للكاتبة الأردنية "إنتصار عباس"
محمد عطية محمود
كاتب وناقد مصري
تشكِّل القصص القصيرة جدًّا أو الموضات السردية ملمحًا مهمًا من ملامح الكتابة القصصيّة الجديدة، وتفتح أبوابًا مهمّة لتغيير سُبُل التعبير المعتادة، فالمهارة اللغوية هنا لا تكفي كي تقدّم تلك الوجبة الدسمة المختزلة في عدة أسطر أو كلمات، بل تعوزها عناصر عدّة لا تختلف عن المعايير المعتادة للقصة القصيرة، وقد استطاعت الكاتبة إنتصار عباس في "حرائق حلم" أن تقدِّم صورًا مكثَّفة ومختزلة لحالات خارجة من عتمة الوجود الداخلي للذات إلى براح التعبير المقنَّن بلغة النص السردي القصير، عبر تشكيل سريالي تمثَّل في جملة قصصيّة مانعة تعطي صورة شاعريّة ومشهدًا سرديًّا مكتملًا.
"لا يستطيع الإنسان مطلقًا أن يتوقف عن الحلم"
باولو كويلو
عندما تتشبَّع الكتابة القصصية بروح الشعر، تصبح الجملة أكثر اتساعًا للتأويل وانزياحًا في براح المعنى، لتميز فن القص الذي يعتمد على حمولات أكثر تركيزًا وأكثر حساسية تستقي من الشعر شاعريته وذهابه إلى الهدف المحدد له من أقصر الطرق، ملتحفة بعنصر الحكاية الذي يزيد القص رونقًا ونصوعًا ومقدرة على تقديم رؤيته المغايرة للعالم من حوله دونما إطناب أو استرسال أو استعراض لمكنونات المعنى وظاهره، وحيث تلعب اللغة هنا دورًا بالغ الأهمية كوعاء يحتوي تلك الرؤى الحالمة/ الرومانسية المغرقة في التماس موضوعات وجدانية، ربما اشتغلت على الحالة الباطنية المختبئة داخل خلجات الذات، وكرّست لها. وربما اختلط هذا المزيج المضفر من تلك العناصر التقنية، بتلك النزعة العبثية/ المفارقة التي تحف النصوص لتجعل منها توليفة يتقابل فيها المتناغم والمتعارض لتصنع لوحات دالة على الوجود ومتشبعة بتناقضاته التي تصنع الحياة، مما يجعل هناك اشتباكًا دائمًا محفوفًا بالجدل النفسي والذاتي، ومشتغلًا بعناصر: الحلم والأمل والترقب والانتظار.. التي تشكل بداخلها معادلة تتفاعل كي تنتج المزيد من القلق والتردد بين التحقق والإحباط.
ربما كان هذا المدخل مهمَّا للولوج في المجموعة القصصية "حرائق حلم"(*) للقاصة والكاتبة الأردنية "إنتصار عباس"؛ فبداية من عنوانها الدال تبدو لنا شاعرية التركيب وتضفيره بين المادي في الحرائق، والمعنوي في الحلم، وتكريسًا لهذه الحالة غير المعتادة التي تنحو نحو العبثية والكابوسية في محتوى العنوان المربك، ليكونا معًا مزيجًا دالًا على اشتغال قصص المجموعة على ثيمة الوجدانيات المحترقة، والتي ترصّع في عمومها ودلالات وجودها ودورها الفاعل في متن النصوص السردية جُلّ العناوين الداخلية لنصوص المجموعة؛ لتكون دائمًا هناك علاقة بين مكوّنات العنوان، وبين ما تطرحه متون النصوص، سواءً من عتباتها التي تؤكد على تلك الشاعرية في التناول، والجنوح نحو اشتعال تلك العلاقات الداخلية بجدل الفكرة وجدل العلاقات الملتبسة بين حدّي النص أو حدوده المتعددة (شخوصه) أو تفاصيلها..
