للقاص سمير أحمد الشريف
د. هدى ميموني
باحثة أكاديمية وناقدة مغربيّة مقيمة في مصر
الكاتب الأردني سمير الشريف مبدعٌ ورائدٌ من روّاد كتابة القصة القصيرة جدًا. أخلَصَ لهذا الفنّ وطوَّر فيه، ولديه الإمكانات الخلّاقة لأن يطوِّر فيه أكثر ويُغنيه بكل ما هو جديد، وهذا ما أشارت إليه مجموعته القصصية "ماذا لو؟!" الصادرة عن وزارة الثقافة الأردنيّة، في العام 2021 وتضمّ مئة وعشرين قصة قصيرة جدًا.
عَرَفَ فنّ القصّة، خلال تاريخه الطويل، أنواعًا عديدة من القصّ، ففي كل مرحلة من التاريخ كان القاص يجسِّد تجربته ويرشح برؤيته إلى عالمه، وينهض بأداء مهمّات الأدب في المرحلة التّاريخيّة التي يتشكّل في سياقها، فكانت في القديم الحكاية بمختلف أشكالها والأسطورة والحكاية الخرافيّة والأمثال وحكاياتها والأسمار، والسّيرة والمقامة… وفي العصر الحديث الرّواية والقصّة القصيرة جدًا، ويندرج ضمن هذا الشكل الأخير المجموعة القصصيّة ذات القصص القصيرة جدًا "ماذا لو؟!" للقاص الأردني سمير أحمد الشريف.
ولأنَّ عملية التلفُّظ اللساني ترتكز على إنتاج النصوص الفكرية المتنوِّعة بالاعتماد على شخصية القائل، الذي تظهر تصرُّفاته ومواقفه المختلفة، من خلال "علامات التنميط"، فعلاوة على هذا، فانَّ عملية تنميط الملفوظ القصصي لا تكتمل إلا بحضور أو غياب بعض الضمائر والصيغ والعلامات اللسانية الخاصة، التي تحدِّد شخصية القائل أو المخاطب وتضبط بطرائق متنوعة المستويات المختلفة، التي تبلور مشاركة أحدهما أو تنصله من المسؤولية المتعلقة بمضامين الملفوظات القصصية.
وأيّ قراءة تدّعي لنفسها الفحص والنقد والتحليل، تحاول البحث في المعروض على أنه رسالةٌ ما في كلِّه ومجموعه البصريّ، تناسجَتْ على صوغه مجموعة من الأنساق والأشكال البصرية، سواء أكانت لغوية أم غير لغوية، تخبر في كثير من الأحيان عن مضامين وتضمينات تزداد قوة بأنساقها واتِّساقها بما توحيه من توجُّهات تقربها من أحادية الخطاب، وهي بهذا تحيل المطبوع إلى نص متكامل ومتجانس يوحِّده عنوان (الكتاب)، وفق فضاء صوري شكلي لا يخلو من دلالات تحكمها قصديّة منتِج الكتاب بناء على الاعتبار التواصلي مع القارئ.
في لغة أدبيّة نادرة ومفقودة في يومنا هذا، يحملنا القاص والناقد الأردني سمير أحمد الشريف بإبداع وحرفيّة لامتناهية وبلغة خالية من التعقيدات وحشو الكلام والعبارات الرنّانة الخاوية، على أجنحة من الكلمات والتعابير التي تخترق الروح، وتنقلها باللاوعي لتخيُّل أجواء فلسطينية.
وبما أنّ وتيرة الحياة دائمًا في تغيُّر وتقلّب فإنّ الأدب يتأثر بهذه المتغيّرات، ما يسهم في ابتكارات أدبيّة، وفي ظهور أجناس أدبيّة تنطلق من الموجود لتصنع جديدًا. وهذا الجديد يحتاج إلى نقد تجاوزيّ يفتح آفاقه على أبعاد مختلفة.
• الممارسة الخطابيّة النقديّة
تقوم شخصيّات مجموعة "ماذا لو؟!" بتصرُّفات متنوِّعة وتتَّخذ مواقف متباينة، هي في الحقيقة عبارة عن دوافع محدَّدة، تذيع بين المتلقين العرب "وظائف قصصية" مهمة. لذا فإنَّ تحليل الملفوظات القصصية المؤسِّسة لهذه المجموعة يبرز لنا مواقف ودوافع الشخصيات، من خلال مفهوم "التنميط القصصي".
