"الماورائياتُ" في روايات يحيى القيسي

د. راشد عيسى
أكاديمي وشاعر أردني
لكلِّ أديبٍ منابع فكرية ومرجعيات ثقافية معينة، تظهر ملامحها في أدبه جزئيًا أو كليًّا. ويحيى القيسي من هؤلاء الأدباء الذين كرّسوا معتقداتهم الثقافيّة في أعمالهم الأدبيّة. فهو في رواياته الخمس [باب الحيرة، وأبناء السماء، وبعد الحياة بخطوة، والفردوس المحرّم، وحيوات سحيقة] قد جسَّد اتجاهه نحو الماورائيات التي تتخاطر بالأسئلة الكونية، وأكّد نزعته نحو محاورة التأمل الصوفيّ بشقّيْه الديني والوجودي. من منطلق إعادة تشكيل الواقع عبر استدعاء الخيال التاريخي للأفكار من نحو، ومساءلة سرّانية الأمكنة لاستنطاق ما وراء جغرافيّتها من جهة ثانية، وإعادة استنطاق الصفوة من أولي الألباب وذوي العرفان من منحى ثالث.
ويبدو جليًّا أنَّ القيسي مفتونٌ بفكر" محيي الدين بن عربي" الذي يشكّل وحده مدرسة معرفية مؤثرة في الأنساق الثقافية العربية، فابن عربي شاعرٌ فذٌّ، ومفكّرٌ فريدٌ، وصاحب رؤيا إيمانية لا يقف على لوامعها العظيمة سوى النخبة من المثقفين. وما زال فكرُه مثارَ جدلٍ حتى الآن. بعضُ الروائيين العرب أعادوا كتابة سيرة حياته ومبادئه عن طريق الرواية مثل رواية "موت صغير". وبعضهم مثل القيسي اتخّذ نحو ابن عربي طريقين، الأول فكري خالص يسعى إلى تفكيك آراء ابن عربي، ويضيء على ما ورائها من أسرار دفينة ومفارقات معاكسة على غرار كتابه [ابن عربي في الفتح المكّي] إذ اجتهد كاتبنا في تقشير لُباب بعض المقولات، وفضح اتجاهها المعاكس وهو الانتقاص من القدْر المحمّدي. وأحسبه شخصيًّا نجح في هذه المهمّة الوعرة، فكان باحثًا استقرائيًا متمرّسًا في التعبير الحجاجي وتنسيق الأدلة والبراهين المنطقية والعقلية، فهو كتاب لخاصة الخاصة من المفكرين.
أمَّا الطريق الثاني فهو أنّ فكْر ابن عربي لاقى قبولًا واستحسانًا لدى الذائقة العقلانية لكاتبنا، ولدى الذائقة القلبية كذلك. وإذا انتبهنا إلى انغماس القيسي بمعطيات اللُمح الصوفية عند أقطابها الآخرين كالبسطامي والسهْرَوَرْدي والجنيد والحلّاج والنِّفّري وغيرهم، سنجد أن قلبانية العقل عند صاحبنا متآلفة مطمئنة إلى إشراقات المواجيد التصوفية اطمئنانًا شعوريًّا بالدرجة الأولى واطمئنانًا فكريًّا بالدرجة الثانية.
من هنا نرى أنَّ روايات القيسي إنَّما تصدر عن نفسٍ إنسانيّةٍ باحثةٍ عن الحقائق الوجودية لا لتجدها، إنَّما لتعيش معها لذة التساؤل والحوار والتأويل والمشاكسة، أو ما يمكن أن أسميه عذوبة القلق المطمئن. أو التشكيك الممتع في تحوّلات الأزمنة وفاعليتها في مسيرة الإنسان ومصيره معًا. وقد وجد القيسي أمامه متّسعًا رحبًا من حرية الافتراض والتأويل في مجال الفاعلية الزمنية حضورًا وغيابًا، ذلك أنَّ الزمن يطمح إلى أن يكون فيزيائيًّا ففشل، وطمِع أن ينتمي إلى حوزة الفلسفة فأخفق، فظلَّ متأرجحًا بين الفيزياء والفلسفة. ولما كانت الفلسفة أقرب إلى النفس الباحثة عن الأمن العقلي والقلبي معًا، فقد توغّل صاحبنا في غابات الرؤى الصوفية بصفة التصوّف منزعاً مقبولًا ومشروعًا يستطيع الانتماء إلى الفكر الفلسفي. يؤكد ذلك أنَّ الصوفية الشرقية اعتمدت المعرفة القلبية ونظرية وحدة الوجود، وظهرت كما لو أنَّها فكر ديني شاهق، في حين اتجهت الصوفية الوجودية على يد "هيدجر" إلى المعرفة العقلية.
يبدو أن القيسي اندغم بجداول التصوف وأنهاره حتى بلغ البحر الأكبر الذي يؤلف بين هذه المصادر المائية للفكر الصوفي وسبح فيه، وما زالت الأمواج تلعب بقارب طمأنينته حينًا تغرقه وحينًا تسمح له أن يعوم.
وللخروج من جدلية العوم والغرق أيقظ مهجته الأدبية تجاه السرد الروائيّ حين امتلك شجاعة ابتكار أفكار أدبية تقلب موازين الاطمئنان ومصداقية الحقيقة، حاله حالُ جلال الدين الرومي الذي قال بعد رحلة مكابداته مع سؤال الوجود: [الكون معمورٌ بالوهم].
