هند سليمان
كاتبة أردنية
حين يحنو الجبل على واديه، ويرفع الوادي بصره نحو الجبل في مُناجاة قديمة، وحين تتآلف التلال وتنبجس منها عيون الماء فتجود بها إلى سيل يتهادى كأنَّه نبيٌّ يصافح نبعًا هنا ويعانق نُهيرًا هناك واهبًا الخصب في طريقه؛ فتغدو المساحات خضراء مثمرة. وحين يكون للمكان قداسةٌ تصنع القصص وتنسج الحكايات، وحين تختال فيه أصوات الجنود وتكبيرات النَّصر... حين يجتمع كل هذا في مكانٍ واحدٍ فهو وادي شعيب.
هو وادٍ تبدأ فيه خطوات سالكيه من جنوب شرق السلط، وتنتهي في الشونة الجنوبية لمن يريد الوصول إلى فلسطين، أو لمن يكتفي بالتنقل لقضاء حاجة أو تحقيق مُراد، تفصله عن السلط مسافة أربعة كيلومترات، وعن عمّان خمسة عشر كيلومترًا.
أطلق عليه عابروه اسمه هذا لأنَّ فيه مقام النبيّ شُعَيب في اعتقاد أنَّ هذا الوادي كان إحدى مناطق مدين التي سكنها النبيّ.
تبلغ مساحة الوادي 180 كيلومترًا مربعًا، وقد كان أقدم طريق، بل الطريق الوحيدة التي يصل المسافرون عبرها من عمّان إلى القدس مستقلّين سيّارات كانوا يركبونها من "كراجات" تأسَّست في العام 1951 لتسهيل تواصل الناس بين ضفتي نهر الأردن.
تتنوَّع الجغرافيا في وادي شعيب؛ فنجد فيه الجبال والتلال والوديان والكهوف، وتتفجَّر فيه الينابيع وعيون الماء، ليميزه كل هذا بتنوُّع الأنشطة الإنسانية التي بدأت في زمن قديم، وتدلُّ عليها آثار لمستوطنات بشريّة تعود للألف السادس قبل الميلاد، وتواجد لمقبرة ملكيّة بيزنطيّة قديمة ومعصرة زيتون منحوتة في الصخر تعود لأكثر من ألفي عام استخدمها الرومان في عصر الزيتون؛ ما يدلّ على أهميّة الوادي الأثريّة.
إنَّ الحديث عن الوادي بصفته أقدم طريق بين عمّان وفلسطين يقود إلى الحديث عن أهميَّته في معركة الكرامة. فقد كان محور وادي شعيب أحد المحاور التي حدَّدها العدوّ الإسرائيلي للوصول إلى الضفة الشرقيّة من جسر الملك حسين إلى الشونة الجنوبية عبر الطريق المحاذية لوادي شعيب. لكنَّ مخططهم باء بالفشل واندحروا مهزومين بسبب الدفاع المحصَّن متمثلًا بوجود الكثير من معسكرات الجيش العربي ضمن السَّرِيّة (2) والتي قام أفرادها بصدّ العدوان. وقد عجز السلاح الجوّي الإسرائيلي -الذي كان مسيطرًا وقتها- عن استهداف المواقع العسكريّة بسبب تضاريس المنطقة الجبليّة وتحصُّن العساكر في الكهوف المتواجدة في تلك الجبال.
لم يكن وادي شعيب لينال مكانته الكبيرة لولا وجود السيل الذي يمتد من بداية الوادي إلى نهايته مسافة خمسة وعشرين كيلومترا ليصبّ في سدّ وادي شعيب من أجل استخدام مياهه في الزراعة في فصل الصيف.
يُشار إلى أنَّ منبع السيل الرئيس هو عين تسمى عين البقورية، لكن هذه العين لا تقف وحدها في إمداده بالماء، بل يساندها في ذلك عيون وروافد أخرى. فعلى امتداد وادي السلط الذي يبتدئ منه الوادي كاملًا يوجد وادي الأزرق الذي ينزل منه نهر صغير من منطقة الفحيص ليصل إلى الوادي ويصبّ في السيل. أمّا من منطقة ماحص فيلتقي بالسيل سيل صغير آخر من واد اسمه وادي النهيّر ويزوِّده بالماء. كذلك تقوم عيون الماء الممتدة على طول السيل بتزويده بالماء، وهي كثيرة يتجاوز عددها الستمئة عين منها عين الثغرة وعين اشتيّة وعين البعرات.
