في حضرةِ الحاضرِ "الأسد"؛ حلقةٌ في اللغة والأدب والوفاء

د. سمية سليمان الشوابكة
أكاديمية وباحثة أردنية

السّلام على الأسد ناصر الدّين، والسّلام على روحه الّتي ما زالت تحوم حوالينا، تحرسنا وتحنو علينا.
السّلام عليه وهو يُوغل في الرّوح أملًا، ويجتاز عتمًا، ويُسرج في الأفق حلمًا. السّلام عليه يعلّم باللُّغة معنى الاختلاف والائتلاف، مؤمنًا بحقّ الآخر في الاختلاف، مؤكِّدًا أنّ الحرّيّة أُسُّ الإبداع وحِصْنُه، منطلقًا من دائرة الحوار مع الذّات إلى دوائر الحوار مع الآخر، متذكِّرًا ما له وما عليه، مستوعبًا حقّه عليك وحقّك عليه في الخلاف والاختلاف، معترفًا بمزاياك ومزاياه، متحرِّيًا الدِّقّة في النّقل، والموضوعيّة في الأخذ والرّدّ، باحثًا عن ضالّته المنشودة أدبًا وعلمًا وفضًلا.
في حضرته تحلو الإشارات، وتتيقَّظ الأشواق لمَن مِن كأس محبَّته ذاق، فتُرفع رسائل أشعاره بعد أشعار راشد العيسى وخالد الجبر وناصر المبارك بالدّمع السّائل وبألطف الوسائل؛ فهو الشّفيف الّذي لا يشبه إلّا نفسَه، هو هو؛ في الضّوء كما هو في العتمة: لا يتزوّق ولا يتجمّل ولا يحفل بكرنفالات التّهريج، يلقانا دائمًا بكرَمِه، ويصلُنا بودِّه، ويُوتِّد علمه بالدّليل.
مُعلِّم من طرازٍ خاص، همّه العِلم وديدنُه الإخلاص، يتوكَّأ على عصا اللُّغة فيلقيها لتصير سنابلَ وجداولَ وبيادرَ ودٍّ ونوارسَ شوق، مُعلِّم عَلَم لا يحتاج إلى تعريف ولا مُعرِّف، ضميرُ اللُّغة المتَّصِلُ أدبًا وفضلًا وبيانًا، أستاذُ الموقف والرُّؤية والأداة، الأنيق في رَسْمه، البهيُّ في اسمه، الّذي ظلّ تلميذًا للمعرفة حتى الرَّمَق الأخير، الشَّيخُ الجليل الأنموذج الأمثلُ للأستاذ الحقيقيّ، الّذي كلَّما ازداد توهُّجًا ازداد تواضعًا وعطاءً.
أذكُر أنّي قرأتُ مرّة مثلًا إيرلنديًّا يقول: "ثلاثةُ أشياءَ لا يمكن تعلُّمها: الشِّعر، والكرَم، والصَّوتُ الحسن". وكم كان الأسد شاعرًا كريمًا، وضميرًا حاضرًا، وصوتًا حسَنًا! يتضوَّع شِعرُه مسكًا، ويفيض قمحًا فيطلع حِكَمًا، فننهل منه ونعلّ متى فِينا شدا، وننتشي معه في رقَّة حانية وخَدَر جميل؛ إذ يصير الكلامُ على لسانِه غيمًا، أو قمحًا، أو دمعًا يتجاوز به الآذان؛ لأنَّه يخرج من حبَّة القلب لا من طَرَف اللِّسان.
كان جَزْل اللّفظ، رائع التّعبير، ساحر الأداء، بليغ البيان، خصب الخيال، بديع الوصف، رخيم النَّغَم في شعره، عفَّ اللِّسان فصيحَه، نقيَّ السَّجايا، كريم الخصال، بِلَّوْريّ السّريرة، ساميًا في تطلُّعاته، معتدلًا في أحكامه، رمزًا من رموز عبقريّة الأمَّة، سامقًا في أدبه وعلمه وآثاره، شغَل نفسَه بدرسِه واشتغل به وعليه عقلًا وروحًا، فكان بحدسه وبصيرته واستكناهه ثريًّا، وكان في طرحه المختلف واثقًا هادئًا رزينًا، لم يبنِ بناءً ليُهْدَم، ولم يرصف طريقًا ليُنقَض، كان مثالًا للعدل والوفاء والعطاء في أقوى مبانيه وأرقى معانيه.
