"زرٌّ وسط القميص"؛ الحنينُ والحبُّ والتمرّد.

قسيم محمد
كاتب وناقد...
"زرٌّ وسط القميص" كتابٌ احتوى على ستَ عشرةَ قصةً كل قصة فيه تمثّل فكرةً واحدة. العنوان يمثّل عنواناً لقصة داخل المجموعة، كما لو كان يريد أن يعبّر عن حالة شاملة متدفقة تنهمر منها مقذوفات صادمة ومستفزة تؤدي وظائف سيكولوجية؛ فتستميل عاطفة القارئ لتقبل الطرح الفني وتصدمه بارتباط هذا الطرح بواقعه الاجتماعي والإنساني، ثم تحيله إلى عناوين فرعية تتسلّط عليها إيحاءات هذا العنوان ودلالاتهِ. والعنوان (زر وسط القميص) يحقّق الاختصار والتكثيف والعمق، كأنَّ الكاتب ينقل القارئ مباشرةً مما هو معلوم ومألوف إلى ما هو غريب في قصص المجموعة:( تعال ولا تأتِ، مثلُكِ أنتِ هذا المساء، ورد في زقاق دمشقي خلف النوفرة، باب الهوى، انقطع زر في وسط القميص، قصّيب الغرفة، تراب معتّق، ناديتُ والله يقترب، التي نبتت من العيون).
كما يمثّل العنوان لوحةً فنيّةً التقطها الكاتب صاحب الخيال الواسع بعد تركيزٍ وتأملٍ، كلوحاته الفوتوغرافية، له دلالةٌ رمزيّة، حيث الزر يربط طرفي القميص بعضها ببعض مما يشكّل حالةً جماليّةً مكتملة وانقطاعه يدلّ على الفقْد والخسارة.
الكاتبُ يتحدث عن الحب والاغتراب، والقهر والغضب، بثّ في قصصه أوجاعه وآلامه وآماله، وفيها الموسيقى الدافئة رغم صوت الفكرة العالي الذي كان أعلى صوتاً من الحدث؛ حيث نلتمس في هذا الكتاب روح الكاتب المثقف الذي يرسم كلماته بمهارة تجعلنا نبحث وننبش عما وراء الكلمات من دلالاتٍ كامنة، حيث تثير كثيراً من الأسئلة في كلّ مرّة نقرأها، يتطلع دائماً لتفاصيل الجمال في اللوحة التي يصورها وفي القصة التي يكتبها.
كتاب (زر وسط القميص) تستطيع قراءته كيفما تشاء، تستطيع أن تبدأ من وسطه أو من آخره، لك حريةُ الاختيار من أين تبدأ. وهو كتابٌ أو مجموعةٌ من القصص يعبّر عن مؤلفه وعن انتمائه للقضية والأمة والوطن، وارتباطه بماضيه الذي يمثّل حالة الوعي عنده، فالماضي عنده تجارب وعي وقراءة وخبرة، وتشكّل كذلك المكان عنده حيث ارتبط بحالة وعيٍّ معينة، فكلُّ مكان له حالة وعي معينة عنده.
لم يجد الكاتب مكاناً يختبئ فيه وراء قصصه؛ لأنَّ كلَّ قصة عنده تروي حكاية ما، وبسبب قصرها يعبر باقتدار وفنية وعمق عن رؤية فلسفية، ومرجعية معينة، وإذا افتقدت القصة هذا العنصر تصبح عبثاً لا قيمة لها، وقد سلمت قصص الكاتب صالح حمدوني من هذه السقطات فجاءت قصصه في الغالب محكمة الحبك، دقيقة الفكرة، مكثفة اللغة، انطلقت من الذات الشعورية واللاشعورية من المكبوتات الواعية واللاواعية في استعراض للعلاقات الإنسانية على المستوى التفاعلي والقيمي والإنساني يقول في قصة (تعال ولا تأتِ): "أعطيتهم رغيف خبز نحته رجلٌ في زواريب المخيّم، كان يبكي طفلته الأولى، ويحمي الثانية من موتٍ غبّي، والأمكنة تحتفل نصراً وهزيمة، أنت ماذا فيك؟، كلهم جاؤوك، حملوا رعشتهم الأولى ومواويل الجدّة وحكايات حيفا، ودرجاً صاعداً نحو قهوة لا تشبه أحداً... ألهث...وأصرخ ثانية، وينك؟".