من المعروف عبر تاريخ البشرية أنه حيث يوجد الماء يوجد الإنسان، يزاول أنشطته ويغتنم فرص الحياة. فوجود السيل في وادي شعيب جعل منه مجمعًا بشريًا منذ أقام عنده الناس واستغلوا مياهه في مناحي حياتهم المتنوعة. ولعلَّ أهم ما يميز الوادي هو خصب تربته ووفرة مائه ممّا جعل من أراضيه جنات تهب الخضرة على طول فصول السنة. فهو كثير الأشجار ويتميز بمحاصيل نباتية وافرة. فنجد الكثير من أشجار الحمضيات والزيتون بالإضافة إلى الزراعات المختلفة من الخضار المتنوعة والبقوليات.
من جهة أخرى، تنمو على الجبال المطلة على الوادي النباتات الطبية والعطرية مثل الزعتر البري الذي يأتي الناس لجمعه من المناطق المجاورة. ويجمعون كذلك نبات البابونج الطبي والحندقوق لتحضير التوابل المشهورة بين الناس.
ولأنَّ تضاريس منطقة وادي شعيب متنوِّعة فقد تنوَّع فيها الطقس. فهي منطقة شفا غورية طقسها دافئ في الشتاء، حار ورطب في الصيف. هذا الدفء الشتوي أغرى سكان المناطق المحيطة قديمًا للهروب من برد الشتاء والإقامة في الوادي مع المواشي مستفيدين من الكهوف المنتشرة في التلال يقيمون فيها وتبيت في بعضها مواشيهم. ولكثرة التردُّد على الوادي وسكنى الكهوف بين الشتاء والصيف فقد أطلقوا على هذه الكهوف أسماء عشائرهم، فهناك كهف سد الرّغمة وعراق صوفيّة وعراق أبوالعويص وعراق وادي سالم، استخدمها جميعها زوّار الشتاء من المناطق المجاورة وعلى رأسها منطقتا عيرا ويرقا حيث كان أهل هاتين المنطقتين يفدون إلى الوادي يتزوّدون بالماء يحملونه في القِرَب الجلديّة والجرار، يسقون مواشيهم ويقيمون على أطراف السيل. ولشدّة ارتباط أهل عيرا ويرقا بوادي شعيب روى بعضهم أنَّ هذين الاسمين هما اسما ابنتي النبي شعيب، وهي رواية غير مؤكّدة لكن المؤكّد هو اقتران عيرا ويرقا ببعضهما كأختين شقيقتين وارتباطهما بالوادي حتى إنَّ سكانهما كانوا يسمعون صوت جريان ماء السيل في الليالي الصافية.
يجدر بالذكر أنه لم يقطن الوادي الكثير من السكان؛ حيث أقامت فيه ثلاث عوائل فقط وذلك بسبب شحّ الخدمات. أمّا اليوم وبسبب تزويده بالخدمات فيقيم فيه أكثر من خمسمئة عائلة مشكلين كثافة سكانية تصل إلى خمسة عشر ألف نسمة معظمهم من عشائر السلط وبني عباد.
لقد منح وجود مقام النبي شعيب الوادي مكانة دينية، يقصده الناس من الأماكن البعيدة يزورون المقام ويصلون في مسجده.
كان مقام النبي شعيب يعرف قديمًا بما يسمّى (الحُوطة) حيث تزوره القبائل المختلفة على مدار العام ويذبحون عنده الذبائح التماسًا للبركة في شؤون حياتهم. ومن عادات أصحاب المواشي أنهم كانوا يأخذون مواشيهم إلى المقام ويدورون بها حوله اعتقادًا منهم أنها سوف تحلّ عليها البركة ويكون تكاثرها في ذلك الموسم مباركًا مكللًا بالوفرة.
