الأسماء والطُّيور والنَّوافذ المحطَّمة
قصة: آلاء حسانين
كاتبة مصرية
يُؤثِّر الاسم على صاحبه، دعنا نقول إنَّ الأسماء قوالب.. وكل شخص ينتهي به الأمر لأن يتمّ تشكيله على مقاس اسمه.. هناك أسماء تجعل أصحابها أكثر شبهًا بالمربَّعات، أو عجلات السيارة، وآخرون يشبهون علّاقة المفاتيح.. هناك أيضًا، أشخاص ملوّنون، لأنَّ أسماءهم كذلك، زرقاء وخضراء وبُنيّة..
أوَّل مرَّة علمتُ أنَّ أمي سنتجب لي أخًا، تخيّلته بأشكال مختلفة. في المرَّة الأولى عندما تحدَّثوا عنه، مرَّت في رأسي غيمة، وفي المرَّة التالية رأيتُ طائرًا يزعق أمام النافذة، وحين كنتُ أطيل التفكير فيه، كنتُ أتخيَّل مشهدًا لدرّاجات ملوَّنة أو قلاع رمليّة على الشاطئ، مرَّة قلتُ لأمي: إنّي أظنُّ بأنَّ أخي سيكون أكثر شبهًا بدجاجة، وحين أودُّ مضايقته، سأطلب منه أن يطير..
استمرَّ هذا الأمر لأسابيع، حتى قالت والدتي إنَّها اختارت اسمًا له، ووقتها شعرتُ بأنَّ أحدًا دلق دلوًا من الماء المثلّج فوق رأسي.. نافذة كُسرت فجأة، وهبطَ منها لقلق يحمل طفلًا ناعسًا بشعر بنيّ، وشعرتُ بأنَّ كل الطائرات الورقيّة التي كانت في رأسي قد طارت بعيدًا..
عندما وُلد أخي ورأيتُ شعره البُنيّ أخبرتُ أمي أنه كان من الأفضل لو اشترينا قطة، على الأقل لن تحتاج لوقت طويل لأجل أن تبدأ باللعب معي..
ولا أتوقَّع من أمي أيّ ردّ، استمرَّت في الحياة بصمت، لأنها على عكس بقيّة الأمهات، تقبع في منطقة خافتة، كلما نظرتُ نحوها رأيتُ على وجهها ظِلًّا..
تُحضرُ أمّي الأطفال مثلما تُحضرُ الأغراض من السوق، تضعهم على الطاولة وتبدأ بالفرز، وكأنها تفكِّر ماذا ستطبخ على الغداء، عندما حضر أخي تفحَّصته أمي قليلًا، مسحت شعره البنيّ ومرَّرت أصابعها فوق خدّه، ثم قامت بوضعه جانبًا، وقالت إنه جيد.. أظنُّ أنَّ ما قالته عندما حضرتُ أنا هو أنّي أصلح للمشي، أشعُرُ أنَّ أمي تفكر بي وكأني أصلح للمشي؛ أقدام قويّة وشيء سيكون مفيدًا حين يكبر قليلًا وتطلب منه أن يحمل التلفاز إلى الصالة، أمّا أخي فإنه جيد، مثل كرة بيسبول، صلبة بما يكفي لتحطيم النافذة.. جيد مع بعض المشاكل.
عندما كبر أخي قليلًا وبدأ يدور في المنزل، لاحظتُ أنه وُلد بعرج في شخصيّته، ليس غبيًّا، ولا أبلهًا، فقط يعرج قليلًا عندما تمشي شخصيّته.. أخبرتُه مرَّة أنْ يتوقَّف عن "الشّخبطة" على الجدار، فخلع حذاءه ووضعه أمام عتبة المنزل، ثم عاد للشخبطة مجددًا، لكنّي أشرتُ نحو الأقلام في يده وقلتُ: "لا لا الشخبطة.."، فنظر إليّ باندهاش ثم نظر إلى الأقلام ونظر نحوي مجدّدًا، وبعد مدة نهض من مكانه وأحضر الأقلام إليّ..
أمي أيضًا لديها شيء ما في شخصيتها، وكأنَّ الإضاءة عندها خافتة قليلًا، كل مرَّة أنظر إليها ألاحظ أنها على وشك النوم، حتى وهي تطبخ "السباغيتي"، أخاف أن تسقط العيدان من يدها وتقع أمي ناعسة ووجهها على البلاط، فأسارع وأقول: "لم أعد جائعًا"، حينها تسدير لتجلس على الكنبة.
