د. هبة نبيل رضوان مهران
كاتبة وروائية مصرية
يُلقي هذا المقال الضوء على دور "الكتابة الإبداعيّة" في حفظ التراث وحمايته، ومن جانب آخر يبيِّن أنَّ "رسومات الشوارع" باتت جزءًا من التراث عندما رأت "اليونسكو" أنْ تشمَلَ "الاتفاقيّة العالميّة لحماية التراث" المحافظة على رسوم جداريّات الشّوارع. وترى كاتبة المقال أنَّ مهمّة الحفاظ على التراث قضيّةٌ إنسانيّةٌ تهمّ كلّ البشر وليس شعبًا أو حكومة أو فردًا بعينه، فالتراث ملك للإنسانيّة جمعاء، ومَن يقلِّب ناظريه ويبحر في عجائب التراث الثقافي بكافة أنواعه يجد ما يدفعه لينطوي تحت لواء حماية هذا التراث.
من أجل دعم سياسات الثقافة في دول العالم لتحقيق نظام قانوني يعنى بالنظر في مفهوم "التراث" بكل فروعه الطبيعي- الثقافي- الروحي- الحرفي، لأجل أن يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالقيم الروحية للشعوب الأصلية، لذا أدرجت منظمة الثقافة والعلوم والتربية "اليونسكو" حملة "الحفاظ على التراث" على قائمة احتفاليّاتها العالميّة، حيث قامت بتشجيع كل الهيئات العالمية والمحلية المعنية بالحفاظ عليه.
• الكتابة الإبداعيّة
اختارت اللجنة المنظِّمة للبرنامج الأميركي (ديجراسي) "الكتابة الإبداعيّة" ليكون موضوع جائزة حول الإبداعات الكتابية لحماية التراث، (ديجراسي) كان قد أسس هذا البرنامج في سانتا كروز شمال كاليفورنيا في ذكرى ابنته "باميلا" النحاتة والشاعرة، كمقر لإقامة المبدعين، وقدَّم برنامج "هدية الوقت" The Gift of Time لثمانمئة مبدع ذوي سمعة رفيعة ومكانة محلية ودولية، ويهدف برنامج "هدية الوقت" إلى دعمهم من خلال توفير كافة التسهيلات، وفرص للتحاور وتبادل الأفكار، وتطوُّر المفاهيم. ويقع مقرّ البرنامج على المحيط الهادي، ويتكون من مزرعة ضخمة وغابة بها طرقات مجهَّزة، وقد عاشت فوق هذه الأرض، على مدى خمسة آلاف عام، قبائل "أوهلون" من الهنود الحمر في قرى صغيرة، فقام البرنامج بالحفاظ على الأرض بصورتها الطبيعيّة كما هي وتوفير كافة وسائل الحياة للمبدعين كي يقيموا فيها.
هناك مأزق تواجهه بلاد العالم كلها بدرجات متفاوتة؛ هو الحاجة الي حماية الماضي، لذا عملت "اليونسكو" على تشجيع إحياء وحماية التراث الثقافي والطبيعي في أنحاء العالم باعتباره قيمة بارزة للجنس البشري، ثم اتَّسع مفهوم "التراث" ليصبح دليل الماضي ميراثًا للمجتمع الحاضر يتناقله الأبناء عن الآباء، وكانت "فرنسا" أوَّل من استثمرت التراث سيكولوجيًّا وماليًّا في الاقتصاد والسياحة، بعد ثورتها حينما أطلقت عليه "متاحف المجتمع"، حيث استهدفت الحفاظ على الحِرَف اليدويّة التي تمثل الهوية التراثيّة (الفُلكلور) لقطاعات المجتمع، والكلمة مكوَّنة من مقطعين الأوَّل "فولك" بمعنى "مجتمع" والثاني "لور" بمعنى "حكمة".
كان هدف فرنسا إرساء ودعم الديمقراطيّة كمرحلة مهمة في تاريخها بعد (التراث الديني وكنوز الكنيسة تليها انتهاء مرحلة القصور الفاخرة وتراث الملوك..) الذي تمت مصادرته بعد الثورة الفرنسية، وأصبح التراث وفنون الفلكلور هما الفكرة البديلة للاتصال بكل طبقات المجتمع كهدف قومي، ومنه ظهرت مبادئ المدنيّة.