أمَّا التشويق فهو من العناصر المهمة للحدث، في القصة القصيرة لا يحققه السرد المتتابع فقط، وإنَّما المفارقة السريعة والمثيرة تتبعها قفلةٌ مدهشة فتزيد عنصر التشويق والإبهار، يقول في قصة (وأثرك يورق فيَّ): "ومع أصوات القصف تذكرتك، مع مواسم الهدنة الضعيفة، كنت أبحث عنك في شوارع غريبة، ذكّرتني رقصات الكرد بشعرك المجنون في هواء دمشق، ذكّرتنْي زواريب القاهرة القديمة، هربت، هربت، هربت وأجدك، فهربت إليكِ".
شكّلت الدراما عنده عنصر تشويق للقارئ، وعنصر رضا عند الكاتب، حيث تخلق حركة وتفاعلاً بين شخصياته وأحداثه والتي تسهم في توصيل الهدف والوحدة للمتلقي، وتجعله يندمج ويتأثر مع أحداث القصة مما يؤدي إلى تعزيز الخيال عنده من أجل التفاعل مع موضوع القصة أو فكرتها بشكل كامل. والفكرة هي التي تتمخض عنها القصة القصيرة وتنبع أهميتها من أنَّها أساس للحديث القصصي وبالطبع لا تحتمل أكثر من فكرة محرضّة للقارئ ومهيئة لإنتاج أفكار ليشاركها في رؤيتها، يقول في القصة (انقطع زر في وسط القميص): "تعالوا، فالوقت انتهى للكتابة، وأصبح أسودَ للنّعاس، ووسواساً للنّوم، تعالوا سأنام. تُرى: كيف انقطع زر في وسط القميص حين شهقت بآخر الكلمات، وكيف ترك العروة مفتوحة؟".
أمَّا ما يتصل بالواقع الزماني والمكاني اللذين يؤديان الدور الرئيس في الكشف عن صفات الشخصيات خاصةً وأنَّ شخصياته أخذت مسار الغموض والتنكر في بعض القصص، فأطلت في الأعمال وكأنَّها عوالم شفافة لا يدرك كنهها ولا تتضح أبعادها إلا في لحظات احتدام صراعها الداخلي أو الخارجي يقول في قصة (انقطع زر في وسط القميص): "أبدأ من نهار أتى أو هو موجود أصلاً ولم انتبه لأراه، أنشغل بكيف سأرى هذا الصباح؟ تلسعني دروبُ الذكريات الطرية لأنَّي ما عدت قادراً على الارتعاش كما يجب. ويقول أيضاً:" أنهضُ من كرسيّي المأزومِ، أُغلقُ كتابيَ اللامبالي، اُميِّلُ رأسيَ كي يستقَر الأصدقاءُ في زاويةٍ غيرِ مستعملةٍ طيلةَ نهارٍ مكتظٍ".
ويقول في قصة (رأيتُني أفلت راكضاً): "أصوات الخطى المتحجرة في الطرقات، أرصفة ونشوة. أحزمُ الرغباتَ والحلمَ المتدّثر، وأمضي كأوّلِ مرةٍ، وأصيُر خمرةً وأطِلُ من فوقٍ...".
وأفسحت قصصُه المجالَ للحوار الداخلي والخارجي فكان مفاجأة لتقديم النص، والكشف عن بواطنِ وعوالمِ أبطال القصص يقول في قصة (تعال ولا تأتِ): "ليس له اسمٌ ولا عنوانٌ، ولا مكانُ ولادةٍ، لا يشبه الحبَّ ولا الحلمَ، يشبهُكِ أنتِ فقط، يمكن منفى أو نبّي؟. بتعرف؟ ولا مرة حسيت أنو لك اسم، ولا مرة سميتك، فقدٌ مطلق، شكلٌ يبحثُ عن روحهِ، أو روحٍ اختبأت في مكانِ ما. أنت ممن أدمنوا الغياب، ليش جيت؟ يا من لا اسم لكَ".