يفرض عنوان المجموعة سلطته على الغلاف الخارجي لها. وتكتنز قصص هذه المجموعة باحتوائها مئة وعشرين قصة قصيرة جدًا، بشخصيات مختلفة الرُّؤى والتصوُّرات والملامح:
وكما نعلم جميعًا أنَّ القراءة النقدية عملية قراءة نشطة وأعمق وأكثر تعقيدًا في التعامل مع النصوص، وهي عملية تحليل وتفسير لخبايا النصوص وإظهار مواطن القوة والجمال، وكذلك مواطن الضعف في النص ليستفيد منه الكاتب والقارئ. المهم أن يكون النقد بنّاء ويساعد الجميع بنظرة فاحصة عميقة راقية للنص،
وأن يتقبّل الكاتب وجهة نظر الناقد بصدر رحب.
ليس كل مَن يقرأ عن ملامح النص يكون ناقدًا، وعديد من الأدباء يدخل إلى النص بغرض عمل قراءة، فيخرج من النص مهرولًا، هاربًا من هذا المستوى الراقي الذي لم يجد إليه مدخلًا أو منه مخرجًا، وهنا يبدأ في رحلته مع هدم النص من أساسه، ومحاولة اقتلاع الأديب من جذوره.
وفي المقابل، فإنَّ لدينا أيضًا الأدباء النقاد أصحاب الخبرة الواسعة والدراية اللامعة، والتذوُّق الواضح للنصوص التي يقومون بعمل قراءة لها، ويستمتع القارئ بقراءته لهذا التحليل والتقييم كمتعته بقراءة النص أو أكثر، فهو يغوص مع الأديب الناقد في أعماق النص مستكشفًا لمجال وزمان ومكان ومقصد وفكرة لم تخطر بباله.
• قراءة في نصوص قصص "ماذا لو؟!"
في ما يلي نقدّم قراءة في بعض نصوص تلك القصص القصيرة جدًا من مجموعة "ماذا لو؟!":
"موضة: بعد انتهاء المؤتمر الوطني، عرّجت زوجة الرئيس إلى باريس، لإلقاء نظرة عى آخر صرعات الموضة".
القاص يلخِّص بسهولة ويُسر معاناة أغلب الشعوب مع حكّامها، وبالذات مَن يرفعون شعار الوطنيّة والموت في سبيل الوطن المحتلّ.
وفي قصة "فضاء": بطل القصة، تتنوّع همومه وأحلامه بالأرض المحتلة. وتتكرر هذه الهموم والأحلام في القصص القصيرة جدًا التالية، ومنها على سبيل المثال:
"ليل": أحد الجيران، يحمل الهموم والأحلام عينها.
"أرجوحة": صاحب أرجوحة متواضعة يُفَّرِج عن أطفال الاحتلال ويموت بشهقة.
"ترتيب": يسكن في الجوار، وكان يساهم في المخططات والمناقشات "تقاعد من النضال، ولزم الرصيف، يبيع الخضار".
"تصويب": الجندي الصهيوني يهاجم أمرأة مسالمة في طريقها فتقاطرت في خياله سهام دمائها... لكنه تصويب من دون فائدة.
"جواب": عتاب صاحب الحِكَم الفلسطينية الرمزيّة.
وتتحرَّك قصص "ماذا لو؟!" تبعًا لعدة دوافع، تخلق "وظائف سردية" مهمة، تُعرب شخصيّاتها عن عدّة مواقف وسلوكيّات حسيّة وفكريّة وعاطفيّة واجتماعيّة ووطنيّة وغيرها، كما تجسِّد "وظائف قصصية" خاصة.
وفي هذا الاشتغال القصصي القصير جدًا المملوء بالحركة والجلبة يلعب العنوان دور الوسيط بين النص والقارئ، ويمتلك من خلال تصدُّره سلطةً ما، ويعلِّق كاتب النص على عنوانه كثيرًا من آماله حول توجيه خطاب نصِّه إلى الناحية التي يريد، ويعين القارئ على الاتجاه الصحيح نحو تفهُّم المعنى المُراد إضافتة إلى خاصية التواصل المستمر، تلك الخاصية التي تميِّز اللّسان المكتوب من كون تلقّي النص المكتوب يحدث خارج إطار مكانه وزمانه الأصليين.
• العنوان "ماذا لو؟!"