في أعقاب هذه الأحداث استثمرت منظمة "اليونسكو" مضمون الحفاظ وحماية التراث أو الفولكلور بكل أشكاله ومعانيه وذلك في مؤتمر عُقد في الولايات المتحدة في عام 1965 بواشنطن دعا إلى عدة توصيات أهمّها إنشاء "صندوق التراث العالمي" من أجل حماية "مناطق العالم الطبيعية". وفي عام 1972 في استوكهولم (السويد) اتفقت كل الأطراف على نص "الاتفاقية الخاصة بحماية التراث الثقافي والطبيعي العالمي" وأقرَّها المؤتمر العام لليونسكو بحيث تصبح أي مواقع ذات قيمة تاريخية وجمالية وأثرية وعلمية وإثنولوجية وأنثروبولوجية تراثًا عالميًّا. وأما التراث الطبيعي فيمثل مناظر طبيعية ونباتية وجيولوجيّة أو مواطن لأنواع مهدَّدة من الحيوانات والنباتات أو مناطق ذات قيمة علمية أو جمالية، وأصبحت مهمّة "اليونسكو" تشجيع الدول الأطراف على حماية تلك المواقع وتوفير المساعدة للتغلب على الأخطار التي تهدِّدها، وكانت أكثر مواقع التراث الطبيعية التي نالت اهتمام الاتفاقية هي "كهوف الرخام الرائعة في تشيلي" أجمل كهوف العالم، التي تقع على ضفاف أحد أجمل بحيرات العالم؛ بحيرة "جنرال كاريرا" التي تقع على الحدود الأرجنتينية التشيلية في منطقة باتاجونيا في جنوب غربي قارة أميركا الجنوبية، وهي أعمق بحيرة في أميركا الجنوبية والأكبر في تشيلي، وتسمى هذه البحيرة أيضًا "بحيرة بيونس آيرس" من الجانب الأرجنتيني.
كانت شيلي من أولى الدول التي وقَّعت على اتفاقية حماية التراث، وبتوقيع البلاد على اتفاقية التراث العالمي، فإنها تقرّ بأنَّ المواقع الموجودة على إقليمها الوطني والتي دوِّنت في قائمة التراث العالمي -ودون الإضرار بسيادتها الوطنية أو ملكيتها- تشكل تراثًا عالميًّا وعلى المجتمع الدولي بأكمله أن يتعاون لحمايته. والسّمة الأكثر أهمية في الاتفاقية هي وجود مفاهيم المحافظة على طبيعة الموقع والتعريف به وتعيين واجبات الحفاظ عليه وكيفية صيانته مدوَّنة في وثيقة واحدة.
• "اليونسكو" تحمي جداريّات رسّامي الشوارع
إذا كانت الرُّسوم -والأعمال الفنيّة عامة- تظلُّ مصونة في المتاحف إلى ما لا نهاية، فإنَّ الرُّسوم في الشوارع لا تدوم أكثر من سبع سنوات، ثم بعد ذلك إمّا أن يُعيد الفنان الأصلي رسمها، وإمّا يُستعان بفنان آخر. من هنا رأت "اليونسكو" أنْ تشمل الاتفاقية العالمية لحماية التراث المحافظة على رسوم جداريّات الشّوارع، على الرغم من عمرها القصير، ويقول الرسام "إرنست بينيون": "هذا لا يعني أنَّ الجداريّات فن ثانويّ، فالفنانون العظام أمثال بابلو بيكاسو، سخّروا مواهبهم لإنتاج ملصقات قصيرة الأجل، ويهمّ الفنان أن تكون أعماله معروضة بشكل دائم ليشاهدها جمهور كبير، لا أن تكون مشاهدتها في المتاحف وقفًا على قلّة". غير أنَّ هذا الحشد الضخم من المشاهدين يفرض الالتزام بأصول فنيّة، فلا أحد مجبر على زيارة المتاحف، أمّا الجدران فمَشاع للنَّظر، لذا ينبغي ألّا تسبِّب الجداريّات صدمة للمشاهدين، وتحذِّر سلطات باريس من أنَّها ستمحو أيّ لوحة تثير حفيظة المارّة، لكنَّنا كما تقول المهندسة "بويسان": "لم نضطرّ إلى هذا الإجراء أبدًا، بل نتلقى ردودًا إيجابيّة من مالكي الأبنية الذين نقدِّم إليهم المُخطَّط، ومن المسؤولين المحليين الذين هم على اتصال بالمارّة، ويبدو أنَّ الجميع يقدِّرون أيّ شيء ينسيهم ضغط الحياة في المدينة، فإنَّ للجداريّات مستقبلًا زاهيًا".
