نايف النوايسة
كاتب وباحث أردني
اهتمَّ المفكرون والأدباء العرب بالتراث اهتماماً كبيراً، وانقسموا في وجهات نظرهم إلى ثلاث فئات:
الأولى: أيّدت التراث ودعت إلى إحيائه حفظاً لشخصية الأمة من الانفطار، ودرأً لموجات اجتثاثها وذوبانها، وتقوية لجذورها كي تصمد أمام موجات العولمة التي تحطّم كلَّ ما يعترضها ويعاند توغلها.
والثانية: ترى أنَّ هذا التراثَ هو ارتهانٌ للماضي واجترارٌ لأوجاعه وعودةٌ للانكماش والركون في زوايا النسيان والانعزال، وتحييدٌ للعقل من أن يأخذ مكانه الحقيقيّ في مسار الفكر والنقد والبناء، وترى أنَّ بوابة النهضة هي في إبعاد التراث والانفتاح الكامل على العصر، والقطيعة مع الماضي وما يحمله.
والثالثة: تقف بين هذه وتلك؛ عينٌ على التراث فتأخذ منه ما يتصل بهُوية الأمة وخصوصية ثقافتها، وتنتقي أجود الإسهامات القادرة على تحقيق الربط بين الجذر الضارب في أعماق الأرض كي تصمد الشجرة الحضارية للأمة وتنشر فروعها بقوّةٍ لتواجه عوارض التغيير وتعاقب الأزمان.. وحجة هذه الفئة أنَّ ثبات الشجرة هو من قوّة جذرها، وهذا لا يتسنى لها إلاّ إذا تعهد أبناء الأمة برعاية الجذر والعناية به، وإذا ما أُهمل فإنَّه يذوي ويجف فتذوي شجرة الحضارة وتتحول إلى حطبة تتقاذفها الريح وتهوي بها في مكان سحيق.
والعين الأخرى لا تنغلق أمام العولمة كل الانغلاق لأنَّ في ذلك انتحاراً مطلقاً، وإنَّما تتعامل معها بحذر شديد وتختار منها ما يوافق إطار الأمة ومنهجها الحضاري، وتصدُّ كلَّ ما يحمل إليها بذور التفكك وعناصر الانحلال والذوبان.
ومن المفكرين العرب الذين نظروا في موضوعة التراث وطرحوا وجهات نظرهم وأفكارهم بقوة نعرف( عبدالوهاب المسيري، عبدالله العروي، محمد عابد الجابري، حسن حنفي، جورج طرابيشي، طه عبدالرحمن، نصر حامد أبو زيد، محمد أركون، عبدالإله بالقزيز، عبدالغفار مكاوي، عبدالسلام المسدي، فؤاد زكريا، طيب تيزيني، برهان غليون، فهمي جدعان، علي الوردي، إدوارد سعيد، وزكي نجيب محمود...) والقائمة تطول.
ونحن في هذا المقام لا نستطيع عرض وجهات نظرهم جميعاً حول قضية التعامل مع التراث، وأكتفي هنا باستطلاع بعض آراء المفكر المغربي عبد الله العروي في هذه القضية وعلاقتها بالواقع العربي الهش، فقد قال بالقطيعة مع التراث حتى تتحصل للأمة أسباب الولادة والانبعاث العصري، ويرى أنَّ العودة للتراث لا يكون منه إلاّ الموت والانتحار، لا يكتفي العروي بالقطيعة وإنَّما ذهب إلى البديل التحديثيّ، وهو ما يسميه ب(المتاح للبشرية جمعاء)، أي معالجة النقص والقصور في العقل العربي الذي أسهم ذات زمن في إثراء الفكر الإنساني بنقله للإرث اليوناني إلى غير العرب، وأمام حالة الركود وسيطرة اللامعقول فيه فلا بدَّ من العودة ل( المتاح للفكر الإنساني اليوم).
ويرى العروي بأنَّ تراثنا الفكريّ يدور كله حول العقل، وأنَّ العقل التراثي مدار البحث هو غير العقل الحديث كما تبلور في أوروبا خلال القرن الثامن عشر، وهنا يتضح لنا يأس العروي من إمكانية توليد المفاهيم الحديثة من داخل التراث فدعا إلى القطيعة معه. وقد بثَّ هذه الأفكار في كتبه ومنها كتاب( مفهوم العقل المركز الثقافي العربي).