نحاول في هذه القراءة الاشتغال على العلاقة الحقيقية بين الكاتب والقارئ من خلال تحسُّس مواطن أثر العنوان في المجموعة القصصية "ماذا لو؟!"، باعتبار العنوان يقع على رأس العمل الكتابي الذي تبدأ منه الحكاية، ثم تتحوّل عبر السرد الكتابي إلى أشكال خطابية، ومن ثم إلى نص متكامل في شكل مجموعة قصصية.
يتموضع على الغلاف الخارجي عنوان تجتمع حوله البنى الدلالية، وعليه تدور رحى البنى الحكائية للقصص، التي اختار لها الكاتبُ الوطنَ المحتلّ باقتدار منقطع النظير فضاءً مكانيًّا وضع فيه بناه الحكائية لقصصه. ولا تكفينا أن تكون مشتركة فيما بينها في فن القَصّ القصير جدًا، وإنَّما نبحث عن التجانس بين المجموعة بكونها معدّة قصدًا للنشر وفق هذا الشكل، ونحاول إيجاد إجابات محسوسة تسوّغ اختيارها، ويعطيها هذا الجمع تحت العنوان معنى جديدًا.
ولا يجلس الكاتب، أو القارئ، منقطعًا عن وسطه المكاني والزماني، ممّا يسمح للنص بالانفتاح على أكثر من زمان، وبالتالي يتَّسع بالتأويل، ويقبل الكثير من التفاسير والتحاليل، وذلك نتيجة الخلخلة الحاصلة في شبكة المرجعيّة لدى طرفي التواصل الكتابي، وعليه فانَّ الكاتب والقارئ يتكئان على نسيج العلاقات الداخلية للنص المكتوب، بينما يموت النص الشفوي مع انتهاء وقت الصوت.
من هذا الفراغ بين الكاتب والقارئ، تنبع أهمية العنوان في تحقيق تواصل واع ومدرك بقوانين التواصل اللساني، التي تعتبر "العنوان" علامة، ودالًا على مرتبة الكاتب من المُكاتَب. فالأصل فيه الإخبار عن اسمَيْ الكاتب والمكتوب إليه حتى لا يكون الكتاب مجهولًا. إذ تتحوَّل العتبة الأولى (العنوان) إلى خلق جديد (المناصة). والمناصة في عملية التفاعل ذاتها طرفاها الرئيسان هما النص والمناص، وتتحدَّد العلاقة بينهما من خلال مجيء المناص كبنية نصية مستقلة ومتكاملة بذاتها، ولها قيمتها القصوى في التحليل. وتساعد على اشتغال، وتداول مجموعة "ماذا لو؟!" بتلاقح أمثل بين الكتاب والقراءة، الموصلة إلى فهم شرعي يستند إلى أبوّة كاتبها بدليل حق الإسميّة التي يستخدمها الآباء في وسم أبنائهم، وبسلطة هذا الاسم يستجيب الأبناء لنداء آبائهم، وتبدأ في التشكُّل لبنات التفاهم الأولى بين الذوات الناطقة عبر النظام الشفوي.
والجدير بالذكر أنَّ داخل مكونات النص لا تكون المعلومات كلها بالقدر نفسه من الأهمية، ومعرفة النسبية في هذه المعلومات أمر له أهميته، ويساعد على تحقيق الفهم والاستيعاب، كما أنَّ وضع العلامات والفواصل، وإنشاء الفقرات والمقاطع التي تعطي للنص توزيعيّة معيّنة، تخدم موضوع الكلام، ولا يمكن تحديدها إلا من جهة أنها مجال مفهومي يأتي ضمن سياق كتابي. وأيضًا وقوع الخلل في توزيعيّة ترتيب النص، ينشأ عنه تصرُّف في المعنى، وانحراف مقاصده.
وبذلك يكون العنوان الرئيس للمجموعة هو المناص الأول، وهو العلامة الأعلى والمدخل الأمثل في طريق فهم النصوص، ومكونًا نصوصًا فاعلة وموجِّهة للخطاب، وهو حجر الزاوية التي يضعها ويعتمدها مُنشئ النص في بناء الجدار اللغوي، فالنص المكتوب تموت فيه الأصوات التعبيرية من حيث دفقها، ونبراتها، وأنتها، إذ يفقد الكاتب تلك الحركات التبشيرية التي يقوم بها المتكلم عادة، وهو ما يسميه (الجاحظ): "خاص الخاص" في التواصل الشفوي، على خلاف التواصل المكتوب، المكتفي بنظامه، وبقوّة الكاتب الإبداعية يتمكّن من إنشاء شبكة من العلاقات بين تراكيب النص، تصل به إلى معنى المعنى.