ففي نص "أحلام ستار" تبدو تلك الافتتاحية التي تجسد معاناة العجوز في انتظار من يطفئ شوقها باللقاء، فتبدو العلاقة بين ستار النافذة والحلم بهذا الغائب، علاقة العنوان بين مفردتيه الحالمتين أو العائشتين في وهج الحلم:
"تحدِّق في البعيد، تنتظر ذلك القادم من رحم الغيب، نسمة باردة تهز جوانحها، حبات مطر ترشح على الزجاج، تحدّث نفسها: عاد المطر يسكب عطره في الأجواء، ينشر روائح اللوز، وتغلق النوافذ، صوت فيروز"(حرائق حلم، ص27).
وهكذا تبدو البداية مشتعلة بالحلم ورومانسية المفردات التي تعانق حالة الشوق والانتظار، وتجعل من العلاقة السديمية علاقة من نوع آخر مع السِّتار الذي يحول بينها وبين العالم، وتقع معه في حالة عشق وهيام تستعيض بهما عن غياب المحبوب، لتضع أسباب العلاقة بين السِّتار وبين الحلم المتجسِّد فيه، رغمًا عن النهاية المحبطة، ليلعب النص على وتر الحالة الإنسانية الأسيانة التي تضمخها بالعبارات الصافية والاستعارات والمجازات التي لا تقتلع من الشِّعر ولكن من شاعرية الحالة.
كما تبدو رومانسية الحالة القصصية من خلال نص آخر هو "حكاية أصابع"، حيث يقود العنوان المكوَّن دائمًا من مفردتين مرتبطتين تؤنسنان بعضهما بعضًا على نحو التقارب والاندماج لوحدة تريد صنع حالة قصصية فنية تتبارى فيها الكلمات والألوان في نسق شجي، يحرك الكوامن ويلعب على سيريالية الصورة التي تؤنسن مشاعر الجماد حين تستنطقه:
"اعتاد أبي رشق الألوان على الجدران والنوافذ، تصحو أحلام أمي تمطر الحديقة، وتلك تمتد حتى غدت واحدًا منّا، ذات صباح رشق قهوته على الجدار وبأصابع ملهمة بدأ ينشر الألوان فخرجت شجرة، ثم شجرة، صار بيتنا بستانًا، والمدرسة فرحة عيد، داهمنا الموت وسرق أصابع أبي، أحلام أمي، وتوقف نبض الحديقة والألوان عن الجريان"(ص37، 38).
تقدِّم هذه الصورة الشفافة، لهذا العالم الرومانسي المختَرَع من خلال براءة المعنى والألوان التي أصبحت كائنات في ظل الحلم، ثم جاءت أصابع القدر كي تمحو كل الآثار الجميلة، والتي تحولت إلى واقع بفعل سحر الكلام، إلا أنَّ الإجهاض يسم كل شيء يعترض على حالة الفناء التي تؤول إليها كل الأشياء، كفلسفة وجود تقنع بذلك على الرغم من مرارته، فهنا يلعب الاختزال والتكثيف دورًا بالغًا لإحالة الحالة على الواقع ربما برموز الحلم التي تتوازى مع رموز: العطر والشجرة والعالم الجديد الذي تحوَّل بفعل الجمال إلى بستان وغابة وفرحة، ثم انتهى إلى زوال، بحس فلسفي يتناسب مع حالة الجمال المُشتهى.
كما تتعدَّد الصور الجمالية التي تطرحها النصوص من خلال نص آخر هو "زقزقة النهار" الذي يحمل عنوانه براءة الملمح الرومانسي الدال على حلم مجهض ربّما لم يبشّر به العنوان، ولكن تأتي به العتبة النصيّة التي تتمنّى وتقول:
"ماذا لو جاء النهار وقدَّ من قلبك غيمة من قُبل..؟! ماذا لو جاء النهار وأمطرنا بالتلاقي، كنت أنت الشمس وأنا المرايا نحرق كل أيام الفراق..؟! ماذا لو... ماذا لو"(ص43).