وبالرغم من تكثيف اللغة واختزالها واستخدام الجمل القصيرة في هذه القصص فإنَّ الكتابَ حافظ على البناءِ القصصي التقليدي يعرضُ الحدثَ ويحللُ الشخصيات، ويصف الجوَ والطبيعةَ والأماكن. كأنَّ قصصَه القصيرةِ تضبطُ إيقاعها على توصيل رؤيتها للكون والأشياء، ببسط مساحة فنية مع تكثيفٍ وتعميق، ورمز يحجمُ الشكلَ التقليدي ويقلصُ من مفرداته فجاءت قصصُه في منتصف الطريقِ بين القصةِ القصيرة والقصيرة جداً.
وهناك تحوّلٌ في البنيةِ الشكليةِ (اللغة) فيبدل الكاتب بين ضمير السرد من الراوي /الراوية بضمير الغائب إلى المخاطب الذي يكوّن الجانبَ الآخرَ الذي بداخله، فهو الذاتُ المثقلةُ بألم التحوّلِ من حال إلى حال، فيبدو الخطابُ القصصي وكأنَّه قصيدة موازية للحياةِ بكلِ ثرائِها وتنوعِها وقضاياها ومشكلاتِها الإنسانيةِ والعاطفيةِ.
وأخيراً؛ في تلك القصص نجد الكاتبَ يقدمُ رؤيتَه لقضايا مجتمعية من خلالِ شخصيةٍ محوريةٍ، تتوارى وراءَ الموقفِ المحكيِ، دون أن يستلزم وجودَ شخصياتٍ لا مكان لها، واستخدام جمل فعلية متتالية تكشف ملامحَ القضيةِ التي يعرضُها وتضيف بعداً معنوياً للمكانِ والشخصية. كما قدّم الكاتب رؤيتَه في قالب له فضاءٌ منفتحٌ، بمفاهيمَ عميقةٍ لا تصل لحدِّ التعقيدِ. وتفسحُ المجالَ لأدواتِ السردِ والفضفضة ِالحميمةِ.
امتدَ التصويُر الفوتوغرافي وتفاصيلُه الدقيقةِ إلى كتابته فهو في كل زاوية يقدّمُ مشهداً فوتوغرافياً، ويصّورُ بعينِ كاميرته الذكية ما يدورُ في خاطره بكّلِ تفاصيلهِ في الماضي والحاضر، إلا أنَّ الماضي كان حاضراً أكثرَ في سروده الموشحة بالشعرية التي تحكي الوطنَ والمخيمَ والحبَ والمرأةَ والذكرياتِ القديمةِ والحزينةِ، حيث قدّم نصوصاً أدبيةً بقالبٍ أدبي جديد حيث يُدخِلُ اللغةَ العاميةَ في النص لتكونَ جزءاً أساسيّاً فيه، فهو يتنقلُ بين العاميةِ والفصحى انتقالاً سلساً دون شذوذٍ أو نشازٍ، مما أعطى النصَّ رونقاً خاصاً به أفاض عليه الكثيَر من الحيوية ِوالبساطةِ يقول في قصة ( مِثلُكِ انت هذا المساء):" أصلاً الدنيا مليانة صور وحكي". ويقول في قصة (تعال ولا تأت):" بتعرف؟، ولا مرة حسّيت أنو لك اسم، ولا مرة سميتك".
تتصلُ أجزاءُ القصة بعضها ببعض بحيث يكونُ لمجموعِها أثراً أو معنىً كلياً، فيها مزيج من الحرارة ِوالحيويةِ حتى لو كانت من الصراعات الخارجية، كما أنَّ أسلوبَه ملفتٌ للمتلقي، وهذا عنصرٌ مهمٌ في نجاح العمل القصصي، إضافة إلى طريقةِ صياغتهِ للنصِ القصصي وربطِ الأحداثِ معاً الأمر الذي يحققُ القبولَ لدى القارئ. فتحققَ مفهومُ الوحدةِ عنده حيث ارتبط بوجودِ شخصيةٍ رئيسة وأحداثٍ، وهدفٍ واحدٍ، فهو يوجّهُ كلِّ قصةٍ من قصصهِ باتجاه ٍواحدٍ ثابتٍ.
