عمر شبانة
شاعر وباحث أردني
ضمن التحوّلات الأساسيّة التي مرّ بها الأدبُ العبريّ الحديث، في دولة الكيان الصهيونيّ، شهدت ثمانينات القرن العشرين ظاهرة بارزة أطلق عليها النقاد مُسمّى "رؤيا القيامة أو النهاية" وإرهاصات "أدب النِّهايات العبريّ"، حيث بدأ هذا الأدب ينحو هذا المنحى "القِياميّ" بصورة يمكن اعتبارها واضحة كفايتها، في أوائل ثمانينات القرن تحديدًا. وفي هذا الصدد، يمكن أن نعتبر رواية "الطريق إلى عين حارود"، للأديب الإسرائيليّ عاموس كينان (1927- 2009)، من النماذج الأولى التي من الممكن تأطيرها ضمن خانة هذا "النمط" من الأدب، بل إنّها شكّلت إرهاصًا به. فما هو هذا النمط الذي نادرًا ما تمّ تسليط الأضواء عليه في الكتابات العربية؟
ابتداءً؛ لنتعرّف على هذه الرواية الصادرة في طبعة حديثة ضمن منشورات (دار العائدون للنشر والتوزيع، عمّان، 2023 في 220 صفحة من القطع الوسط، ولوحة غلاف من لمى سخنيني)، وكان قد قام بترجمتها إلى العربية الباحث والمترجم الفلسطيني أنطوان شلحت، في العام نفسه لصدورها باللغة العبرية (1984)، ونُشرت مع تعقيب مطوّل من المترجم في مجلة "الكرمل" الفصلية الثقافية الفلسطينية (كان رئيس تحريرها الشاعر الفلسطيني محمود درويش)، وعادت وصدرت في كتاب عن "دار الكلمة للنشر" في بيروت في عام 1987، وقدّمها إلى القراء العرب حينذاك الشاعر سميح القاسم.
الرواية تبدو وكأنّما تتنبّأ بما يجري في الكيان الصهيونيّ اليوم، فهي تحكي قصّة شخص يهودي- إسرائيلي، يُفترض أنَّه الكاتب ذاته، ومحاولته العسيرة المُشبعة بالعثرات والمغامرات للهروب من مدينة تل أبيب (في وسط إسرائيل)، والوصول إلى عين حارود في منطقة الشمال، وهي البقعة الوحيدة الباقية المحرّرة من نير حكم الجنرالات الذين انقلبوا على نظام الحكم في إسرائيل، وأخذوا يرتكبون موبقات مماثلة لما يرتكبه جنرالات "العالم الثالث"، من تعطيل للبرلمان وإغلاق للصحف وعزل للدولة عن العالم الخارجي، ناهيك عن فرض نظام حظر التجوال على السكّان. ويدرك هذا الإسرائيليّ السّاعي إلى "نقطة الضوء" الأخيرة، في وعيه التامّ، أنَّه لا يستطيع بلوغ عين حارود إلا بمساعدة الفلسطينيّ محمود ("يتعيّن عليَّ أن أجد عربيًا... كل خطتي للهرب مبنية على العرب")، كونه يعرف مسالك الطرق، من ضمن أشياء أخرى مهمة.
في السياق اللاحق من الرواية يعثر الكاتب على "محموده"/ شخصيته العربية، وتجري بين الاثنين خلال رحلتهما مواقف عديدة وتدور حوارات شتّى ليست متحرّرة، بدورها، من إسار "الأخطاء العظيمة" التقليدية في مثل هذا المقام. بيد أنَّها، برغم ذلك، لا تحجب حقيقة كون الإدراك السالف هو بمثابة "وعي مبكّر" لدى عاموس كينان تحديدًا بأنَّ بلوغ عين حارود، وهي كما ذكرنا البقعة النظيفة الباقية، المحرّرة والإنسانية وغير العنصرية، وبكلمات أخرى بلوغ الحلِّ الديمقراطي والإنساني الشامل للصراع الإسرائيلي- الفلسطيني، لن يتم من وجهة نظره إلا بمساهمة العرب الفلسطينيين كشركاء على قدم المساواة.
