حضَر الأوان، وحضر الرَّجُل

أ‌. أحمد الشّيخ

ترى هل يظلُّ المكان على ما هو عليه، قطعةً من الأرض، أم يكتسب كينونةً متجدِّدةً بفعل مَن يستَوُون فوقه، ويطْبَعُون عليه بصماتهم، بل يُعيدون تشكيله في الواقع والذّاكرة، على مَرِّ العصور؟
ينبعث هذا التَّساؤل في ذهني كلَّما مررْتُ من أمام البوّابة الأولى للجامعة الأردنيّة، فحالما يقعُ البصرُ على تلكُم الكُرتَيْن اللَّتَين تعلُوانها، وتتبدَّى خلفَهما أشجار السَّرو العتيقةُ، تنبعث أيضًا قامةٌ سامقة، ترتفع وتملأ فضاء الخيال، تفتح الباب على مِصْراعيه فتتقاطر عبرَه الأجيال، وتنفتحُ أمام كلّ واحدٍ منهم آفاقٌ وآمال.
ذلكم هو ناصر الدّين الأسد، الأستاذ المؤسِّس، وهذه هي الجامعة التي جسَّد فيها أحلامه المعرفيّة المتَّقدة ببَرْدٍ وسلامٍ منذ غُرِسَت بذورُها الأولى، وهو تلميذٌ من المتفوِّقين في الكلّيّة العربيّة في القدس، ثم ترعرعت، إذ أصبح أستاذًا في الكلّيّة الإبراهيميّة في المدينة التي أحبّ، ثم كبرت وبلغت مراتب العالِمين بيَقِين، الَّذينَ لا يُمالِئُون في الموقف العلميّ، ولو كان الخصم أستاذًا تشهد له الدُّنيا، وقد ملأ صِيتُه أركانها.
وجدْتُني ذاتَ يومٍ في أواخر صيف عام 1968 أعبر تلك البوّابة، مع مئات غيري من الطَّلبة المُستَجِدِّين للتّسجيل في السّنة الأولى، في الجامعة الّتي قال لي والدي، رحمه الله، وأنا صبيٌّ حالم يومًا: "ستدرس فيها إن شاء الله، أنت وأولادُك".
قال لنا من سبقُونا: إنّ الجامعة شُيِّدت على أرضٍ عسْكرَ فيها الإنجليز سابقًا، ثم حَلَّ فيها الجيش العربيّ الأردنيّ، وما تزال بعض مباني العَسْكَر الصفراء ماثلةً في الأطراف بين أشجار السَّرو والصَّنَوبر الَّتي استظلَّها الطّالب الجديد وناجاها، لعلَّه يجد في ذلك بعضَ سَلْوى عن كُروم زيتونٍ وتينٍ وعنبٍ غادَرَها وراءه في الوطن المُحتلّ.
كان الأستاذُ المؤسِّس قد انتقل من رئاسة الجامعة إلى مكانٍ آخر إذ قُبِلْنا، لكنّ الجميع كانوا يتحدّثون عنه بإجلالٍ، إجلالٍ لصاحب المكانة العلميّة المرموقة، إجلالٍ للإداريّ الفَذّ صاحب الرُّؤية الثّاقبة، وفوق ذلك كلِّه إجلالٌ للإنسان المتواضع المُتَسَامي عن كلِّ هوًى. ومن كثرة ما تحدَّثوا به عنه كنتُ أتخيَّله يتجوَّل بين الطَّلبة تحت ظلال الأشجار العتيقة، ويحدِّثُهم بصوته الجَهْوَرِيّ بلغةٍ فُصْحى عذبةٍ رصينةٍ، هي تمامًا مثلُ ما يخطُّ بيَراعه، وقليلٌ هُم مَن يستطيعون ذلك ويمتلكون مَلَكَتَه، كما قال واحدٌ من طلبتِه النّابغين.
كانت سمعة ناصر الدّين الأسد، أكاديميًّا وباحثًا، قد طبَّقت الآفاق قبل أن يتولَّى تأسيس الجامعة ورئاستها، وهو الّذي وقف يومًا يدافعُ عن شِعْر العرب وتراثهم الأدبيّ في العصر الجاهليّ. وتنوَّعت خبرته ومَشارب معرفته في التَّدريس والسِّلك الدِّبلوماسيّ، وأثْرَتْ عِلْمَه علاقاتُه وزمالتُه لبعض أقطاب زمانه في ميادين التُّراث والأدب والتَّحقيق، فكان اختيارُه لتأسيس الجامعة ورئاستها، بطبيعة الحال، اختيارًا للرَّجُل المناسب في المكان المناسب، وهذا لعَمْرُكَ شَرْطُ النَّجاح الأوَّلُ لأيّ مَشْروع.