تتوازى الصورة الشاعرية هنا مع صوت الحكاية التي يود النص أن يقدمها طازجة بين يدي قارئه، حيث يبدو الاتكاء على "ماذا لو؟" مؤكدًا على مدى التعلق بالحلم والتمسك به على الرغم من تفلته، ومدى استحالة الحدوث أو التحقيق ممّا يوحي بالكثير من المفردات التي يتسع لها فضاء النص لتجترح قصة عشق ترمز لها بكلمات قلائل دالة على الانغماس، ومن ثم استمرار حلم التلاقي والعناق الذي يعد من أبرز ملامح قصص المجموعة، حيث إنَّ القيمة الجمالية والرمزية التي تهدف إليها تلك النصوص تسعى لتجاوز هذا الحيز الضيق من الآمال والتطلعات إلى معانقة الجانب الشعوري الأكثر سحرية وتأثيرًا معنويًا لتنطلق فيه الخيالات المجنَّحة لتصنع عالمًا قد تتحقق فيه هذه الطموحات والآمال:
"لكثرة زقزقة جسده طارت يداه، كان يوصد الأبواب والنوافذ، وتلك تنفذ من ثقب الباب.. لكثرة زقزقة جسده ذات نهار، صار نهرًا يسبح في المرآة"(ص44).
تلك الشاعرية التي يفيض بها النص، والتي تؤنس تلك الوحشة المحفوفة دائمًا بتغلب الحقيقة على المجاز في صورة أثيرية متحولة في الفضاء تتنسَّم طعم الحرية ومذاقها الشهي على مذبح الأمل في الانعتاق.. ذلك الكائن الأسطوري الممغنط بالحياة، العائش على أمل تحوُّلها وانحيازها في صفِّه، والوقوف بجانبه، يتحوَّل لدى السرد الشاعري إلى كائن لا تحتمل خفته يتسلل لكي يكتمل وجوده ومتنفسه في حركة مباغتة تؤسس لها شاعرية اللغة وتمثل ركنًا ركينًا من أضلاع النص السريالي بامتياز:
"تنحَّت خطواته للوراء، وبقيت الأصابع معلّقة في الهواء، تودع طريق العابرين، أقفاصها تؤمم الحياة"(ص44).
هذه الصورة لعصفور/ معنوي، يتجسَّد أنات وأحلام الإنسان في صورة إنسانية -بالأنسنة كعنصر سريالي مميز- تجسد الواقع النفسي والمادي معًا من خلال الانعتاق من الأقفاص التي تمثل رمزًا ومعادلًا موضوعيًا للحبس/ الاعتقال داخل حيِّز أو مكان أو فضاء متكامل بكائناته وطقوسه، أو داخل تلك البؤرة المعتمة التي لا يرى فيها الكائن/ العصفور/ الإنسان شيئًا من مصيره المأمول، لتمثل فلسفة النص هذا المنعطف الجمالي للسيرة المشتركة التي تسم حياة الكائن الحيّ في مجمله وفي رحلة تلاقيه مع رموز حلمه الغائب الذي يتقاطع ضمنيًّا مع كل تلك التفاصيل.
• عبثيّة الوجود
كما تأتي صورة من صور الحلم المجهض في نص "حنين" لتشهد على انتحار هذا الحلم المعنوي على عتبة أهوال الحياة وعوارضها التي لا تستجيب للمغامرة، مغامرة الوجود القلق على سطح الحياة، وهو ما يشي به ضمنيَّا هذا العنوان المؤلَّف من مفردة واحدة معبِّرة عن ازدياد الرغبة في معانقة الحياة واستمرار الجريان مع تيارها المتدفق، والذي قد يكون منذرًا في الوقت ذاته بالنهاية أو عدم تحقق هذا الحلم العنيد، فكل على موعد مع حلم تلاقيه، أو انتفاء هذا الحلم والانتهاء إلى العدم كنهاية عبثية وحتمية في الوقت ذاته:
"كان هادئًا، يبعث الحياة في النفوس، يبحر بالأحلام الكبيرة والصغيرة.. ضمَّت الصغير إلى صدرها، طوَّقهما الأنين بذراعين من فولاذ، مضى الماء بهم، رمت الشمس بضيائها في وجوههم المسافرة، تهتز صورهم في الماء تنذر بالموت القادم"(ص47).
