روايةُ "حيواتٌ سحيقة" للكاتب يحيى القيسي كتابةٌ مُغايرة ورؤى جديدة

 

حنان بيروتي

كاتبة أردنية

 

في رواية "حيوات سحيقة"، وبعد سقوط بطل الرِّواية "صالح" من جبل "النبي هارون" في البتراء، فإنه يغرق في عوالم ذاكرة الروح، ‏ويصل إلى نقطة قريبة من الموت؛ ما فتح أمامه أبوابًا جديدة لعيش تجربة فريدة عبر رحلة روحيّة في سراديب ذاكرة الروح المسافرة ‏عبر الأزمنة، كأنّه عاش حيواتٍ سحيقة باتت أحوالها تحضره دون استئذان. هذه الرِّوايةُ نتاجُ جهد دؤوبٍ في البحث والقراءة، ونتاج ‏خلفيّة ثقافيّة متعمِّقة ومختلفة، وهي تقدِّم رؤى جديدة وتحتفي بالكتابة المُغايرة. رواية تتطلّب جهدًا في القراءة وتضع القارئ أمام تحدٍّ ‏كبير، وتثير فيه الأسئلة وتحفِّزه على البحث، ليجِدَ نفسه أمام صورة الماضي العالق بأرواحنا والذي نحن نتاجُه الفكري والحضاري بشكلٍ ‏أو بآخر.‏

 

من الصَّعب أن تجدَ وسط غزارة النتاج الروائيّ العربيّ ما ينحو منحى الاختلاف من حيثُ الموضوع والصياغة والرؤى وثراء المخزون ‏الثقافي المقدم، بقدر ما نجده في رواية "حيوات سحيقة"؛ وهي رواية موجَّهةٌ لقارئ نخبوي لا ينتظر أن تمدّه الروايةُ بالمتعة والحكاية ‏والتشويق لينساها بعد إتمامها، بل يتوق إلى روايةٍ تحفزُ في عقله دهشة الأسئلة التي لا تنتهي. ‏

‏ "حيوات سحيقة" للكاتب الأردنيّ "يحيى القيسي" رواية محكمة منسوجة بإتقان وحِرفيّة مبنية على جهد معرفي واسع، ورحلة روحية ‏عبر أحداث متسلسلة بلغة وصياغة مختلفة، وبعض المفردات والمصطلحات التي تدفعكَ إلى البحث.‏

لا تطلب مُتلقيًا عجولًا، بل تتطلّب قارئًا صبورًا للمشاركة في ما يكابده بطل الرواية "صالح" إبّان غرقه بعوالم ذاكرة الروح التي ‏استيقظت من سباتها بعد سقوطه من جبل "النبي هارون" في البتراء أثناء مرافقته -بصفته دليلًا سياحيًا- لفريق تلفزي بريطاني جاء ‏ليصوِّر فيلمًا عن دخول الرحّالة السويسري "بيركهارت" إلى البتراء. وصل "صالح" بعد سقوطه في مدخل كهف غير مكتشف إلى نقطة ‏قريبة من الموت، ما فتح أمامه أبوابًا جديدة لعيش تجربة فريدة عبر رحلة روحية في سراديب ذاكرة الروح المسافرة عبر الأزمنة، كأنّه ‏عاش حيواتٍ سحيقة باتت أحوالها تحضره دون استئذان، وهو تجسيد لفكرة إنسانية قديمة تتمثل في (إمكانية عيش الإنسان حيوات سابقة ‏بأجساد مختلفة قبل حياته الحالية).‏

بطل الرواية "صالح"، تنقَّل في العمل من قطاع التعليم إلى العمل دليلًا سياحيًّا ومن ثم عمل باحثًا؛ ما يشير إلى روحه التوّاقة لتنوُّع ‏التجارب، فهو مثقف يسأل ويفكر ويحاول الهروب من القيود الفكرية والمجتمعية، ويسعى للمحاكمة الفكرية لما يراه ويعيشه أو يتذكره، ‏ذاكرته عميقة تمتدُّ به إلى حيوات سحيقة عاشها في تجسُّداتٍ قبل قرون بعيدة.‏