وهناك نوع آخر من الفنون نال الحماية في باريس يفرض نفسه فوق مساحات الجدران، عند حواف الجسور والسدود، وعلى الشاحنات العامة وعربات القطار، وصولًا إلى جدران أنفاق المترو المظلمة، مساحات واسعة تحوَّلت إلى ملعب فسيح لرسّامي الجرافيت في العاصمة الفرنسية، التي أصبحت تضمّ اليوم مجموعات عديدة ومتنوِّعة من "رسامي الشوارع"، فالفن الجرافيتي الذي يعني الكتابة والرسم على الجدران، كان ظاهرة دوليّة يكافحها القانون أحيانًا، ويرمقها محبّو الفن بنظرات الإعجاب والتقدير، وبين هذا الرأي وعكسه، بقيت رسوم الفن الجرافيتي أو فن الجرافيت، هي السمة الكبرى الأكثر تميزًا لهذه المدينة أو تلك وجانبًا تزيينيًّا لا يمكن تجاهله، لذا تدخَّلت "اليونسكو" لحمايته. ويعتبر فن الجرافيت حركة فنية تمتاز بالرسوم التي تغطي جدران الشوارع والأماكن العامة، أي أنه فن تعود جذوره إلى الشارع كأحد أنواع الفلكلور الشعبي، إلا أنه اليوم كبر وازداد انتشارًا وتعدديّة، بتعدد أفكار ومعتقدات ممارسيه، على اختلاف انتماءاتهم وثقافاتهم.
في واقع الأمر أنَّ فن الجرافيت هو جمع لمفرد الكلمة الإيطالية "جرافيتو" وتعني "الكلمات أو الرسوم المطبوعة على الجدران"، كما إنَّ فن الجرافيت بكافة أشكاله، يتكوَّن اسمه من شطرين أيضًا هما "جراف" و"يت"؛ فعلى عكس "يت" تأتي "جراف" بأشكال ورسوم متقنة الصنع، تقترب من النتاج الفني، بينما "يت" عبارة عن توقيعات مشفَّرة تشكِّل رسمًا ملوّنًا ذا ألوان زيتية، يغطي جدارًا أو سيارة قديمة أو إحدى عربات المترو أو غير ذلك، ليس هذا فحسب، بل إنَّ صاحب "يت" لا يكتفي بنشر علامته في أمكنة محدّدة بواسطة رذاذ الطلاء، أو الأقلام العريضة، بل يقوم بالكثير من الأبحاث، حول الخطوط والأشكال المختلفة، التي يمكن أن يقدم من خلالها "يت" وهو اسم يختاره لنفسه، وقد يكون فردًا أو جماعة، وتُعدُّ باريس "قِبلة" فنّاني الجرافيت. وبما أنَّ حوالي 10% فقط من سكان باريس، هم من الباريسيين أساسًا، فذلك معناه أنَّ المدينة تمتاز بكثافة بشرية، ممّا ينعكس من خلال كثافة الجرافيت المنتشر في أرجائها سواء في الأراضي المكشوفة، أو على عربات المترو وعلى الشاحنات، وعلى مساحات غير متناهية من الجدران، فهل يعني ذلك أنَّ العاصمة الفرنسية، بعدما كانت عاصمة السياحة العالمية، سوف تتحوَّل إلى معقل لفناني الجرافيت؟ قد يكون ذلك صحيحًا، ففنّ الجرافيت يبدو وكأنه ينادي المارَّة ويتحدَّث إليهم، بينما الشوارع تهمس بأسماء المارَّة الذين يطبعونها ببصماتهم فترة ما، فما الذي يعنيه كل ذلك؟ هل هو التمرُّد؟ أم التخريب؟
لقد نشأ هذا الفن في حقبة الستينات من القرن الماضي، وأخذ شكله الحالي حين بدأ شابان يدعيان "خوليو 204" و"تاكي 183" ينشران علامتهما الفارقة فوق جدران مدينة نيويورك، بحيث عُرف هذا الفن باسم الجرافيت على الطريقة النيويوركية، وما لبثت الأشكال المختلفة من الجرافيت أن تعدَّدت وانتشرت، لا سيما بعد اللقاء الذي أجرته صحيفة "نيويورك تايمز" مع "تاكي 183" في عام 1971، فانهالت عليه الرسائل، وتضاعف عدد "أتباعه" ممّن غطوا جدران المدينة بكتاباتهم.