تلعب الصور السردية هنا على المفردات الرامزة حيث يفتتح النص بالمضمر من القول بضمير الغائب في "كان هادئًا"، بما يفتح باب التأويل لذلك الكائن الرامز إلى الحياة/ القارب/ البحر.. الذي يحمل تلك الأحلام بالوصول على الرغم من المخاطر والأنواء وعلى الرغم ممّا ينتظر الأم ووليدها من أخطار، وقد فروا من الخطر إلى الخطر، وقد أعطاهم الموج/ موج الحياة وتيارها الساري المطمئن ظاهريًّا والحامل في طيّاته كل المفاجآت، وكل الأفعال العبثية التي لا تُحتمل، والمراوغ بهذا ذلك الإحساس العبثي بالهدوء:
"لكن الموج كان طمّاعًا، لم يكن ليكتفي بقبلة، بل عاد أكثر ضراوة وشراسة، يهزّ القارب ويقترب.. علت الأصوات فزعة تستنجد: يا الله! لم يكن قلب الصغير ليحتمل كل هذا الشوق الهائل وهذا الجنون، وكذلك الجميع ظنوا أنَّ الحياة ستبقى حياة ولن تخذلهم. أو علَّ أقدارهم تُسكت البحر عنهم فيغدو يباسًا وينجون"(ص47).
هكذا تبدو التحولات شاهدة على العبث المجنون للحياة في دورة من دورات تقلبها وتفتيت حلم النجاة والوصول، من خلال تقلبات أمواج الحياة التي تتوازى مع أمواج البحر الباطشة في صورة من صور المعادل الموضوعي المبثوثة داخل النصوص كتقنية سردية لها تأثير بالغ، وبتلك الفلسفة الرامزة المختلطة ببعض الوقائع الدالة على الوجود المادي وسط هذا الصراع للحياة التي تحولت من بحر ساكن إلى بحر متلاطم الأمواج لا يرحم ولا يؤتمن كي يحقق حياة متوازنة تركن إلى الدعة والاستسلام المريح لمعنى الحياة، دونما النظر إلى المقابل وهو الموت والتلاشي والعدم والدخول في عبثيته العجيبة التي لا تقر شيئًا على حاله، لتكون النهاية الحتمية المستسلمة لهذا العبث والجنون:
"لكن الواقع كان أقسى من كل الظنون ولم يعد بمقدورهم فعل أي شيء، في الصباح كانت أجسادهم تزهر ورودًا على وجه الماء كما تزهر الزنابق على شواهد القبور.. وراحت أرواحهم تكمل الطريق"(ص48).
بهذه النهاية الشاعرية يبدو الرهان على حتمية تحقيق الحلم قائمة على مستوى الرمز والشعور بتلك الشاعرية التي تنبثق من الأرواح وتلقي بظلها على النص وسارده الذي يسبغ على تلك الكائنات بحياة موازية -بعيدًا عن ماديتها وانتصارًا لأحلامها المجهضة في مواجهة الوجود- وإن كان من خلال العدم والانتهاء، لتقوم الأرواح –الباقية- بتكملة مشوار الوجود الحقيقي بدلًا من الأبدان –الزائلة- بهذه الفلسفة العميقة من ناحية، وهذه الجمالية الفنية -من جهة أخرى- التي تكمل الصورة الإنسانية بالبعد الميتافيزيقي/ الروحاني الذي يتسلل إلى هذا النص أيضًا ليكون موازيًا للبعد السريالي الذي تحقق إلى حد بعيد من خلال النص السابق.
