د. إسماعيل القيّام
أكاديمي وباحث أردني
لا يستطيعُ القارئُ الحصيف تجاوُزَ مقدّماتِ أعمال الأسد؛ لِما تقدّمُه كُلٌّ من إضاءةٍ وافيةٍ وإطلالةٍ مهمّةٍ على العملِ الذي تتصدّرُه، ففيها بيانٌ لأهميّةِ الموضوع وقيمتِه، ولصِلته به وأسباب تناوُله، وأبرزِ ما واجهه من عقَباتٍ ذات صِلةٍ وثيقةٍ بالموضوع، وفيها تبيانٌ للمنهجِ الذي سار عليه، وتعريفٌ بالمصادر التي رجع إليها ونقدٌ لها، وفيها إشاراتٌ بأسفٍ بالغٍ إلى مصادر تعذّرَ عليه الوصولُ إليها لأسبابٍ لعلّ أبرزها أن تكون مذكورةً ولم يُعثَر عليها، أو تكون ممّا يُتوقّعُ وجودُه مع أنّه لم يُشر أحدٌ إليه، كقوله في مقدّمة تحقيقه لديوان قيس بن الخطيم: "لم أجد لديوان قيس بن الخطيم –في ما بحثتُ فيه من مصادر ورجعتُ إليه من فهارس الكتب والمكتبات– روايةً مُسنَدةً منسوبة، يرتفعُ إسنادُها إلى راويةٍ عالم من رواة الطّبقة الأولى وعلمائها سواء من البصريّين أو من الكوفيّين. ولئن كان تنقيبي قد قصّرَ –حتّى الآن– عن بلوغ الغاية التي كان يتطاولُ إليها همّي من العثور على روايةٍ منسوبةٍ إلى راويةٍ عالمٍ بصريّ: كأبي عمرو بن العلاء والأصمعيّ وأبي عبيدة وغيرهم؛ أو راويةٍ عالمٍ كوفيّ: كالمفضّل وأبي عمرو الشّيبانيّ وابن الأعرابيّ وغيرهم – فإنّي أرجو أن يكون حظّ غيري خيرًا من حظّي، وأن تكون طَلِبَتُنا في إحدى المكتبات العامّة التي لم تُفَهرس فهرسةً دقيقةً منظّمةً تدلُّ على كلّ ما فيها، أو في إحدى المكتبات الخاصّة في مشرِقنا أو في مَغرِبنا العربيّين".
يكشف هذا الاقتباس علاقة الأسد بمصادر دراساته وأبحاثه، فهو معنيٌّ بالاطّلاع على كلّ المصادر والمراجع التي تتّصل بموضوع دراسته من قريبٍ أو بعيد، مطبوعةً أو مخطوطة، موثوقةً أو غيرَ موثوقة، ولكنّ عنايته البالغة تتّجه دائمًا صوبَ المصادر الموثوقة، يأملُ العثورَ على روايةٍ "مُسنَدة منسوبة" وهو الذي يعرف قدْرَ هذه الرّواية وأهميّتَها وفضلَها على غيرها. وكيف لا يكون كذلك وهو الذي وقف –في مصادر الشّعر الجاهليّ- على رواية الشّعرِ ورُواته بالتّدقيق والتّمحيص والتّحقيق، وفصّلَ القولَ في طبقات الرُّواة، ثمّ بيّنَ فضلَ طبقة الرُّواةِ العلماء على سائر الطّبقات: الشّعراء الرُّواة، ورُواة القبيلة، ورُواة الشّاعر، والرُّواة المُصْلِحين للشّعر، والرُّواة الوضّاعين؟
وكأنّي، وأنا أنظرُ في مقدّمات كتب الأسد ومؤلّفاته، أراه يتمثّلُ أمرين مهمّين لا ينفصلُ أحدهما عن الآخر، ولكنّ القارئ يستشفُّهما استشفافًا دون أن يُفصح المؤلّفُ عن أيٍّ منهما؛ أوّلُهما أنّ الأسد إنّما يفعل ذلك ليأخذ بيد قارئه، فيُطلِعه بتأنٍّ وإيجاز على خطواتِ عملِه خطوةً خطوةً، حتّى يضعَه في جوّ العمل ومسالكه، ومداخله ومخارجه، ابتداءً من أسباب اختيار الموضوع ومدى عنايته واتّصاله به، مرورًا بمنهجه وبمصادره ومراجعه، وانتهاءً بأبرز نتائجه؛ ممّا يُتيحُ للقارئ قراءةَ العمل على بصيرةٍ وهدى، مُعَلَّلةً بين يديه أسبابُ ما قد يبدو على غير ما يريده المؤلّف لو أنّه لم يقدِّم له تلكَ الإطلالةَ.
