د. مرام محمود ثابت
أكاديمية وباحثة مصرية
يبدو أنَّ هناك حالة من التقارب الفكريّ والحضاريّ غير المسبوق يشهده العالم العربيّ والإسلامي في اللحظة الراهنة، يؤدي بالضرورة إلى تفعيل ثقافة التعارف بين الشعوب، بصورة تسهّل عملية التواصل والاندماج، وربما تخفف من وتيرة الصدام والاحتكاك بالموانع والعوائق التي كانت راسخة لقرون في مجالات ثقافية متعددة ومنها السينما، لتؤصل مفهومًا جديدًا من قيم الحضارة الإنسانيّة، وتحقّق مزيدًا من التمازج والالتقاء في نادي الحضارة العالميّ.
ولا يخفى على أحد تفاعل السينما الإيرانيّة اليوم وتواجدها على الساحة العالميّة، وذلك في الملتقيات الثقافية والمهرجانات الدولية، مما ساعد كثيرًا على انتشار تأثيرها، وزيادة مساحة الرقعة الثقافية التي أحدثتها الأفلام الإيرانيّة في العالم العربيّ، وسرعة نمو المستوى الثقافيّ في إيران وبلاد الشرق الأوسط والأدنى، وتقبّل فكرة الاطلاع على ثقافة مغايرة، وسماع مفردات فارسيّة، ومعايشة جانب من الحياة الإيرانيّة بكل تفاعلاتها وتفاصيلها التي كانت غائبة عن الكثير، بل ومنهم من اعتبرها ثقافة تنازع العربية وتهدّد قيم الإسلام وثوابته الدينية والاجتماعية، وظلَّ تطوّر الإبداع السينمائيّ في إيران، وتفنن المخرجين بطرح الأفكار الإنسانية والسياسية والاجتماعية، وتعبيرهم عن حالة القمع وكبت الحريات التي تعرضت لها السينما بعد الثورة الإيرانية، في المقابل زادت الأفلام الإيرانية التي أُنتجت بعد الثورة من حالة الحراك المجتمعي على المستوى الثقافي والفكري والسياسي، وبات الشعب الإيراني شريكًا في إنتاج الثقافة، وداعمًا للإبداع السينمائيّ الذي وجد فيه طرحًا لمشاكله الواقعية وهمومه التي يعاني منها، ولعلَّ هذا الوعيَّ الإيرانيّ ليس وليد اللحظة، ولا يرتبط بتأثير الثورة الإسلامية في إيران؛ وإنَّما بتراث إيران الثقافي الذي يتجذّر إلى ما قبل ميلاد المسيح بثلاثة آلاف عام، حتى باتت السينما الإيرانيّة مفردةً جماليّة وامتدادًا مثيرًا لتجليّات الأدب الفارسيّ، ولعلَّ هذا ما يضفي خصوصية للسينما الإيرانيّة تميّزها عن غيرها من السينمات العربية.
على الجانب الآخر، فقد سعت السلطات الإيرانية الحاكمة بعد الثورة إلى فرض الكثير من القيود وإصدار التعليمات الصارمة والموجهة للعاملين بالقطاع السينمائيّ، حول ظهور المرأة في السينما الإيرانيّة، بل وتقنين أدوارها أو الاستغناء عنها مما أثار حفيظة الممثلات والمخرجات والعاملات بالسينما الإيرانيّة، ومثّلت هذه القيود تحديًّا حقيقيًّا واجهته المرأة، مما استدعى مزيدًا من الجهود المبذولة لإقناع المؤسسات الدينية والرقابية بأهمية وجود المرأة، كعنصر مؤثر في أحداث الأفلام، وخاصة المرتبطة ارتباطًا وثيقًا بقضايا المرأة في السينما، إلا أنَّ البعض منهنّ اعتزلن الظهور، وأخريات توقفن عن العمل وهاجرن بالخارج، وآثرن البعض البقاء في إيران.
وبرغم من تلك التحديات والصعوبات، إلا أنَّ بقاء بعض المخرجات المثابرات في إيران، والعمل على التعبير عما يختلج في قلوبهن من حكاياتٍ وقصص، جعل تطوير صناعة السينما في إيران، وتحدي الظروف المفروضة أمرًا جريئًا ومخاطرةً ليست محمودة العواقب، خاصةً في ظلِّ ازدياد الضغوط التي تمارسها الرقابة على السينمائيين، الأمر الذي وصل إلى الاعتقال، لكن هذا الأمر لم يثنِ عزيمة المخرجات الإيرانيات، ومن ضمنهن المخرجة "رخشان بني اعتماد"، التي قدّمت عدة أفلام وتميّزت بالجرأة في تناول الموضوعات المرتبطة بعلاقة الرجل بالمرأة، كما في فيلمها (نرجس) إنتاج 1992، والذي يمثّل تحديًّا صارخًا لقوانين الرقابة بعد الثورة، ومُنع من العرض سبع سنوات بعد عرضه مدة قصيرة، والفيلم يتناول العلاقة الرومانسية بين شاب لص وامرأة ورجل مسن على خلفية أحداث تدور في إيران، وفازت المخرجة عن الفيلم بجائزة أحسن إخراج بمهرجان (فجر) في إيران، وهي أول امرأة تفوز بهذه الجائزة في المهرجان. وقد حقّقت نجاحًا على الساحة الدولية حيث فازت أفلامها بجوائز عديدة أهمها جائزة "مؤسسة الأمير كلاوس للثقافة والتنمية" بهولندا عام 1998 تكريمًا لإسهاماتها في جانب الثقافة السينمائية المعاصرة، وجائزة والد سينما تك (هنري لانغ لوا) عن مجمل أعمالها السينمائية، أمَّا في فيلمها التالي (ذات الخمار الأزرق) 1994، والذي تدور أحداثه حول معارضة المجتمع لعلاقةٍ بين عاملة فقيرة وصاحب مزرعة، وفيلمها )قصص( إنتاج عام 2014، والذي تجاوز الموضوعات المسكوت عنها، وصُوّرت أحداثُه في قلب الأحياء الشعبيّة الإيرانيّة، لتحدث نوعًا من المعايشة وتبلغ مرحلة من المصداقية لدى المشاهد الإيرانيّ، ولكن في المقابل مُنع الفيلم من العرض.