لقد اجتمعت في كتابه كلُّ العناصر التي تجلب الفرحَ وتخفّف الأسى والحزنَ، المرأة، الطبيعة، المكان، الكتابة، القهوة، وهذه كلُّها تخدم بطريقة غير مباشرة الفكرةَ التي يريدُ تقديمَها، فكرةٌ تجلبُ له شيئاً من الراحة والهدوء، فيلجأ لها لأنَّها الملاذُ الأخيُر له، ففي أغلب قصصه نجد المرأةَ تُطِلُّ علينا من بين سطورهِ، والقهوةُ، وصوتُ فيروز الذي يمثلُ الجمالَ والاكتمالَ، يكثرُ من استحضار المرأة في كتابته لتخلصه مما هو فيه من بؤس واغتراب، يقول في قصة (تراب معتق):" أنا قربُكِ الآن، يدي ترسمُ تاجاً فوق رأسِكِ، صليتُ، لأغيبَ فيكِ، لأقترفَ خطايايَ فيكِ".
ويقول أيضاً في القصة نفسها: "وتفحصُ شفتايَ نبضَ روحكِ تحت العين، على الشفاه، على صدركِ المتوثبِ وتهبط حتى آخَر نبضٍ يغيب".
كما يلجأ إلى المكان؛ وخاصةً دمشق التي يعشقها ويتحدث عنها كثيراً فيتغزّل بها، وبجمالها، فتتحوّل لغة الحزن إلى لغة الفرح، يقول في قصة (ورد في زقاق دمشقي خلف النوفرة): "دمشقُ تملُكني، أعشقُ حريَتي فيها، دمشقُ عاشتني وعشتُها، كنت صبيتَها المدللةَ، لا ذاكرة لديّ دونَها. دمشُقُ علمتني اللغةَ، وأسكنت فيَّ الحبَ، وقالت: لا تكوني إلا أنتِ".
ويقول أيضاً: "هناك تضمُني دمشقُ، فلا أجرؤُ على الرحيلِ منها...".
شكّلت قصصُه وحدةَ انطباعٍ لدى القارئِ، حيث تتكاملُ قصصُه مع كثيرٍ من عمالقةِ القصة ِالقصيرةِ في الأدب العربي الحديث والمعاصر في الاحتكام إلى جماليات القصة القصيرة كما عرّفت، كما أنَّ الكاتب يجنح إلى اللغة الأدبية الأنيقة عوضاً عن اللغة المعبّرة عن الحياة اليومية العادية.
ما يقرب قصصه من الشعر طواعيتها للتعبير عن الذات مع اعتمادها على التركيز والتكثيف والاكتفاء من الشيء بالإشارة إليه بعيداً عن التطويل والتفصيل، حيث جاءت كل قصة من قصصه متجانسةً لغويّاً حيث لا ضرورة لتنوع الأسلوب والكلام لمحاكاة خطاب الناس مختلفي الميول والمشارب في حياتهم، ومما يقرّب قصص الكاتب من الشعر أيضاً اعتماده على الراوي المتكلم الذي هو الشخصُ الرئيسُ في القصة؛ فيأتي السردُ ذاتيّاً في الغالب؛ ففي قصة (قصّيب الغرفة) يقول:
"أتيتكِ تاركاً ذاتي، قلت خذني من جسدي ليس لي أرضٌ تؤويني، ولا غيمٌ يظللُني. مصاب في قرارة روحي مصاب منذ صباي. قصائدي ثكلى، والجرائد منذ صفحاتها الأولى تكذب، ووطني يخدعني. أتيتكِ أقولُ حنيني، كنتِ الوردَ والماءَ، أوقِدُ لك من الدمع شمعةً، فقد جئت من عشق مدججٍ بالهزيمة، وحدي جئتُكِ".
إنَّ كثرة استخدام الكاتب للسارد الذاتي واعتماده على لغة الذات، أضفى على القصص طابعَ البوح، وأتاح له تكرير المشهد السرديّ، وهو من الوسائط التي يلجأ إليها القاص في العادة لإضفاء السلاسة والإيقاع النثري على القصة، ففي قصة (وأُثَرُكِ يورِق فيَّ) يقول:" ومع أصواتِ القصفِ تذكرتُكِ، مع مواسم الهدنة الطفيفة كنت أبحث عنك في شوارعٍ غريبةٍ، ذَكّرَتني هربت، هربت وأجدكِ، فهربت إليكِ".