ربّما أراد الكاتب نبش الماضي المليء بقصص العنف والدمويّة ومحاولة محاكمته أخلاقيًّا بغيةَ الوصول إلى مرحلة وعي فكري وإنساني ‏بضرورة تجاوزه وعدم الوقوع في شِركه ومواصلة تقمص شخصياته في الحاضر؛ فشخصية "النّمس" إحدى النماذج السلبية التي تنظر ‏إلى الحياة بعينٍ واحدة ومنطقٍ وحيدٍ مغلق ومنغلق، وتطالب الآخرين بلا استثناء بالنظر وفق منظورها وإلّا فالتكفير والقتل هو المصير ‏الواجب.‏

هذه الشخصية تمثل النقيض لشخصية "صالح"؛ "النّمس" يرجع طوعًا للماضي ويلبسه ويتلبّسه فكريًّا دونما تغيير، ويريد أن يجرّ ‏الآخرين معه، فهو يمتلك منذ طفولته طاقة عنف وشر يفرّغها في وجه الحياة، ووجد في بعض النصوص والفتاوى التي تتضمّن العنف ‏توافقًا مع طبيعته وإشباعًا لطاقته تلك، كلّ ذلك مموّها بثياب الورع والتديُّن. أمّا "صالح" فقد أرجعته إلى الماضي حادثةُ سقوطه وحيواته ‏السّحيقة؛ فكأنّما كان سقوطًا ماديًا وروحيًا في الوقت ذاتِه بتلاقيه مع قعر ذاكرته العتيقة والتي انكشف عنها الستر وتحاول التفلُّت من ‏أسر الزمن والنسيان، لكنّا نجده متألمًا وخائفًا ورافضًا لما يراه فيه من دمويةٍ وعنفٍ كما في مشهد الاغتيال الوحشي للشيخ الصوفي ‏‏"الحسين بن منصور الحلّاج" أمام مُريديه؛ فهو غيرُ متصالح مع الماضي، ويحاول محاكمته أخلاقيًّا وإنسانيًّا، وغربلته بالتقصي والبحث ‏وعدم الانسياق الأعمى له.‏

الرواية تقنعك بأنك تعيش أحداثًا واقعيةً بتأسيس الأحداث فيها على وقائعَ تاريخيةٍ مثل دخول الرحّالة السويسري "بيركهارت" إلى البتراء ‏في العام ‏‎1812‎م، وقصة الممرضة النيوزلندية "مارغريت فان غيلديرملسين" والتي جاءت إلى "البتراء" سائحة في العام ‏‎1978‎م ‏واستقرّت هناك بعد أن تزوّجت بدويًّا ونشرت تجربتها في كتاب.‏

هل الذّاكرة انتقائية تميل للاحتفاظ بالذّكريات الأشد إيلامًا؟ فما يتذكره "صالح" حوادث مؤلمة مثل وجوده وسط معركة شرسة تتطاير ‏فيها الرؤوس، والسحب والانجراف في السيل في أحد أودية البتراء، أو السجن والتعذيب والقتل بطرق وحشية.‏

علاقة الحب بين "صالح" و"أليس" الفتاة البريطانية المولعة بالثقافة العربية والمكان الأردني وجماليات المشاهد الطبيعية والواقعية للحياة ‏فيه، والتي شاركتْ في التّمثيل في الفيلم الثاني الذي تناول حياة الممرضة النيوزلندية "مارغريت" التي تزوّجت بدويًّا –كما أسلفنا- أهي ‏علاقة قائمة على "رغبات دفينة في أعماقهما تسعى لردم الهوّة بين الشرق والغرب"؟ لكن الانجراف مع العاطفة دونما حساب هو الغالبُ ‏في الشرق الذي يمثله "صالح"، مقابل العقلانية والتمركز حول الذات وهو ما نجده لدى "أليس"؛ فهما يفترقان في النهاية، فهل يشير ذلك ‏إلى صعوبة الالتقاء الفكري والحضاري في الوقت الراهن؟ وأنّ هذا التلاقي يحتاج إلى مراحل من النمو المعرفي والحضاري والتخفُّف ‏من الماضي واللحاق بركب الحضارة المتسارعة؟ ‏

