عيشة عبدالمولى
قاصة جزائرية
من بعيدٍ بدأ يتضح ظلُّ العم مسعود وهو يهبط من تلٍّ مرتفع حتى يدنو إلى السفح الرمليّ، يخطو بخطواتٍ متمهلة كمن أعياه الطريق الطويل، فأرخى قدميه وتركهما تنغرزان في التراب بهدوء، وإلى جانبه يتبعه جمله كما اعتاد مرافقته دائمًا، ومن فوقهما ترتفع الشمس متوسطة السماء الصافية في ساعة منتصف النهار، حيث تلهب كلَّ ما حولها بحرارة لافحة وتُسقط على الرمال أشعتها الصفراء فتصنع منها لونًا أحمرَ قانيًا.
نظر إلى بيوت القرية وهي منسدلةُ الأبواب في ساعة عزلتها فلا يظهر منها غير فجوات مظلمة أشبه بالنوافذ الصغيرة تعبر منها نسماتٌ من الرطوبة العابرة.
رجلٌ تجاوز عمره السبعين، وقد ظهر الكبر على ملامح الوجه الأسمر فبدا شاحبًا، بعينين صغيرتين خمدت فيهما شعلةٌ كانت مضيئة منذ زمن من الطاقة والقوّة، قامة مرتفعة بنحالة ملحوظة يغطيها سروال من الصوف وصدرية على جوانبها خمسة جيوب، يحتفظ بداخل كلِّ جيب بغرضٍ مهم، جيبٌ يضع فيه الدنانير التي يحصل عليها لقاء عمله، وجيب فيه قنينة من الماء للشرب، وجيب به كسرة من خبز الشعير، وجيب به مِقص وخيط وإبرة ليرقع ما تمزق من ثوبه الرث، وجيب به علبة الدواء الذي يأخذ منه كلما غلبه السعال المزمن وقد أعدتها له العمة هيثم، وراح يواصل مشيته على طول الطريق، لقد كان عائدًا من المقبرة التي تقع على قمة الجبل مشيعين جنازة جعفر الذي مرض وهزل حتى مات صباح هذا اليوم، فكان كلما حلّ نبأ طارئ بموت أحدهم هرعوا جميعًا مستنجدين إلى بيت العم مسعود حتى يرافقهم ويحملوا على ظهر جمله ميتهم، فهم لا يستطيعون أن يرفعوا على أكتافهم النعش ويسيروا به إلى القمة المرتفعة حيث المقبرة الوحيدة في القرية.
في العودة تفرّق جميع من كان معه إلى بيوتهم، وحانت منه نظرة نحو جمله؛ على رغم سرعتها إلا أنَّها كانت نظرة مثقلة بما تحمل داخلها من الود والتعلق والإشفاق، كان قلبه مكللًا بالحبِّ العميق الذي يكنّه لجمله الذي سعى معه طويلاً في هذه الحياة، وعمل معه واصطحبه في جميع تحركاته داخل القرية، فلم يفترقا يومًا واحدًا، فارتبطت حياته بجمله وتعلق به. وكان كل ما يمتلك بيتًا طينيًّا مسقوفًا بجريد النخل كبيوت أهل القرية جميعًا وجمله، فاعتبره جزءًا متأصلاً تقوم عليه حياته البسيطة، وقد كان مؤنس وحشته الطويلة ورفيق وحدته ومبدّد ضجره، ورقَّ قلبه له خشيةً عليه فلم يكن يحتاجه وحده فقد كان هو الجمل الوحيد في القرية ما جعل الأعين تتطلع نحوه كالمطمع كلما كان لهم به حاجة، ولم يكن ليتأخر عليهم في طلب، فأحبّه الجميع وخلقت لهم حاجتهم له حبًّا واهتمامًا غير خافٍ، إنَّه يحبّه تمامًا كما يحبُّ هذه القرية الهادئة التي يكاد ينقلب هدوئها جمودًا، لكنَّه جمودٌ محببٌ إلى قلبه، يحرك فيه أوتار السعادة والاطمئنان فيموج بالحب والانتماء لهذه الأرض، فمنذ فتح عينيه وجد نفسه يتنفس حرارة الشمس ويألف لهيبها ويركض في رمالها ولا يستطيع أن يبتعد عنها.
تجمع الناس وهم يشكلون صفًّا منظمًّا تتطلع أعينهم نحو البئر، وكلما سقى الواحد ترك مجالاً للآخر، وتقدمت العمة هيثم تشق صفوفهم دون أن تبالي بنظام المنتظرين بتجاوزهم دون أن تدركها كلمة، ومن خلفها يتبعها صبيٌّ صغيرٌ يدعى "حلتيت" تتصاعد من جلبابه روائح مختلطة من الأعشاب، يتبع العمة لتقوم بما تحتاجه فيجلب لها ما تطلبه منه لصنع وصفاتها العلاجية المستحكمة بخبرة طويلة جعلت منها حكيمة القرية، عجوز على رغم ما بلغت من العمر الطويل فلم يكن ليظهر عليها من الكهولة والعجز شيء وهي تقف بقامة طويلة أقرب إلى الانحناء وعلى جسدها ترفل في أكوام من الثياب المكدسة فوق بعضها صيفًا وشتاءً، وعلى رأسها تلفُّ منديلاً يكاد يغطّي ملامح الوجه الذي قيل عنه كثيرًا... إنَّه يشبه وجه رجل لا امرأة؛ ومن هذا استمد اسمها فلحق بها ليصاحبها، وقد جادت كثيرًا على أهل القرية بوصفات عجيبة تعالج بها مرضاهم وتخفّف بها آلامهم، وبطريقها حانت منها التفاتة إلى شجرة بعيدة فلمحت الجمل وبجانبه شخص لم تتبين ملامحه من بعيد، لكنَّها أدركت أنَّه العم مسعود، وارتفع صوتها الغليظ بتحية مقتضبة ملوّحة بذراعها إليه، وحينما رأته يقبل نحوها طلبت من الصبي "حلتيت" أن يسبقها بالدلو المملوءة إلى البيت، وراحت تقترب من مكانه، يطلُّ وجهها المجعد بابتسامة وقالت:
- لماذا تجلس هنا وحيدًا تحت الشجرة؟
فأجاب دون تفكير:
- كنتُ أستظلُّ وجملي حتى يحين دوري وأسقي الماء من البئر.