وإن لم تكن هذه الرواية نبؤءة بما يجري اليوم في هذا الكيان، فإنّها – بحسب تعقيب المترجم شلحت، وهو تعقيب ودراسة تحليلية لنمط الرواية القياميّة في إسرائيل- اعتُبرت، في حينها "ضربًا من الخيال أو الكابوس الذي ينوء الكاتب تحت كلكله لأسبابه المخصوصة. وذهبت بعض المقتربات السياسية للرواية.. إلى أبعد من ذلك، إلى حدِّ القول بإطلاقيّة أنَّ إمكان حدوث وقائع الرواية في الواقع مستحيل؛ لأنَّ إسرائيل "دولة ديمقراطية مكينة" تمتلك من الضوابط ما يكفي كي تسدّ الطريق على وصول العسكر إلى سدّة الحكم، كما يحدث في الدول النامية العالمثالثية". ويضيف شلحت في تعقيبه: "إنَّ الرواية، وبنظرة راهنة تجسّد النبوءة التي تحققت بدءًا من عام 2001، وهو العام الذي أصبح فيه أريئيل شارون (الجنراليسمو)، بعد أن حدث كل ما حدث، رئيسًا للحكومة الإسرائيلية. وليس هذا فحسب، وإنَّما أيضًا أصبحت إجراءاته غير الديمقراطية (باللغة الملطّفة) مسوّرة أيضًا بـ"جدار واقٍ" من شبه "إجماعٍ قوميّ" أصمَّ يشكو من ندرة أصحاب المواقف الليبرالية أو، على الأصح، يشكو من ندرة تأثير أصحاب هذه المواقف الليبرالية في المناخ السياسي الرائج وما يستجرّه من موبقات تطول أيضًا الأوضاع الإسرائيلية الداخلية العامة برشاشها".
وهذه الرواية- النبوءة لم تكن وحيدة في مجالها، بل هي واحدة ضمن نماذج عدّة، قليلة في الأدب العبريّ، لكن هذه النماذج التقت- كما يؤكد شلحت أيضًا- في نقطة مشتركة، وعند مفترق واحد يتمثل في "كونها تشكّل تأويلات مجازيّة أو استعارية للوجود المحدّد. وينسجم مع هذا، ولعله الأمر الأشد أهمية، أنَّ هذه الأعمال تشكّل، في جانب معيّن، الدلالة المضادة، ويمكن القول المستحقّة، للنماذج اليوتوبية (أو الطوباوية) في هذا الأدب، والتي كان حافلًا بها منذ نشوء الحركة الصهيونية ومشروعها الكولونيالي في فلسطين، وجاءت بعض كتب مؤسس هذه الحركة "ثيودور هرتسل" ("الطنويلاند" و"الدولة اليهودية" مثلًا)، أشبه بإنباء مدوٍّ بما تلاها في هذا المضمار".
وفي وقفته التحليلية أمام نماذج من الأدب الأبوكاليبتي (أدب النهايات) الإسرائيلي المنشور في ذلك الوقت (وحتى عام 2005)، يرى شلحت أنَّ هذا الأدب بما فيه من القلق من جراء فقدان "اليوتوبيا الصهيونية"، المنثور بتورية ما فيه، "لم يتجاوز سقف الافتراض بـ "وجود حلم صافٍ وبريء أصبح بطريقة ما ملطخًا". ولذا لا يتم، في المعتاد، إلقاء اللوم على ماهية ذلك "الحلم" (الصهيونيّ)، وإنَّما على طريقة تحقيقه "التي لم تكن في مستوى الجنة الموعودة". بينما الحقيقة البسيطة تقول إنَّ ذلك "الحلم" ولد ملطَّخًا؛ لأنَّ صَدعًا مميتًا كان في صميم تكوينه، وهذا الصدع قام ويقوم على "إنكار الآخر"، إذا ما شئنا استعمال التعابير المهذبة الحداثية".
سميح القاسم: "هل هو مُجرّد كابوس؟"
يبدأ الشاعر القاسم كلمته عن الرواية بفقرة تمهيدية مهمّة، يقول فيها "من حق عاموس كينان عليّ أن أقدّمه للقارئ العربيّ، ومن واجبي إزاء القارئ العربيّ أن أهيّئ له قراءة عاموس كينان بتمهيد صريح، فلا بدَّ من استباق التأويل، بوضع النقاط على الحروف، كما يقولون، وبإعطاء قيصر ما لقيصر وإعطاء الله ما لله". وذلك استباقًا لما قد يحدث من لَبس حيال تقديمه هذا الكاتب اليهوديّ ذا الميول الصهيونيّة، ولكنّه- كما سنكتشف في كلمة القاسم- يحمل تناقضات شتّى. ولذا فهو يبدأ من موقف الروائي الإسرائيليّ/ الصهيونيّ المناهض للعنصرية الصهيونية والمناصر لـ"بعض" حقوق الفلسطينيين، يقول "منذ حوالي عشرين عامًا ونحن نجد عاموس كينان إلى جانبنا في معاركنا مع السلطات الصهيونية من أجل حقنا في التعبير الحرّ، وفي الحياة الكريمة على تراب آبائنا وأجدادنا. وكان من الطبيعي أن تتحوّل علاقات العمل المشترك في القضايا السياسية والثقافية إلى صداقات عادية متكافئة، لا سيّما حين تحوّل عاموس كينان من نصير لضحايا الرقابة على الأدب إلى ضحية لهذه الرقابة".