أمَّا المفكّر المغربي الآخر محمد عابد الجابري فبيّن آراءه في نقد العقل العربي في كتابه( الخطاب العربي المعاصر)، إذ حلّل الخطاب النهضويّ العربيّ المعاصر، للوقوف على ضعفه وتشخيص عيوبه، وليس من أجل إعادة بنائه. وشخّص إشكاليّة مشروع النهضة من قبل ومشروع الثورة فيما بعد بغياب نقد العقل فيهما.
يتوقّف الجابري عند أشكال الخطاب العربي كالخطاب النهضوي والخطاب السياسيّ والخطاب القوميّ والخطاب الفلسفيّ، ويرى أنَّ قضيّة الأصالة والمعاصرة هي أساسُ إشكاليّة الخطاب العربي الحديث والمعاصر.
وذهب في نقده العقل العربيّ إلى توظيفه مفاهيم تنتمي إلى فلسفات وقراءات مختلفة متصلة بالعقلانية النقديّة لدى ابن حزم وابن رشد والشاطبي وابن خلدون، ويرى في هذه الفلسفات منطلقاً يربطنا بقضايا تراثنا، من أجل نقلها إلى حاضرنا، والتعامل معها على أساس متطلّباته وحاجة المستقبل وفكر العصر ومنطقه.
ويدافع الجابري في هذا الكتاب عن فرضيّة إخفاق مشروع النهضة من قبل، وإخفاق مشروع الثورة فيما بعد، وفي كتابه( نقد العقل العربي)، بأجزائه الثلاثة يدافع عن فرضيّة استقالة العقل العربي!...
ويثمّن في مقدمة كتابه( تكوين العقل العربي) أهمية نقد العقل كجزء أساسي من كلّ مشروع للنهضة، ويتساءل عن إمكانيّة بناء نهضةٍ بعقلٍ غير ناهض، عقلٍ لم يقحم بمراجعةٍ شاملةٍ لآلياته ومفاهيمه وتصوّراته ورؤاه، ويصرّح بأنَّ مشروعه هادفٌ لا يمارس النقد من أجل النقد، بل من أجل التحرّر من كلّ ما هو ميت أو متخشّب في كياننا العقليّ وإرثنا الثقافي.
وفي كتابه( التراث والحداثة) ينظر إلى العقل العربيّ بوصفه نتاج الثقافة العربية الإسلامية التي تأسّست على نظم معرفيّة ثلاثة: نظام معرفي لغويّ عربيّ الأصل، ونظام معرفيّ "غنوصي" فارسي "هرمسيّ" الأصل، ونظام معرفي عقلانيّ يوناني الأصل.
إنَّ التراث في نظر الجابري "ليس إنتاجاً تاريخيّاً وحسب وإنَّما هو- أيضاً- عطاءٌ ذاتيٌّ إنسانيٌّ لشخصيات دخلت التاريخ، وكل عطاء من هذا النوع يتضمن في ذاته مضمونين: الأول وهو مهمٌّ، ويُعنى بالجانب المعرفي وفيه( المفاهيم، والتصوّرات، والمنطلقات، والمنهج..)، والثاني وهو الأهم ويتجسّد في مضمونه وفيه( الوظيفة الأيديولوجية والسياسية، والاجتماعية...).
وحين يدعو الجابري إلى القطيعة مع التراث فإنَّه لا يعني بذلك مجموع ما خلفه أجدادنا؛ لأنَّ القول بذلك طرحٌ فاسدٌ خاطئٌ لا تاريخي ، ولا يعني هذا أنَّ تراثنا خير كله، كما لا يعني أنَّه الشر بعينه أو أساس الإحباط الذي نعيشه ونتخبط فيه.
وألمسُ عند الأدباء العرب بعامة والأردنيين بخاصة التفاتة واعية لتوظيف التراث في الأدب، فقد تعالقت بعض الروايات مع نصوص تراثية عربية، وأرى أنَّ ثراء التراث العربي يكشف عن محدودية العودة إليه في رحلة السرد والشعر العربي الحديث من جهتين( اللغة والتخييل في آن واحد).
فهل يعود السببُ إلى الجهل بكنوز التراث وعدم الاطلاع عليها؟، وإذا ما التفت أحدٌ إليه، فهل كان من تأثير الآداب الغربية التي شغفت بالتراث العربي كما فعل( باولو كويلو) في روايته( الخميائيّ) التي قامت على هياكل الحكاية رقم 351 من حكايات" ألف ليلة وليلة".
ومن الروائيين العرب الذين عادوا إلى التراث كان جمال الغيطاني في روايته( الزيني بركات) التي استلهمها من مناخات العصر المملوكي وأسقطها على اللحظة الراهنة في مصر فيما يخصُّ زمن البصّاصين والدولة البوليسيّة.
