصة التي تفضح السرديات الأخرى حول فلسطين، ومدنها وقراها، سردية رمزية وواقعية في آن، تنبش صندوق الذاكرة السياسية، تعرّيه أمام الشمس، ومن جانب آخر تنبش في الذاكرة الجمعية والفردية للفلسطينيين، وبخاصة ناس الخليل بعد حرب حزيران، وما اعتراهم من وساوس وهواجس ما بعد الحرب، وضبابية المصير، وأخطار الاحتلال. وممّا يرد في الرواية:
"حينما وصلت البيت سألني أبي عن الرسالة، فأخبرته بعكس ما حدث، وبأنني أوصلتها. كان جالسًا بمعية أبي زهير، وأبي عرابي، ويتحدثون في الهمّ الداخلي والأخطار التي تهدد المدينة، استمرار مصادرة الأراضي لتوسعة مستعمرة كريات أربع، الاعتداءات التي ترتكبها حركة كاخ المحتلة التي بدأ أفرادها الصلاة في الحرم الإبراهيمي، واعتداءات المستوطنين المتطرفين على الأهالي في البلدة القديمة".
لعلَّ العنصر الجمالي في هذه السردية كان جاذبا، مشوّقا في جَدْله للخيوط الروائية معًا، نسيج من التخفي والظهور، والكرّ والفرّ، الفحولة والأنوثة، الوفاء والخيانة، وتصعد الرواية من مدلولاتها.. وتظلّ تصرّ على أنَّ الرائحة ذاكرة، يفتح فيها الثلج نوافذ الحكي، تثاؤب الأصدقاء بجانب نعاس الموقدة، والكلب نمور، حفيف الشجر الباكي على أشجان البوح، الجدّة صفية وهي تشير إلى السماء.. السفر إلى البعيد في الروح، وشهقة جيل كان هناك..
وهي رواية الأمل حينما تبوح:
"لا بدَّ أن يجري النهر يومًا نحو كل حقولنا اليابسة".
ويبقى السؤال في الرواية معلّقًا، ذلك السؤال الذي نبس به هارون الخليلي، لرفيق دربه طالب:
"لا أدري يا طالب، كيف حدث وسرقوا بلادنا بكل هذه البساطة؟".