• ظلال الحلم.. القصة الوامضة
تشكِّل القصص القصيرة جدًّا أو الموضات السردية ملمحًا مهمًا من ملامح الكتابة القصصيّة الجديدة، وتفتح أبوابًا مهمة لتغيير سبل التعبير المعتادة، فالمهارة اللغوية هنا لا تكفي كي تقدم تلك الوجبة الدسمة المختزلة في عدة أسطر أو كلمات، بل تعوزها عناصر عدة لا تختلف عن المعايير المعتادة للقصة القصيرة التي لا يختلف عليها اثنان، وفي هذا المتن القصصي ترتاد الكاتبة هذا الحقل المهم والمحفوف بالمخاطر، تلك التي تتوازى مع مخاطر الإمساك بالحلم التي شكلت ثيمة رئيسة في قصص ونصوص وومضات تلك المجموعة القصصية؛ ففي نموذج "ظلال حلم" تقدم الكاتبة صورًا مكثفة ومختزلة لتلك الحالات الخارجة من عتمة الوجود الداخلي للذات إلى براح التعبير المقنَّن بلغة النص السردي القصير، فنجد من خلال المقطع الأوَّل لتلك الظلال الحُلميّة هذا التشكيل السريالي المتمثل في جملة قصصيّة مانعة تعطي صورة شاعريّة ومشهدًا سرديًّا مكتملًا:
"في الصباح كان يرسم عصفورًا وكنت أرسم ظلّه.. يطير العصفور، وتسير الظلال.. في المساء تفتح الظلال صدرها للعصفور، ينام العصفور وتسكت الظلال"(ص73).
حيث يبدو الفضاء الحكائي لتلك الومضة متسعًا على حالة من البراح النفسي والوجداني لتلك الكائنات التي تمثل عنصر البوح لدى السارد والمسرود عنه بهذه الديناميكية السردية القادرة على إماطة اللثام عمّا يدور بالداخل المسكوت عنه، والذي تعبِّر عنه تلك الحركات الذهنية الممغنطة بسحر السريالية، بالانزياح، مع مهارة إعطاء مساحة لتذويب الزمن وعدم الشعور به؛ كي تكتمل تلك الومضة وتصل إلى تحقيق نقطة معادلة وجودها، بالصمت والعودة إلى الاستاتيكيّة والسكون، بما يعبِّر عن دوران الحلم في فلك وجوده، وعدم اكتمال تحقيقه، كمؤشر على الثبات والدوران المستمر في فلك الأحلام كعادة نفسية وذاتية ممعنة في الحضور، تكمل انسيابيّة إجهاض الحلم أملًا في عودة تحقُّقه من جديد..
وهي الحالة التي نجدها في المقطع الثاني، والتي تلعب على ثيمة حلم التلاقي نفسها، ومن ثم الاكتمال بتلك السمة الحلمية التي تتغلغل في تفاصيل الماضي لتجعل منها متكأ ومنطلقًا لاكتمال تلك الصورة في الحاضر:
"كنّا إذا تعانقت في الهواء أصابعنا صفق صوتك بجناحيه خفاقًا في خاطري، أجيئك وتجيء، نسبق المسافة لنلتقي.. كنت وكنّا".
هكذا يبدو الشطر الأول من الومضة شاهدًا على حركة في زمان مضى بصيغة تثبيت الفعل في الذهن كذكرى كانت، وكجرس تنبيه للحنين وكحلم/ رغبة في استعادة ما كان، من خلال الوعي السريالي الذي يؤنسن الصوت، من جهة ويدخله في غمار التشبُّه بالطائر من جهة في جملة مركبة بالغة التعقيد والدلالات ومشبعة بالصور النازفة التي تقطر من الذاكرة، ولكن المفارقة التي يصنعها اختلاف الزمن تضع النهاية العبثية لذاك الحلم، بتثبيت الحاضر بصوره الحقيقية الشاهدة على التحول وعلى عبث تلك المقابلة التي ترسخ في الروح تلك الحالة من التسليم والانهزام أمام جسارة الحلم وعصيانه على اكتمال التحقق، فربما كان بين الزمنين المزيد من الأشياء والأحداث التي سقطت بالتقادم وسكتت عنها النفوس الجريحة إمعانًا في تعظيم دورها في ما آلت إليه هذه النهاية:
"اليوم أودعتك روحي تمضي، فإذا ما التقينا، صدفة، كنت جسدًا خاملا بلا حراك، وكنت مقعدًا في الشمس ملقى يصلبه فراقي"(ص73).