• البنى الحكائيّة للمجموعة
وبعيدًا عن تقنيات السرد وعلاقاته الوهميّة بين الراوي والمروري له، إذ تنشأ في موازاة العلاقة الحقيقية بين المؤلف والقارئ علاقة وهميّة محصورة ضمن مساحة النص بين الراوي وهذا المُرسَل إليه الخيالي (المروي له) الأقرب إلى التقنية.
تُعتبر القراءة مكوّنًا من نص متكامل فيه مجموعة من النصوص، وأعني بها القصص التي تشتمل عليها المجموعة، بغض النظر عن اشتغال الخطاب وأشكاله الداخلية.
في مثل هكذا مناخ يمدّنا العنوان بزاد ثمين لتفكيك النص ودراسته، ويقدِّم للقارئ معونة كبرى لضبط انسجام النص، وفهم ما غمض منه، إذ هو المحور الذي يتوالد ويتنامى ويعيد إنتاج نفسه. كما أنه "يقدم للقارئ معلومات أساسية لفهم النص، حيث يتضمن فكرة النص الرئيسة، ويتيح للقارئ اتّقاء إطار مرجع لتأويل المعلومات التي يحويها النص، ونجده بالمعنى المعجمي يعني أداة استفهام واسعة، وبذلك يكون مرجعًا تأويليًّا تدور حوله معاني الحبس والقهر والمحاصرة. وبهذا نلج النص، نبحث عن معناه وحالاته، طالما أننا نرقب من أعلى مناص فيه، ومن أوسع أبوابه وأرحبها، نتعامل معه بكل ما أوتينا من قدرة على عقل المعاني.
أمّا "مدخله الشرعي" فهو تركيب مسبوك من أداة الاستفهام (ماذا) وأداة الشرط (لو). أصبحت بها خبرًا لمبتدأ محذوف في أولى أبجديات النحو العربي، كأيّ عنوان يتصدّر أيّ شيء. وعندما نستدعي المبتدأ الغائب الحاضر، يفضي إلى تركيب إسنادي مجازي يتم من خلاله تسريب مفهوم (البحث)، الذي يعيه مبدع النص جيدًا. ويمكن تخطيب المجموعة من خلاله، وذلك بالبحث عن مفهوم الاستفهام الحسي والمعنوي داخل كل قصة؛ حيث نسعى إلى ملامسة مفهوم (البحث) وهو ينازع البنية المركزية في كل قصة على حدة، ويتخذ أشكالًا ومعانيَ عديدة من الحسّي إلى المعنوي حتى يحقِّق التجانس الكلي للمجموعة.
بناء على ذلك يمكن السَّير في تفحُّص العمل المقصود وفق مستويين: أفقي، وعمودي.. الأفقي: القصة الواحدة في المجموعة، ويراعى فيها تموضعها في سلسلة القصص المعروضة، وهي أيضًا تسير في مستويين داخليين أفقي وعمودي، بكونها قصة مكوّنة من زمن وحدث ومكان وشخصيات، وأيضًا لها عنوانها الخاص بها الذي يحاكي قضيّتها المركزيّة الخاصة بها.
والبنية السطحية تمثل مجمل عمل الراوي في كل القصص باعتبار أنَّ النص يتكوَّن من بنية سطحية وبنية عميقة تحاكي بؤرة العمل، فيما يعرف بالدعوى النصية لنصوصه التي تحاكي العنوان (ماذا لو؟!) الذي جعله الكاتب عنوانًا للمجموعة بكاملها.
باختصار، فإنَّ سمير أحمد الشريف مبدع حقًّا، ورائد من روّاد كتابة القصة القصيرة جدًا. أخلَصَ لهذا الفن وطوَّر فيه، ولديه الإمكانات الخلّاقة لأن يطوِّر فيه أكثر ويغنيه بكل ما هو جديد، وهذا ما أشارت إليه مجموعته القصصية الأخيرة "ماذا لو؟!". أمّا غيرها من إبداعاته المتعددة، إنْ كان في القصة والوجدانيات والخواطر والنصوص الإذاعيّة والمقالات، فهو من المهمّات الجديرة بالمتابعة والإنجاز.