لعلَّ فن الجرافيت الذي ينتشر حاليًّا في أنحاء العالم، لم يكن ليبقى في حيِّز الفن لولا عاملان: الكتابات على الأملاك العامة، مثل القطارات والحافلات وغيرها، ممّا يجعل أصحابها يخضعون للمُساءلة القانونية بسبب التخريب، ثم الكتابات ذات الطابع الإباحي أو السياسي التي تنتشر في بعض الأماكن العامة، وتجعل فن الجرافيت يُطبع بطابع الابتذال. ولكنَّ هذا الفنّ، بصورة عامة لا يهدف إلى التخريب بقدر ما يهدف إلى الاحتجاج والتعبير عن الطبقات المحرومة من أجل التغيير، بطريقة فنيّة تجنح أحيانًا إلى الثورة، بدليل أنَّ معظم رسامي الجرافيت ينتمون إلى الأقليات المحرومة، التي تتراوح أعمارهم بين الثامنة والثلاثين من العمر. مع أنَّ الظاهرة الثورية التي تشهدها أغلب مدن العالم حاليًّا تتمثَّل في العديد من أبناء الطبقات الوسطى، ممّن ارتأوا التعبير عن تمرُّدهم بهذه الطريقة، إذ يمثل الجرافيت بالنسبة إلى هؤلاء شيئًا من الإحساس باليقظة والتعبير عن الرأي من خلال تحدي النظام بطريقة غير مؤذية، بالمعنى الإجرامي.
علمًا بأنَّ الكثيرين من رسامي الجرافيت باتوا يحبِّذون استخدام المساحات المتوافرة قانونيًّا، حيث إنَّ العديد من بلديات المدن الكبرى والصغرى، باتت تخصص مساحات تُستخدم لتزيين جدران المدينة. أمّا بالنسبة إلى مَن يتساءلون عن كيفيّة توصُّل رسامي الجرافيت إلى ملء تلك المساحات الكبرى بواسطة علبة الطلاء البخّاخ، ذات الفتحة الصغيرة، فإنَّ تلك المشكلة وُجد لها حلّ منذ زمن طويل بفضل أحد رسامي الجرافيت، ويدعى "سوبر كول"، حيث اكتشف مسألة تغيير أغطية العلب، واستبدالها بأخرى ذات فتحات أوسع، وبالتالي باتت المسألة أكثر سهولة، وتنتشر تلك التقنيات والأساليب، ونماذج اللوحات المُنجَزة في أنحاء العالم اليوم، على مواقع على شبكة الإنترنت، وعلى صفحات المجلات المتخصصة، ومن هذه المجلات المجلة الفرنسية "جرافيت"GARFFIT التي تختصّ بالجرافيت الباريسي المباشر على الجدران وعربات القطارات والشاحنات وغيرها.
وقد لا يكون مُستغربًا أن تستحوذ بعض الأحياء على المزيد من الاهتمام من قِبَل المجلات المتخصصة، من خلال كثافة الرسوم المنتشرة في أرجائها. وبالنسبة إلى الرسامين الفرنسيين، يُعتبر خط القطارات من مدينة ليل إلى بيربينيان، المكان الأمثل، نظرًا لتنوُّع أشكال القطارات التي تعبره والتي تتميَّز باختلاف ألوانها، وتصميماتها؛ حيث كل لون يشير إلى منطقة معيّنة من فرنسا، وهنا يقوم الرسامون باختيار الموديلات المفضَّلة لديهم، وما لبثوا أن احتلوا المكان، على الرّغم من المخاطر التي يواجهونها والمتمثلة بملاحقة الشرطة الدائمة لهم، علمًا بأنَّ الأهداف المتحركة تمثل تحدّيًا مثاليًّا لرسامي الجرافيت الجادين الثائرين، الذين يطمحون إلى تحقيق الإنجازات التقدميّة في هذا العالم.
• المراجع:
- د.سيد القماش، التصوير الجداري والعمارة المعاصرة.. علاقة متبادلة، مركز المحروسة للنشر، القاهرة، 2010.
- د. هبة مهران، فنانو الشوارع، دار المدى، دمشق، 2009.
- الجريدة الثقافية بطنجة، العدد 577.
- مجلة الفنون المصرية، أعداد مختلفة.
- Artwork reproduced courtesy of Abroiginal Artists Agency, Australin Consolidated Press، Sydney. Condensed from the Observer - London 2011.