ونظرت إلى موقع البئر وقالت بنبرة ذات معنى:
- يبدو أنَّك ستنتظر حتى غروب الشمس.
وردَّ عليها مبتسمًا:
- لا مشكلة في الأمر، لكنّني قلقٌ حقًّا حيال أمر لاحظتهُ هذا اليوم.
وبتعجبٍ سألت:
- ما هو؟
- الحق أنَّ الجمل لم يعد كما كان، صار يدركه التعب وكأنَّه لا يقوى على المشي.
وظلّت تحدّق فيه وقد سرت إليها عدوى القلق المفاجئ حتى انتشلت نفسها منه بصعوبة لتقول:
- أرجو أن لا يحدث له مكروه، الجمل المسكين..
وأردفت كمن تذكر شيئًا غاب عنه:
- يا لتعاسة هذه القرية.. يا لتعاسة الناس المساكين..!!
وسارت من فورها تكمل طريقها وقد أحدث الخبر الطارئ في نفسها خوفًا أقرب إلى الفزع، وقد راحت تتوقع أن يحدث شيء مريب للجمل الذي يعتمد عليه الجميع؛ لأنَّه من أهم الركائز التي تقوم عليها حياة القرية بأكملها، ورجع العم مسعود إلى جذع الشجرة يكمل انتظاره بهدوء وترقب.
انشق صفاء النهار بضوئه اللامع وهو يسحب آخر قطرات من سواد الليل، كانت ليلة طويلة لم يتجل فيها الصبح في عيني العم مسعود الذي لم يغمض جفنيه، وهو يجلس في بيته يقابل جمله ويرنو إليه بنظرة يكاد اليأس يغلب فيها على ما بقي من أمل، لقد ظلَّ جامدًا في مكانه، ممتدة رقبته في إعياء دون أن تبدر منه حركة واحدة، كان يتأمل طويلاً ويتكلم إليه كأنَّما يريد أن يرفع عنه بالصبر والقوة كما كان عهده به دائمًا، ليست المرة الأولى التي يحادثه فيها، لقد كان يتكلم معه العم مسعود وهما يمشيان معًا وسط الرمال، أو يرتفعان معًا نحو قمة الجبل وكأنَّه يدرك بحاسة ما أن الجمل يفهمه ويستوعب كلامه ويتسع قلبه لعاطفة الحب المتبادلة، كمن يحادث صديقًا قديمًا تجمع بينهما الكثير من الألفة والعشرة الطويلة، ولم يهن على قلبه أن يرى شيئًا من العجز في عينيه الذابلتين؛ وكأنَّ هناك دموعًا بداخلهما تتزاحم للخروج، كان في البيت صمتٌ مخيفٌ وشيءٌ مرعبٌ يزحف ليقطع صلة الصداقة الطويلة بينهما، وتكلّم العم مسعود دون انقطاع ليلة كاملة بجدية من يثق في إصغاء محدّثه فيفهم كل ما يريد قوله، ثم انتشل نفسه بقوة من مكانه ومشى قليلاً نحو الجمل الصامت وربت على رقبته واحتضنه وبكى، ولم يكد يبزغ النهار مكتملاً حتى انتشر الخبر في القرية وطرق باب كلِّ بيت، وتوافد الناس واحدًا في إثر الآخر يقفون عند الباب حتى خرج إليهم العم مسعود وقال:
- لقد مات الجمل، لقد حمل كثيرًا على ظهره وستر جثث أمواتكم، وقد حان الوقت لتحملوه لمرة واحدة وأخيرة.
تناوبت وجوههم القلق الذي ظهر على ملامحهم، وصمتت شفاههم دون أن تنبس بكلمة حتى نطق أحدهم:
- هذا أمرٌ مستحيل، كيف نحمل كتلة بهذا الحجم على ظهورنا؟
وردّد أكثر من قول:
- هذا مستحيل..
وقالت العمة هيثم بنبرة قوية:
- سيتحول الأمر إلى كارثة حقيقية إن لم نفعل شيئًا.
واستمرت الوجوه في صمتها تتبادل النظرات ذاتها دون أن يغير أحدهم على ما استقر عليه من موقف، أو تنتابه عاطفة إشفاق تحرك مشاعره، وسرعان ما انتفض العم مسعود من مكانه وقد سيطرت عليه موجةٌ من الغضب اكتسحت أعصابه فلم يعد يرى من أمامه شيئًا، دفع الأجساد المتصلبة التي اكتفت بالنظر والسكوت خارجًا، ولم يعد يبحث عن أي كلمة عزاء تطيب خاطره المكسور في فقد رفيقه الوحيد، وقال بصوت حاد النبرات:
- تفضلوا خارجًا، لست بحاجة لأحد.. لست بحاجة لأحد..!!.
ضرب بالفأس على الأرض داخل بيته، وحفر بقوة دون أن يستعين بأحد، وراح يجرُّ الجمل وحده حتى دفنه، وجلس فوق القبر يبكي بصمت.