وبالنظر إجمالاً إلى إسهامات المرأة الإيرانية في السينما، وخاصةً في ظلِّ المتغيرات السياسيّة والاجتماعيّة التي شهدتها إيران قبل وبعد الثورة، فمن المفارقات العجيبة أنَّ المرأة الإيرانيّة لم يكن حضورها مؤثرًا في ساحة الإخراج السينمائي فترة ما قبل الثورة الإسلامية في إيران، إلا أنَّها لاقت نجاحًا باهرًا بعد الثورة تخطى إيران ليصل صداه إلى الغرب، لتشهد حضورًا لافتًا ومتميزًا في المهرجانات الدولية، واستضافة كبرى المهرجانات العالمية والإشادة بدورها في صنع أفلام ذات جودة فنية عالية، وتحمل القيم الشعرية المتأثرة بالأدب الفارسي، لتظهر قدرتها على تضمين الصورة السينمائية بالأفكار السياسية والمعاني الفلسفية، باستخدام لغة الترميز تارةً وبالإسقاطات الصريحة تارةً أخرى، مما ساعد على انتشار أفلامهن محليًّا وعالميًّا، واثبات قدراتهن الإخراجيّة والسينمائيّة.
ومن المخرجات الإيرانيات التي سجلن بصمة في تاريخ السينما الإيرانية المعاصرة المخرجة "منيّجه حكمت" التي أخرجت فيلم (سجن النساء) إنتاج 2002 والذي يحاكي مراحل الثورة من خلال الحالة الشعورية للسجينات، في إسقاطٍ سياسيٍّ متوارٍ خلف الشخصيات الثلاث، بأنَّ السجن ليس إلا صورة مصغرة للمجتمع الإيراني، عُرِضَ هذا الفيلم في أكثر من ثمانين مهرجانًا سينمائيًّا دوليًّا وحصل على سبع جوائز. كما قدّمت المخرجة "مرجان ساترابي" فيلمها (دجاج بالإجاص) إنتاج عام 2011، والذي عُرض بأسلوب السينما الواقعيّة السحريّة، متّخذًا من حالة الحنين إلى الماضي (النوستالجيا) مادته الفيلميّة المنسوجة من الخيال والذكريات الساحرة قبل قيام الثورة الإسلامية بعشرين عامًا عام 1958.
أمَّا عن الجيل الجديد من المخرجات؛ فقد قدّمت المخرجة "سميرة محسن مخملباف" أفلامًا متميزة، وهي ما زالت صغيرة في وكان أول أفلامها (التفاحة) إنتاج عام 1998، والذي يعرض قصة واقعية تدور حول فتاتين تبلغان من العمر 12 عامًا احتجزهما والدهما في المنزل منذ الولادة، يناقش الفيلم أسباب حبس الفتيات وتجنب اختلاطهن بالعالم الخارجي.
وعلى هذا لم يكن الطريقُ ممهدًا لمثل هذه النماذج النسائية التي سعت لتقديم أفكار تحمل فكرًا يواجه الأيدولوجيا السائدة لدى السلطة، وهنا تكمن أهمية السينما في قدرتها على تسليط الضوء على قضايا المجتمع، وبخاصة المتعلقة بالمرأة، وزادت أهمية تلك القضايا عندما ناقشتها وسعت لطرحها النساء أنفسهن، فالسينما في إيران بعد الثورة الإيرانية إحدى الوسائل الإعلامية الأشد تأثيرًا والتي تخاطب الطبقات المجتمعية كافة، وكذلك السلطات الحاكمة، وبهذا تحمل السينما الإيرانية نظرةً خاصةً لصورة المرأة الإيرانية قبل وبعد الثورة الإسلامية، وزادت هذه النظرة تعمّقًا وتأثيرًا خاصةً عندما كان للمرأة دورها الفعّال في إنجاح الثورة الإيرانيّة، والتأكيد على التحديات التي واجهتها بشأن ظهورها كمرأة في السينما الإيرانية، بالإضافة إلى أهمية دور المرأة الفاعل في الحراك المجتمعي والثوري والسياسي، باعتبار إسهاماتها مساهمة متميزة في بناء دولة إيران الحديثة.