وثانيهما يتّصلُ بشخصيّة الأسد المؤسِّسة، فهو في مصر قد اتّصلَ بجيل التّأسيس كطه حسين والعقّاد ومحمود شاكر، واشتبك معهم معرفيًّا وثقافيًّا، كما أنّه في الأردنّ كان الرّئيسَ المؤسِّسَ لأولى الجامعات (الجامعة الأردنيّة) سنة 1962ولكليّة الآداب فيها، واستقطبَ حينذاك خيرةَ الأساتذةِ للتّدريس فيها، ثمّ أُسنِدَ إليه تأسيسُ المجمع الملكيّ لبحوث الحضارة الإسلاميّة "مؤسسة آل البيت" (1980- 1993)، ثمّ تولّى سنة (1985) أوّلَ وزارةٍ للتّعليم العالي... لكلّ ذلك تبدو فكرة التّأسيس حاضرةً بقوّةٍ في مقدّمات أعماله العلميّة، فكأنّما هو يؤسّسُ لبناء باحثين يترسّمون منهجه في البحث الأدبيّ واللّغويّ، فيبيِّنُ معالم منهجه انطلاقًا من مسؤوليّة يراها مُلقاةً على عاتقه، ويحرصُ على تثبيتِ أركان هذه المعالم نظريًّا في المقدّمات، وتطبيقيًّا في الدّراسات والأبحاث. تجدُه في مقدّمة (القيان والغناء) مثلًا يُفيض في الحديث عن مصادره ومراجعِه، ما اقتبسَ منهُ وأفاد في دراسته، وما لم يُفِد منه أو يجد فيه ضالَّته، فهو بعد أن يُتمّ قراءة (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهانيّ يتّجه إلى كتب التاريخ (الطّبريّ والمسعوديّ وابن خلدون وابن هشام، وابن سعدٍ وابن حَجَر) معلِّلًا انصرافه إليها في مستهلّ بحثه بأنّها تفيده في جمع أخبار القيانِ والغناءِ من جهة، وتُعينه في أن يستبينَ "حياةَ القومِ الاجتماعيّةَ والاقتصاديّة والسياسيّة". ثمّ يرى أنّ هذا التاريخ "لا يتمُّ إلاّ بقراءةِ الكتبِ الجغرافيّة عن الجزيرةِ العربيّة" فيقرأ (صفةَ جزيرةِ العربِ للهمْدانيّ، وأجزاءً متفرّقةً من المكتبة الجغرافية التي نشرتها مطبعة بريل في لَيْدن: كالأعلاقِ النفيسة لابن رسته، وكتاب البلدان لابن الفقيه، وكتاب البلدان لليعقوبيّ، ومسالك ابن خرداذبّة)، ويقرأ (ما كتبه المؤرّخون والجغرافيّون اليونان عن العرب: هيرودوتس وديودورس الصّقلّيّ وسترابو)، معلِّلًا ذلك باحتوائها على كثير من الأخبارِ التاريخيّة والروايات الأدبيّة، وبما تُعين عليه قراءتُها من فهم البيئة الجغرافية الطبيعيّة لجزيرة العرب.
ثم يعقّبُ بكتب الأدب العامّة (كتب الجاحظ ورسائله، وخاصةً البيان والتبيين، والحيوان، ورسالتيه عن القيان وطبقات المغنين، وكتابي ابن قتيبة: الشعر والشعراء، وعيون الأخبار، وعقد ابن عبد ربّه، وعمدة ابن رشيق)، ثم الموسوعات العامة المتأخّرة (مسالك الأبصار لابن فضل الله العمريّ، ونهاية الأرب للنّويريّ)، ثمّ ينتقل إلى كتب الموسيقى والغناء العربية، ويُتبع ذلك بقراءة الشعر الجاهليّ نفسه في الدواوين، وفي المجموعات الشعريّة: كالمفضَّليّات والحماسة وجمهرة أشعار العرب.
فالشِّعرُ الجاهليّ آخرُ ما يبحثُ فيه الأسد عن طَلِبَتِه، بعد أن يطوّفَ بين كتب التّاريخ والجغرافية والأدب والموسيقى والموسوعات العامّة، ... يعود إلى الشِّعر الجاهليّ، لتكتمل عنده أو تكاد مادّةُ بحثِه من نصوصٍ ورواياتٍ تحتاجُ بعدئذٍ إلى التّحقيق والتّدقيق والتّمحيص. وتجدُه يُصرُّ الأسدُ على وصفِ هذه العمليَّة للباحثين بقوله: "فكنتُ في أكثر الأحيانِ أُقابلُ النصَّ في الطَّبَعاتِ المختلفة للكتاب. وكنتُ حينَ أجدُ نصًّا في بعضِ المصادرِ مرويًّا عن مؤلِّفٍ سابق، أحاولُ البحثَ في كتبِ المؤلِّفِ لعلّي أعثُرُ على النّصّ في منبعِه. وكنتُ، حينًا آخرَ، لا أكتفي بالكتاب المطبوع وإنّما أبحثُ عمّا أستطيعُ العثورَ عليه من مخطوطاته، فأقابلُ المخطوطَ بالمطبوع، وأُثبِتُ ما أصِلُ إليه من فروقٍ، مع ترجيحي لأحدِ النّصّينِ. ثمّ إنّي حرَصتُ على أن أسوقَ جميعَ النّصوصِ التي تتّصِلُ بالموضوعِ مؤيِّدةً أو مُناقِضةً، فأناقِشها مناقشةً فيها شيءٌ من سَعَة، فإذا استقامت مع ما أذهبُ إليه كانت سندًا يدعمُه ويُقوّيه، وإلاّ رددتُ عليها بما يظهرُ لي من وجوه الرّأي. واكتفيتُ، في مواطنَ قليلة، بإثبات النّصّينِ المختلِفَينِ والتّنبيه على وجوه الخلافِ، حين كان يُعجزني التوفيقُ بينهما، أو تفنيدُ أحدهما".