فأنّى لنا أن ننساه وقد أسبغَ علينا رعايَته، وأوسع لنا من وقته، وفسَّح لنا في مجالسه؟ وأنّى لنا أن نكونَه، أو نحيط به من زاويةٍ دون زوايا؟ صاحب التّصانيف والتّآليف، العالم باللُّغة، الحريص الحصيف الّذي أكّد لنا أنّ في الاختلاف ائتلافًا، وأوصانا بألّا نُلقيَ الكلام على عواهنه لفرضيَّاتٍ سابقةٍ، وألّا ننتصرَ لمقولاتٍ جاهزةٍ أو مُجْتَرَّةٍ مَكْرُورة حسب الطَّلب، وألّا نميلَ مع الهوى، أو نتعصَّب لرأيٍ أو نتعسَّف في مسألةٍ، بل نتوخَّى الغاية بدقّةٍ، ونُقيمَ الدّليل بعد اجتلاب النّصوص وقَنْصِها من مصادرها الأصول، من كتب اللُّغة والأدب والتّاريخ والسِّير والطّبقات والدّواوين الشِّعريّة، والاشتباك معها، وحصرها واستقراء ما فيها بوعي؛ لنسبر أغوارها، ونُرجع الفروع فيها إلى أصولها، والظّواهر إلى أسبابها احترازًا، ونُوفّق بينها أو نقابل فنمايز، ومن ثَمّ نرجِّح الأقرب إلى الصّواب نظرًا ورأيًا، ونحترز فلا نطلق الأحكام الفجّة، والتّعميمات الفضفاضة، ولا نتوسَّع بلا دليلٍ قاطعٍ أو حجّةٍ دامغةٍ أو برهانٍ ساطعٍ، وسندٍ راسخٍ، ولا نضيق ذَرْعًا برأي ورأي آخر، ولا نغمط حقَّ واحدٍ أو نحجب فضلَ سابقٍ، كلّ هذا وهو يؤكّد لنا دون تلكُّؤ أو تلجلج أنَّنا نكتمل بوجود الآخر قراءًة وكتابةً وحياةً؛ لأنّ الفكر الطّبيعيّ المستقيم لا يجري في مجراه الحقيقيّ إلّا إذا كان حوارًا متعادلَ الأطراف، بين نَعَم ولَا وما يتوسَّطهما من ظلالٍ وأطيافٍ؛ فاللهُ وحده هو الّذي وسع كرسيُّه السّماوات والأرض، فاتَّسع علمه للحقِّ كلّه، عِلمُه يقينٌ ليس فيه إمّا وإمّا، أمّا عِلْمُنا نحن البشرَ المفطورين على النُّقصان لا على الكمال، فأقصاه معرفةٌ لا مندوحةَ فيها عن الظّنّ، تحتمل البدائل حسب.
كان الأسد علّامة ملء العين، بل ملء القلب نتحلّق من حواليه، يقرأ علينا ونقرأ عليه، يسألنا ويستحثُّنا، ويشرح لنا بعض ما غمض علينا ويُجلّي ما أُلبس، يُغربل الخليط في منطوقنا ومكتوبنا، ويُبعد الغِلال عن الحصى، ويضمُّ الصّواب إلى مِثله، لتكتمل في أذهاننا صورة الحقّ، وكثيرًا ما كان يستطرد إلى ما يستدعيه الشّرح من نحوٍ وصرفٍ ولغةٍ ومعجمٍ وشواهدَ شعريّةٍ، فنراه شارحًا موضِّحًا ومعلِّقًا ومعقِّبًا وموجِّهًا ومؤنِّبًا إلى حدّ التّقريع أحيانًا؛ مؤكِّدًا أنّ العلم يحتاج لبلوغ غايته إلى الصَّبر على كل عارضٍ دونَه، وعليك أنْ تُعطيه كلَّك لعلَّ يُعطيك بعضَه.
"وَمَنْ يَصْطَبِرْ لِلْعِلْمِ يَظْفَرْ بِنَيْلِهِ وَمَنْ يَخْطِبِ الحَسْنَاءَ يَصْبِرْ عَلَى البَذْلِ."
رحم الله شيخنا الأسد الطُّلَعَة، يسَّاقط على مُريديه رُطبًا جنيًا، يفيض بالنُّور والرُّواء، وقد تعلَّمنا معه كيف نصارع الجُمود ولا نرضى بالموجود: فإمّا الصُّعود، وإمّا الصُّعود. والسَّلام على زملائي في حلقة البحث في اللُّغة والأدب الّذين حفظوا الودّ، وحافظوا على العهد، وساروا على هدي الأسد الّذي محَضَنا النُّصح حقًّا، فصاروا نعم الأساتذة الأجلّاء علمًا وفضْلًا وأدبًا ووفاءً.