ومع استبعاد حروف الربط والعطف يبدو تتابعُ الجملِ في إيقاع سريعٍ لاهث يضفي على النثر فيها بعضَ النغمةِ الموسيقيةِ التي تقرّبُها من القصيدةِ.
اعتمد الكاتبُ في قصصه على المفارقة مثلما تعتمدها القصيدة، فعزف الكاتب على وتر التناقض الظاهري بين تلك الأشياء التي تتشكّل منها أجواءُ القصة من خلال وجود مستويين للمعنى للتعبير الواحد، المستوى السطحي والكامن. كما احتوت قصصُه على مفارقة لفظيّة أيضاً؛ وهي طريقةٌ من طرائق التعبير بحيث يكون المعنى المقصودُ مخالفاً للمعنى الظاهر، وينشأ هذا النمط من كون الدال يؤدي مدلولين متناقضين الأول مدلول حرفي ظاهر، والثاني مدلول سياقي خفي، وهنا تقترب المفارقة من الاستعارة أو المجاز وكلاهما في الواقع بنية ذات دلالات ثنائية تشتمل على علاقة تُوجِهُ انتباهَ المخاطبِ نحوَ التفسيرِ السليمِ. كما اعتمد على التعبير بالصور شأن الشعر يقول في قصة (ناديت والله يقترب): "يهجم الموج ويعلو، موجة تنادي الأخرى، البحر يفتح فمه ولا يشبع من موتنا".
ويقول في قصة (مشكاة تُهوِّم في التفاصيل): "ليس الأفقُ إلا امتداد روحنا. تمطر الآن، أحدٌ ما يسرق جسدي يتلحفُهُ ويمضي، النشيدُ ليس له".
وفي المشهد الوصفي الذي يتكرر في قصة (ناديت والله يقترب) نجد الكاتب يعتمد التواتر في العبارة القصيرة، وهو تواترٌ لافت للنظر، يقول:" قُدْ الوعلَ إلى الأدغال الوحشيّة، حرّرني من الخوف، أدخلني في فضاء ِالحريةِ والانعتاق، خذني نحوَ سهول...، نحو شامتكِ، نحو شمسِك الحارة، نحو ناركِ المقدسةِ، خذني".
لا يخلو نسيج القصص عنده من ابتداع علاقات تركيبيّة بين الألفاظ تقوم على الانزياح، يقول في قصة (مشكاة تُهوِّم في التفاصيل):" سيكون لي مشوارٌ مع الناياتِ، ولن يدلَني إلى موسمِك طيٌر، ها أنتِ، تسردين لظلكِ حكايةً عن أسمر غاب، سأُعدُّ مائدةً أخيرةً لانكسار الهواءِ، أنا الذي رأى العتمةَ".
ويقول أيضاً: "وتنمو في ترابِ يديكِ أسطورةٌ، كي لا تنامَ قهوتُنا والقصائدُ".
استطاع الكاتبُ أن يضعَ قصصَه في دائرةِ السردِ الفني المتوهج، مما أدى إلى ظهورِ أسلوبٍ جديدٍ يتم فيه الإخبارُ الفنّيُ عن طريقِ القصِّ والإيحاءِ بالصورةِ، فقد جعل نصَّه الأدبيِ معادلاً موضوعياً له عن طريق التفاعلِ الذي صنع رؤيةً كليّةً من خلال تداخلِ القصة مع الشعر، وهذا لا يعني أن تتساقط الموازينُ وتختّلُ الأسسُ، وإنَّما احتياج نوع لآخر فيجتلب منه بعضَ خصائصِهِ. إنَّ نصوصَ صالح حمدوني في "زر وسط القميص" ثائرةٌ عابرةٌ للنوعية مهجّنة بأجناسٍ أدبيةٍ وقوالبَ فنيةٍ قديمةٍ وحديثةٍ، وارتكزت على القصصيةِ والجرأةِ، ووحدةِ الفكرةِ والموضوعِ والتكثيفِ، وحوّلت تركيبتَها الداخلية إلى خليطٍ من الأجناس متحررة القالب.