ما كادت الجامعة النّاشئة تُسجِّل وجودَها بين جامعاتٍ سبقتها بعشرات السِّنين، حتّى شهد لها السّابقون، بل لقد طاوَلتْ بعضَهم وبَزَّتْهُم. فتح ناصر الدين الأسد الباب الأكاديميّ واسعًا فاستقطب ثُلَّة من الأساتذة المشهود لهم في تخصُّصات كلِّيّات الجامعة الثّلاث في سنواتها الأولى. جاؤوا من الشّرق والغرب، من العَرب وغير العَرب، ذلك أنّ الشَّرط الوحيد الّذي حرص عليه الرَّجُل هو الكَفَاءَة، بعيدًا عن أيّ اعتبارٍ آخر، وعن أيّ هوًى.
كنتَ تلتقي في أروقة الجامعة عبدَ العزيز الدُّوريّ، وعبد الكريم خليفة، ومحمود إبراهيم، وألبرت بطرس، ومحمود السّمرة، والياغِيَيْنِ هاشمًا وعبد الرحمن، ونهاد الموسى، وقاماتٍ أُخرى قد لا تسعفُ الذاكرة بسرد أسمائهم بعد خمسة عقود ونيِّف من التَّخرُّج. أمّا سياسة القبول، فكانت معاييرها الجَدارة، والأفضل فمَن يَليه، وهكذا رُفِعَتْ للجامعة الفتيَّة وخرِّيجيها راياتُ السَّبق أينما ذهبوا وحملوا عَلَمَها وعِلْمَها.
ومع أنِّي لم أُتَلْمِذ لِناصر الدين الأسد، ولم يُسْعِفني حظّي فأكون في الجامعة وهو على رأسها، فإنَّ نِتَاجه العلميّ والأدبيّ الثَّرَّ والثَّريّ سيظلّ مدرسةً يستدرك منها كلُّ طالب علمٍ ما فاتَه، ويَسْتَلهم سيرتَه المُنافِحة وإيمانَه بأصالة الأُمّة وهُويَّتها العُروبيّة الإسلاميّة.
عرفتُ ناصر الدّين الأسد من على شاشة التِّلفاز، وكم كان الاستماع إليه بلغته وفصاحته الآسرة ماتعًا! حتى إنّك لَتظنُّ، وأنت تستمع وتُشاهد، أنّ الزّمن عاد بك إلى عُصور الإسلام الأولى حين كان اللِّسان العربيّ فصيحًا فذًّا بالسَّليقة من دون تَنَطُّع ولا تكَلُّف.
شاهدتُه يومًا في برنامج كان يقدِّمه على شاشة التِّلفزيون الأردنيّ، واستضاف في إحدى حلقاته عن كتاب (ألف ليلة وليلة) قاماتٍ مثل قامتِه بطبيعة الحال: أحمد طالب الإبراهيميّ من الجزائر، وأحمد صدقي الدّجانيّ من فلسطين، وأحمد كمال أبو المجد من مصر. كنتُ قرأتُ (ألف ليلة وليلة) صبيًّا، ثمّ شابًّا، ثمّ صحفيًّا، وظننتُ أنِّي أحطتُ بالكتاب، فجَعَلَتْني تلك الحلقةُ، بما كان فيها من حوارٍ عميقٍ، أُدركُ أنَّ عليَّ أنْ أسْتَدركَ، وأنْ أتَواضَع.
وشاهدتُه في حلقات برنامج (فكر وحضارة) مع الصّديق خالد الجبر، فسأله يومًا عن بعض زُملائِه وأقرانه، فقال: "والله إنِّي لأَقْدُرُهمْ، وهذا ليس مِن قَبيلِ التَّواضُع المُتَكَلَّف، بل هو واللهِ حَقٌّ وحَقِيق".
المكانُ ينتظر حتَّى يحضُر الأوَان، والأوَانُ ينتظر الرِّجالَ ليستَوُوا على المكان، ويُعيدوا تشكيلَه ويَسْطُروا عليه صَفحاتِ تاريخٍ جَديدٍ. حضَر الأوانُ، وحضَر ناصرُ الدّين الأسد، فكانت الجامعةُ الأردنيّةُ، وكانت معها أحلامُنا!