وهي الصورة التي لا يزال الحلم يحلق فيها مؤملًا بالتحقيق، في نصوص "حمى الانتظار" التي تعد امتدادًا لصيغة الحلم وامتلاء به، والتي تكثف فيها الكاتبة هذه الحالة من الانتظار والترقب على شرف الحلم المستمر/ حلم اليقظة الذي يمضي بها كي تنسج هذه الحالة من التخفي بين حبيبين كل من خلف ستار وقناع، دون مواجهة حقيقية تتحرك فيها المشهدية السردية كي تحقق ركنًا ركينًا من أركان الومضة الممتلئة بالحس والحركة والفاعلية:
"يرقب النافذة أن تمرّ ظلالها في الشارع، ظنّه الناس تمثال شاعر ضمَّت الصبايا أشعاره إلى صدورهن وهن يجلسن حوله يأخذن صورًا تذكارية.. كان غارقًا في النافذة.. وكنت أحلم أن أكون هي!"(ص75).
يتشكَّل الفضاء النفسي هنا ليشعل حالة الحلم المتبادلة التي يعيشها الطرفان من خلال بوح الساردة التي تقيم أركانًا لعلاقة مشتهاة تظل تنشد الحلم وتتغيّاها في مساحات من الأمل الذي يعضد حالة الترقب والانتظار ويمدّها بوقود الاستمرار إمعانًا في الحلم، وهو الذي ربما يتحقق في المقطع التالي من تلك النصوص على شرف تلك الديمومة والاستمرار:
"مرَّ العمر وهي تكتب له، وبعد طول غياب جاءها الرد: لم يكن ليصلني البريد أخذتني الحياة ولهفة الانتظار أرسلي صورك فقد مرّ زمن لم يطالعني وجه، حتى المرايا رحلت عنّي ولم أعد أراني فيها"(ص75).
تلك الحالة الرومانسية المرتبطة بتحقق الحلم، وإن كان جزئيًّا، تأكيد على أهميّة الانتظار والترقب، تلك التي تدفع الساردة كي تظل على عهدها وبقائها على محفّة الرغبة في اكتمال حلم التلاقي، كي تداوم على حالة اللهفة التي يصنعها الشوق والتجدد الذي يوقظه الأمل:
"طارت أصابعها فرحًا وهي تكتب له: أصبت بحمى الانتظار، ونقلت العدوى لكل ما حولي، حتى ساعي البريد انتقلت إليه العدوى. زقزق الفرح في عيني ذاك الساعي وهو يردّ عليها: غزالة الروح وأيقونة عمري.. آه كم أحبك.. سأهزم هذا الفراق وأعود.. يغمض عينيه يرى الفرح في عينيها وهي تقرأه الرسالة، يأخذ نفسًا عميقًا ويوقع باسم ذاك الحبيب"(ص76).
ليتحقق الحلم في صورة ساعي البريد، وهو الأمر القدري الذي تسوقه لنا الحكاية التي بدا اكتمالها في هذا الموقف العبثي الذي أتت به الصدف والظروف ليكون تحقيق الآمال وثمرة الانتظار من خلاله، لتستمر تلك الشخصية على رومانسيتها وخيالها المتسع للمزيد من التحقق، ولتصير نموذجًا لما يمكن تسميته "الحمى التي تجتاح الذات"/ النفس البشرية في الانتظار والترقب الذي برغم مرارته لا تملّ منه النفوس، وليشكل الحلم ذاته وعيًا من نوع خاص للتنفيث عن حاجات البشر، ولتنجح الكتابة إلى حد بعيد في إزاحة هذه الحالة على الواقع الذي لا يني يتوقف عن حاجته للحلم كمعادل موضوعي لحالات الوجود الإنساني والذي ربما تحقق فيه ما لا يتحقق في الواقع، والذي ربما كان إرهاصًا ومخاضًا لما يمكن حدوثه في الواقع.
وكما يقول "باولو كويلو": "لا يستطيع الإنسان مطلقًا أن يتوقف عن الحلم. الحلم غذاء الروح كما أنَّ الأطعمة غذاء الجسم. نرى غالبًا خلال وجودنا أحلامنا تخيب، ورغباتنا تحبط، لكن يجب الاستمرار في الحلم وإلا ماتت الروح فينا".
- - - - - - - - - -
(*)حرائق حلم، مجموعة قصصية، إنتصار عباس، وزارة الثقافة الأردنية، 2020.