وعن اختيار رواية "في الطريق إلى عين حارود" (وهي "عين جالود" أو "عين جالوت" عندنا)، للترجمة إلى اللغة العربية، يقول القاسم إنَّ الاختيار "ليس منوطًا بدعاوى الصداقة والعداء؛ إنَّه موقفٌ موضوعيٌّ من العمل بحدِّ ذاته. فإلى جانب الأهمية الفنية للرواية، هناك أهمية بالغة الخطورة للمضمون الذي بُنيت الرواية به وفيه ولأجله. وفي صعود "نجم" الرابي الفاشي مئير كهانا، وفي اتّساع رقعة السرطان العنصري بين خلايا بلادنا المنكوبة، نجد المصداقية الكافية لناقوس الخطر الذي يقرعه عاموس كينان في روايته هذه. فلسنا هنا أمام قصة من قصص الخيال العلمي. نحن نتعامل الآن مع ضوء أحمر قانٍ يستمدّ مبرّره الحاسم من حُمرة الدم المسفوك في بلادنا، وفي منطقتنا، على أيدي "المارينز العبريّين"؛ بحّارة أكبر حاملة طائرات أميركية "تدعى إسرائيل"، على حد تعبير مناحيم بيغن".
فهذه الرواية- بحسب الشاعر القاسم- تشكّل تسجيلًا دقيقًا لكابوس مرعب يقضّ مضجع كل إنسان في بلادنا لم تُهدر إنسانيته بعد. إنَّها رواية الفوضى والانقلابات العسكرية المتعاقبة التي تنتظرها إسرائيل، حيث تُجرى عمليات التصفية الجسدية وإلغاء الصحافة.. وذبح ما يتم ذبحه من المواطنين العرب، وطرد مَن تُكتب له السلامة إلى مكة، وسقوط الإنسان في الإنسان، والانحطاط إلى درك الخنازير، وما شابه ذلك من العذابات والهلاك والفساد والتلاشي. وفي غمرة الفوضى والتسيّب فإنَّ "جمهورية فايمار" (متحرّرة) جديدة تنشأ في عين حارود الحرة، وتتحوّل هذه البقعة السليمة من الجسد المتعفّن إلى حلم الناس الأحرار الذين يتكبّدون وعثاء اللجوء، ومخاطر الدفاع عن كيانهم الإنساني المجرد، من أجل بلوغ رأس النبع – الحلم – الأمل، الملاذ الأخير.
وقد كانت للشاعر القاسم ملاحظاته على هذه الرواية "الملغومة" بحسب فهمنا لها، فقدم "جملة من الملاحظات سلبًا وإيجابًا"، الملاحظة السلبيّة الأولى هي إصرار عاموس كينان، في روايته هذه، على ما يُسمّى "الحقّ التاريخيّ لليهود في فلسطين"، عبر الآركيولوجيا اليهودية (الكنيس الذي عثر عليه بطل الرواية- رافي- في كهف مجهول)، والحوار غير المتكافئ وغير العادل بين رافي اليهودي وبين العربي محمود، حول التعايش، وحول مسؤولية الاضطهاد الذي تمارسه إسرائيل ضد العرب الفلسطينيين، والإيمان المطلق بتفوّق العنصر العسكري الإسرائيلي، جيشًا، وأفرادًا، وقيادة، وسلاحًا، وتخطيطًا، وتنفيذًا. بعبارة أخرى، التفوق الكليّ الشامل والناجز؛ ومن هنا فإنَّ الجندي الإسرائيلي هو محارب إسبارطي بمنطق الماضي.
أمَّا مسك الختام، بالنسبة إلى شاعرنا القاسم، فهو ملاحظات يعتبرها "في صالح هذا العمل الروائي الفريد في هذه المرحلة الفريدة". ويلخّص القاسم ملاحظاته "الإيجابيّة" في الآتي: الندم حيال ما أصاب الفلسطينيين من "كارثة" على يديّ الصهيونية، وتأكيد الرواية على ضرورة التعاون اليهوديّ- العربيّ للتخلّص من كابوس الآلة العسكرية الإسرائيليّة، وفي مقابل تحقير العربي بلفظ (عربوش) يتم تحقير اليهوديّ بلفظ (يهودون)، وهو ما يعتبره القاسم "الدليل على صحة التحليل الطبقي للفاشية، ويدحض الزعم بأنَّ النظريات والمقولات القومويّة هي فوق الطبقات، وتتجاوز مفاهيم الصراع الطبقي".
والملاحظة الإيجابيّة الأخيرة لصالح هذه الرواية، بحسب القاسم أيضًا، أنَّها تسجّل، وبطريقة فنيّة لامعة "عملية الفرز والاستقطاب الجارية في البنية الإسرائيلية". فحين تحاول العسكرية الصهيونية الناطقة بلسان البريغادير أن تتستر بدعاوى الإجماع القومي والسلام الاجتماعي: "نطلق النار ونبكي"، فإنَّ القوى الديمقراطية الهائمة على وجهها في الرواية تتصدّى لهذا المنطق المزوّر وعلى الفور: "أنت تطلق النار وأنا أبكي".