بالإضافة للبركة المبتغاة من مقام النبي شعيب فقد اتَّخذته القبائل قديمًا حَكَمًا لتبرئة المتهم بتهمة ما أو إثباتها عليه، فقد كانوا يصطحبونه إلى حوطة شعيب ويطلبون منه أن يحلف اليمين بأنه بريء من التهمة المسندة إليه. فإنْ حلف يمينًا كاذبًا فإنه باعتقادهم سوف تحلّ به مصيبة حال عودته إلى دياره أو في الطريق إليها. لذلك كان الناس يحسبون لحلف اليمين هناك حسابًا كبيرًا، وكان المتهم منهم إن كان مذنبًا حقًا يعترف بذنبه قبل الوصول إلى المقام مفضّلًا نيل عقابه على أن تقع به مصيبة إن حلف كاذبًا. ويُشار إلى أنَّ كبار السنّ ممّن يقيمون بالقرب من المقام ما زالوا يحترمون هيبته ويهابونه بسبب الإرث القديم الذي عاينوه وتربّوا عليه.
اعتاد الناس في المناطق المحيطة بوادي شعيب زراعة القمح والأعلاف، وكان لا بدّ من طحنها والاستفادة من أشكالها المختلفة. لهذا أقيمت الطواحين على السيل لأنه من المعروف أنَّ ناعورة الطاحونة تحتاج إلى الماء الساقط عليها لتُدار وتدير معها عجلًا حجريًّا ضخمًا والذي بدوره يدير حجرًا آخر. ينزل القمح بين هذين الحجرين ويصار إلى طحنه. وقد وصل عدد الطواحين في الوادي إلى ثماني عشرة طاحونة منها ما أقيم على السيل وعيون الماء ليسقط عليها الماء مباشرة، ومنها ما تعذَّر قيامه على مصدر الماء المباشر فحفر أصحابها آبارًا تمتلئ بماء السيل لتعمل به الطاحونة. وقد أسماها أصحابها بأسماء عشائرهم فعُرف منها طاحونة الفاريّة وطاحونة الرويكيّة وطاحونة الزقيليّة وطاحونة البقوريّة. أمّا الطواحين التي أقيمت على عيون الماء فقد أخذت أسماء تلك العيون ومنها طاحونة عين الجادور وطاحونة عين الفرخة والديك وطاحونة عين حزير.
ويجدر بالذكر أنَّ هذه الطواحين تشكل أهمية أثرية ذات قيمة سياحيه كبيرة لقدمها وأهميتها الاقتصادية القديمة وكثرة عددها وموقعها على مصادر الماء.
لم تقتصر الأهمية الأثرية للوادي على وجود الطواحين فحسب، فعلى موازاة الطريق المعروفة فيه هناك طريق أخرى منحوتة في الجبال استخدمها الناس للتنقل عبرها على الدواب قبل أن يتم إنشاء الطريق المألوفة على امتداد الوادي.
ومن الآثار الموجودة أيضًا والتي لا يعرفها إلا سكان منطقة وادي شعيب ما أطلق عليه اسم (المعلّقة) وهي منحوتة صخرية لا يمكن الوصول إليها إلا سيرًا على الأقدام في طريق صغير. ويعتقد قاطنو المنطقة أنَّ المعلّقة كانت تستخدم سجنًا في فترة تواجد الأتراك فيها.
يعرف المقيمون في وادي شعيب جيدًا الجسر الخشبي المُقام فوق السَّيل. وهو جسر قام ببنائه الجيش العراقي في ستينات القرن الماضي والذي كان متواجدًا في تلك المنطقة تمثيلًا لوحدة الجيوش العربية في الدفاع عن فلسطين. وقد أطلق الناس على هذا الجسر اسم (جسر العراقيّة) وما زال قائمًا إلى اليوم يمرُّ به الزوّار ويقطعون فوقه بخطواتهم السَّيل.
إنَّ ما يميِّز الوادي من وجود السيل وعيون الماء، والخضرة الدائمة والمزروعات المتنوِّعة، وتضاريسه المختلفة وطقسه الملائم على مدى الفصول، ووجود مقام النبي شعيب فيه جعل منه مقصدًا للسياحة الداخليّة يؤمُّه الناس من عمّان والسلط والمناطق المجاورة به، ينعمون بخضرته، ويستمتعون بطقسه ويقطفون من أشجاره ويجمعون أعشابه.
ولأنه جمع كل هذا يجدر النَّظر إليه بعناية والاهتمام ببُعده الأثري والتاريخي والوطني والديني والزراعي لأنه ليس مجرَّد وادٍ يصل منطقة بأخرى، بل لأنه قصة قديمة يرويها السَّيل ويتردَّد صداها على الجبال وتتسمَّد بمعانيها التربة لتكون الخضرة القديمة الحاضرة والزيتون والحنطة والإنسان.