لم أعرف والدي، وحين كبرتُ قليلًا تساءلتُ من أين تُحضر أمي الأطفال، وقلتُ ربّما من مقهى قريب، لكن الشمس كانت على وشك الغروب، فقلتُ سأفكر في الأمر لاحقًا..
للمساء في منزلنا طابع خاص، وكأنَّ أحدًا يكتب على الآلة الطابعة طوال الليل، شيء ما يُبقي الأجواء مشحونة.. أخبرتُ أمي ذات ليلة أني أريد أن أنام، فقالت باستياء أن أذهب للدرَج..
لا نفتح باب منزلنا كثيرًا، نسيتُ أن أقول إنّي أعيش في بلدة لا توجد فيها بقالة، وإذا قلتُ لأمي: "إنّي أريد حليبًا"، تقول بسخرية: "ماذا أفعل لك؟ جد لنفسك بقرة".
هناك سجون كثيرة في هذه البلدة وثانويّة واحدة، وكل مَن أراد أن يعيل أسرته يذهب للسجن، إمّا أن يعمل أو يستريح في إحدى الغرف قليلًا، لسنوات ربّما.. جارنا كان عاطلًا وذهب ليستريح في السجن لعشر سنوات، هكذا توقَّف عن القلق بشأن توظيفه.
في الرابعة عشرة قلتُ لأمي مازحًا بأنني يجب أن أغادر، فقالت: "لا يوجد لدينا سخّان"، وبعد عامين عرفتُ ما عنته بقولها ذلك، لقد كان الجوّ في تلك الليلة باردًا فعلًا..
تخرَّجتُ في الثانوية الوحيدة الموجودة في البلدة، وأخي ما يزال يملك ذاك العرج في شخصيّته، أحيانًا أضطرُّ إلى حمله؛ مثلًا أطلب منه أن يُحضر كوبًا من الماء فيذهب ويغلق التلفاز، عندها أضطرُّ إلى إحضار كوب الماء بنفسي، لقد علمتُ بأنَّ وجوده ليس مفيدًا منذ تخيّلته كدجاجة.
كانت لأخي عينان عسليّتان، وعندما كان ينظر نحوي أضطرُّ أن أصرف نظري بعيدًا.. مرَّة كان يحفر أمام المنزل وطلبتُ منه أن يتوقف، فنظر نحوي بذاك الشكل، ندمتُ حينها أنّي أخ أكبر وبدأتُ أفكر لماذا أحبُّ إلقاء الأوامر، ثم استلقيتُ على الكنبة وأنا أتخيّل قطارًا يعبر على سقف المنزل ويتهشّم فوقي، ثم فكرتُ لماذا تقبع الأسماك في الماء طوال الوقت ولا تشعر بالغرق.. سمعتُ مرَّة عن صيّاد كان يشعر بالغرق كل صباح، لكن عندما يذهب للبحر ويُلقي شباكه يبدأ بالتحسُّن، عندما ماتت زوجته أخذ شرشف السرير وغاص في الماء قليلًا، وفيما بعد حينما كانوا يتحدّثون عنها يبدأ بالقول: "لا بأس، تركت شرشفها تحت الماء، وكان هذا كافيًا".
كنتُ أقرأ لأخي الصغير أحيانًا، لكنه كان يفضِّل أن يصفّر، لم تُدخله أمي إلى المدرسة، قالت إنه يشبه كرة "بيسبول"، في الحقيقة لقد حوّلته أمي لكرة "بيسبول" منذ اختارت له ذاك الاسم..
أمّا أمي فقد كان لها اسمًا شتائيًّا، يشبه سنجابًا يقرض ثمرة في الثلج.. مرَّة وقفَتْ أمام النافذة طويلًا ثم قالت: "سأموت في طقس مماثل"، وكانت السماء تثلج.. وهذا ما حدث بعد عدة سنوات، وحين أيقظتُ أخي ليلًا لأقول له إنَّ أمي ماتت، ذهب للخارج وأزاح بعض الثلج عن الطريق..