والسؤال: لماذا هذه القطيعة بين الأديب العربي وتراثه في حين نجد كُتّاباً أجانب مثل: الروائي الفرنسي( جيلبير سينويه) الذي عاد إلى التراث العربي ووظّف سيراً لشخصيات مثل ابن سينا في( ابن سينا أو الطريق إلى أصفهان)، وابن رشد في( كاتب الشيطان) و(اللوح الأزرق) عن سقوط الأندلس.
أمَّا الشعراءُ العربُ في العصر الحديث فعادوا إلى التراث ووظّفوه داخل سياقاتهم الشعريّة، وعلينا أن نتنبه إلى دقة هذه المسألة لارتباطها بالمتلقي، الذي يكمن تفاعله مع القصيدة من خلال قدرة الشاعر على توظيف الموروث العربي، لذلك استطاع عددٌ من الشعراء المبدعين توظيف هذا الموروث في قصائدهم بدقة متناهية، مما أكسب نصوصهم الشعرية أصالةً وتميّزاً، وتزيد هذه الميزة بمقدار الثراء التراثي الذي يعتمدون عليه وتوظيفه رمزياً واستخدامه فنياً، وإسقاطه بدقة على قضايا العصر.
ومن هؤلاء الشعراء بدر شاكر السياب وعبدالوهاب البياتي وخليل حاوي ومحمود درويش وأمل دنقل وأدونيس وغيرهم.
إنَّ أبرز أشكال توظيف التراث في الأدب الأردني تم من خلال استعادته أو استلهامه عند عدد من الأدباء وأذكر منهم الروائيّة الأردنيّة المبدعة سميحة خريس وقد اتضح لي في روايتها( يحيي) التي صدرت في طبعتها الثانية سنة 2022 بأنَّها استلهمت من الموروث التاريخيّ شخصية( يحيي) ليكون بطلاً لروايتها ولتبني عليها رحلتها التخيلية الواعية في استجلاب الشخصيات الفرعية والأحداث من موروثنا التاريخي والديني والصوفي والشعبي والأسطوري.. إلخ، وفي حدود اطلاعي على تاريخ هذه الشخصية وندرة المعلومات عنها لمست مدى المعاناة التي واجهت خريس وهي تبحث في الموروث التاريخي العربي، ولم تجد مادة موسّعة عن يحيي بن عيسى الكركي، وكانت بضع سطور مقتضبة في بعض الكتب الإخبارية مثل خلاصة الأثر للمحبي، ولطف السمر.. للغزي، وبعض المصادر التي تزامنت مع ظهور هذه الشخصية، وكأنَّ هؤلاء المؤرخين يجدون معرة في الحديث عن يحيي الذي وقف بوجه الظلم والجهل ومعاندة السلطة أيّ كانت.
الرواية بيان أدبي ثقافي فكري لإدانة كل عمليات اغتيال العقل وتصفية الشخصيات المتنورة التي تشكل خطراً حقيقياً على السلطة بكل أوصافها( سياسية ودينية وثقافية واجتماعية واقتصادية)، وفي هذا السياق أذكر تجربتي في استعادة التراث وإعادة انتاجه في مسرحيتي( الرياحين) التي طبعتها رابطة الكتاب الأردنيين والمؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة1966، وهي مسرحة لمقامة( الرياحين) للسيوطي التي وجدتها في كتاب(شرح مقامات جلال الدين السيوطي) للدكتور سمير الدروبي الصادر سنة 1989.
وكشفت في مسرحيتي أنَّ الصراع بين الرياحين في المقامة هو صراعٌ سياسيٌّ بين أمراء المماليك في ظلِّ الخلافة العباسية الشكلية، وجرت المحاكمة بين الرياحين في مجلس القضاء للوصول إلى رمز عربي يتولى الإمارة بين هذه الرياحين الغريبة، وفي مسرحيتي أمطت اللثام عن أنظمة الحكم الظالمة التي يتولاّها الأغراب ويعيثون في البلاد الفساد، الأمر الذي قاد الأمة إلى الضعف والمهالك.
خلاصةُ الأمر..
إنَّ توظيف التراث في الأدب يكون إمَّا باستعادته أو استلهامه أو التناص معه، وهو بمنزلة المثاقفة الواعية معه للوصول إلى البؤر الحية فيه، والتمكين النصي العصري لهذه البؤر خدمةً للتراث من ناحية، وإيقاظ الرموز الدالة لتعكس طبيعة واقعنا المعيش من ناحية أخرى.