تحفل الرواية بالوصف والتركيز على المكان والبيئة الأردنية كما عند الحديث عن تاريخ نشوء مدينة "الزّرقاء" والمكان الزرقاوي الذي ‏تطوَّر عبر الزمن، وشاركت البيوتُ المتراصةُ أكسجينَ وشمسَ السّكان الّذين قدموا من أماكن متباينة ولغاياتٍ مختلفة كالعمل في مصفاة ‏البترول، والّذين شكّلوا نسيجًا مجتمعيًا متنوعًا، كلّ ذلك أسهم في بناء شخصية البطل "صالح" الذي ارتبط بالمدينة ونشأ فيها متأثرًا بالبيئة ‏الخاصة بها، لكنه ظلّ يسعى إلى أماكن جديدة، وإلى تنويع تجربته ساعيًا إلى الحرية وللتحرّر من الحاضر المتمثل في القيد المكانيّ ‏والاجتماعيّ وصور التعصب الدينيّ وحتى القيد الروحيّ؛ فروحُه تتقافز عبر الزمن مستحضرة تجارب عاشها، وهي تسكنُ في لاوعيه.‏

وهو الذي أدمن على العزوبية، على الرغم من إلحاح والدته بأن يتزوج كي ترى أبناءه قبل وفاتها، لكنه يهربُ من الحياة الاجتماعية ‏الرتيبة، ويتمنى التخلص من الضغوطات الاجتماعية والحياة النمطية الثقيلة على روحه الساعية للتحليق في فضاء مفتوح من الحرية، ‏والساعية في الوقت نفسه لفتح آفاق في ذاكرة الروح. ‏

أحدُ أسئلة الرواية الكبيرة جاءت على لسان شخصية "أليس": "المذابح التي تجري في بلادكم اليوم هي نتيجة طبيعية لسوء قراءة ‏الماضي، الفارق إذن كبير بين مَن ينتصر للحاضر ويؤسّس للمستقبل ويحتفي بالحياة، وبين مَن يبقى حبيس كوارث التاريخ"(ص99).‏

الروايةُ نتاجُ جهد دؤوبٍ في البحث والقراءة، ونتاج خلفية ثقافية متعمقة ومختلفة وتقدِّم رؤى جديدة وتحتفي بالكتابة المُغايرة، رواية ‏تتطلب جهدًا في القراءة وتضع القارئ أمام تحدٍّ كبير، وتثير فيه الأسئلة وتحفِّزه على البحث وتضعه أمام صورة الماضي العالق بأرواحنا ‏والذي نحن نتاجُه الفكري والحضاري بشكلٍ أو بآخر، لكن كيف نقرأ الماضي وكيف نتعاملُ معه؟ وكيف نعرف إنْ كان التاريخ يصدُق ‏أم طالته ألوان التغيير والتعديل؟

عندما عمل "صالح" في مركزٍ للبحوث كتب لنا بعضَ ما توصَّل إليه من أحداثٍ موثّقةٍ بأسماء شخصيات تاريخية تتقطر منها الدماءُ ‏وصورُ العنف والوحشية والتفنن في أساليب التعذيب، ورفض الآخر المختلف بقتله ولو بأساليب ملتوية كدسِّ السم في طعامه أو شرابه؛ ‏وهو نتاجٌ أخذ من الكاتب جهدًا كبيرًا في جمعه وعرضه أمام القارئ الذي يقفُ مندهشًا من تكاثر التفاصيل المضمَّخة بالدم في ذاكرته ‏الجمعية؛ فكيف نتعاملُ مع الماضي؟

هل تستغرقُ بالآن بالحاضر متناسيًا الماضي كما يفعل "غاريث"؟ أم تتجاوزه محتفيًا بالحاضر ومؤسِّسًا للمستقبل كما رأت "أليس"؟ أم ‏تعود إليه وتستنسخه فيك وتفرضه بالقوة على مَن هم حولك كما يفعل "النّمس"؟ أم ترجع إليه وتعيد محاكمته والتمحيص فيه كما سعى ‏‏"صالح" بطل الرواية؟