تحدَّثتُ مع أخي عن الموت مرَّة واحدة تقريبًا، قلتُ له إني أظنُّ بأنه سيموت في نهار مشمس، وغضب كثيرًا، وقال إنَّ في الصيف ضوء كثير، وظننتُ أنه من المناسب أكثر لو كان أخي خُلدًا، لولا أنَّ أمي اختارت له ذاك الاسم.
في طفولتي كانت أسناني الأماميّة بارزة قليلًا، وعندما غيّروا اسمي عاد كل شيء لمجراه، وازداد شعري كثافة، قالت أمي التي طالما شَكَتْ من تساقط شعرها، إنَّها لو كانت تعلم بالأمر لاختارت هذا الاسم لنفسها.. ثم أشارت إلى اسم خبّأته في الخزانة: "ربّما يناسبك ذاك الاسم أكثر"، لكنّي نظرتُ إليها بامتعاض وضربتُ برجلي على الأرض، قالت أمي باستعطاف: "بادلني إيّاه فقط وسأعيده إليك عندما تكبر"، وربّما فكّرت بأنها لن تكون حينها بحاجة لشعر كثيف، لكنّي بدأتُ بالبكاء وخبّأتُ اسمي في جيبي، ثم خرجتُ راكضًا وأنا أشعر بالسعادة وشعري يتطاير فوق وجهي.
في أحد السجون القريبة حجزوا غرفة لطفل صغير، لقد عرف الناس في القرية أنها ستكون غرفته، منذ اختاروا له ذاك الاسم وبدأت تظهر على جسده الأوشام، حاولت أمه مرّات كثيرة تغيير اسمه، لكن الجميع خاف أن تكون تلك الغرفة من نصيب أبنائهم، وعملوا بجهد على إقناع الأم بأن تقبل نصيب ابنها.. بعد عدة سنوات بينما كانوا يجرّونه مصفدًا للسجن، جرت في جسدي رعشة خفيفة، وحين سألتُ عن اسمه وجدتُ بأنَّ له اسمًا مشابهًا لاسمي، لولا حرف أخير زائد، وقتها عدتُ للمنزل وأنا أفكر بأنَّ حرفًا زائدّا كان سيودي بي، وظللتُ عدّة أيام أنظر لأمي بغضب وأنا أقول إنَّها كانت على وشك أن تودي بحياتي، لولا حرف واحد، لربّما نسيَتْ نطقه على سبيل الضجر، ومنذ ذاك اليوم حدث ذاك الشرخ الذي يحدث دائمًا بين الأطفال وبين أمهاتهم، وأصبح "السباغيتي" باردًا.
لم نكن نخرج من المنزل كثيرًا، أخي كان يحفر أمام المنزل كلما ضجر وأنا ألقي الأوامر، وبعد موت أمي قال أخي مرَّة إنَّ هناك طائرًا ينقر على شبّاك قلبه، وقلتُ له: فعلًا.
في إحدى النهارات وجدتُ وجه أخي شاحبًا، وحين سألته عن خطبه نظر للجانب الآخر، حينها تذكّرتُ العرج في شخصيّته ورحتُ أسأله عن الصنبور الذي ينقّط في المطبخ، فأجأب بأنَّ الطائر الذي كان ينقر على شبّاك قلبه دخل في الصباح وبدأ يأكل كل شيء في الداخل، واقترحتُ أن نذهب للحديقة معًا، ربّما يفيده أن يكون قريبًا من الأشجار، وحين ذهبنا إلى هناك ازداد أخي سوءًا، وبدأ يدور حول نفسه ويمشي مثل دجاجة، عندها قلتُ له إنّي أعرف علاجه، وأخبرتُه ألّا يكون خائفًا، شكّة بسيطة وينتهي الأمر.
وحين نظر إليّ باستسلام قمتُ بسرعة بسحب اسمه منه، وفي البداية أصيب بالذُّعر عندما وجد نفسه بلا اسم، لكنه هدأ عندما لاحظ أجنحة نبتت في جسده، وبعد قليل استطاع أن يصير غيمة وابتهج كثيرًا وقال: "إنَّ هذا شيء لا يُصدَّق"، وحين أراد الطيران نظر للأعلى ثم عاود النظر إليّ بأسى، فقلتُ له: "لا بأس، تستطيع الذهاب بعيدًا"، وعندما حلّق ابتسمتُ قليلًا لأنه خيَّب ظنّي في أن يصبح دجاجة، وحين رأيتُه محلّقًا في الأعلى قلتُ: "يا له من طائر جميل".