ولما كان الأدب كما يقول "تودورف" كذبٌ كأنّه صدقٌ، وصدقٌ كأنّه كذبٌ، أي أنَّه منزلة بين المنزلتين، فلا يجوز أن يدخل في امتحان الصدق والكذب من حيث هو تخيّل في نهاية الأمر. استثمر القيسي هذه اللعبة الممتعة، وكتب رواياته ليستحدث صيغاً وافتراضات أخرى لمعنى الحياة. فلم يثق أبطال رواياته فيما هو مطمأن إليه من الحقائق التاريخية والمعرفية والنفسية والجغرافية، فاتّخذ من رؤاه الفائرة [لدُنّيّة يحياويّة] خاصة، تشبه الاكتفاء الذاتي المستقل بما يصدر عن كينونته التأملية من إشعاعات إيمانية وفلسفية، وبما يَرِدُ إليها من إشراقات خيمائيّة إلهاميّة، ولذلك تتراءى إلماعاته الشعورية الفكرية في رواياته كأنَّها حوارٌ متّصلٌ بين موارد العقل ومصادر القلب. كما تتلامح في سردياته تلك البروق المستقلة في سماوات نفسٍ تتدبّر نواميس الوجود في ضوء شمعة غير عابئة بأيِّ ضوء خارجي.
إذن لدى يحيى فكر جوّاني فردانيّ تجاه مسألة الزمن التاريخي، نلمسه في أغلب رواياته، ففي روايتيه الأخيرتين "الفردوس المحرّم" و"حيوات سحيقة" حضورٌ كثيفٌ لأفكار تتعلق بالكنوز الدفينة تحت الأرض، والنبش في ذاكرة المكان التاريخي والجغرافية الأثرية. فنجد في رواية "الفردوس المحرّم" أحداثًا من الحفريات الجديدة في كلِّ من البترا وعجلون وجلعاد والكرك والبحر الميت والغور وعراق الأمير ووادي شعيب، وهي حفريات صنعها المخيال الأدبي الثائر ليعبر هذا المخيال الجسور عن رغبات شخوص الرواية، بمعنى أنَّه ألبس الأبطال قمصان أفكاره بمزاوجة ذكية بين ما هو واقعي معلوم، وما هو عجائبي سورياليّ من تخيّلاتٍ واهمة تصل حدّ الكوابيس والشطح، وترقى بالمتلقي إلى متعة التأويل بعيدًا عن حسابات العقل وقناعات المنطق.
وبالإضافة إلى استدعاء الأمكنة الأردنية التاريخية تستنطق رواية "الفردوس المحرّم" أماكن شهيرة من بيئات عالمية معروفة كجبال همالايا حيث يكتشف "فيدروف" كهوفًا أخرى أعمق تؤدي إلى مدينة تسمى (شامبالا) مدينة السلام والسكينة. وقد جعل اكتشاف هذه المدينة تسويغًا لفكرة مفادها أنَّ [البشر على وجه الأرض لديهم قدرات كافية قد يتمّ إيقاظها ذات يوم قريب بعد حصول كوارث هائلة يرحل فيها كثير من الناس ويبقى قلة قد يشهدون ظهور ذلك العصر الذهبي الذي طال انتظاره، ص56]. فالكاتب يزاوج بين المكان والإنسان من حيث اختزان كلّ منهما الطاقة المتجددة لبناء عالم آخر، على صعيد جغرافيا الأرض وجغرافيا النفس الإنسانية. لذلك تظهر (باتي) الخبيرة الروحانية التي تلقي محاضرات تهدف إلى إقناع الإنسان بقدراته الباطنية المعطلة التي يمكن أن تجدّد حياته القادمة، فهي تقول [هناك خيوط حمض أميني أخرى مسؤولة عن إعادة بناء أعضاء الإنسان في حالة تعرضها للبتر) وبذلك يبرز دور الخيال العلمي في إعادة إنتاج السعادة للإنسان.
وتقول باتي:( نحن كائنات خربة منذ عصور طويلة، فقد كنّا فيما يشبه الفردوس بقدرات عُليا نعيش طويلًا لا نمرض، نرى بوضوح حتى مسافات بعيدة، ونستشرف ما يجري في المستقبل عبر الحاسّة السادسة المعطّلة حاليًا... التأمل العميق سيقود إلى اكتشاف الذات وأعماقها وما فيها من الكنوز وبالتالي تنشيطها، ص62، 63]. ومن المعروف أن التأمل العميق عقيدة وجدانية ضاربة الجذور في الفكر البوذي. وبذلك تتضح مسالك الخيال الديني في حريته، وفي محاولته اقتراح حلول جذرية لاغتراب الإنسان عن وجوده الدنيوي ولالتباس النفس عن نفسها.
ومن هنا تبرز المزاوجة بين كنوز الأرض الدفينة وكنوز النفس الخبيئة، وهي موازجة تشكّل القيمة العرفانية الجوهرية في روايات القيسي. فنلمح استشرافات ما ورائية تجسّد لذة الإيمان باللامعقول، ومتعة الوهم الروحاني. يقول: [قرأت ذات مرة أن روح الإنسان الواحد قد تستطيع أن تزوّد جسدين أو أكثر بطاقة الحياة نفسها، لهذا قد يمضي الإنسان حياته بحثًا عن نظيرة، ص117]. ويقول في موضع آخر: [اعلم أنَّ الإنسان مخلوق من هواء وماء وتراب ونار. فإن صفت نفسه الهوائية عُلّم منطق الطير.. وإن صفت نفسه المائية كلّم الأسماك ورفعته المياه فوقها فلا يغرق، وإن صفت نفسه الترابية كلّم الزواحف ودواب الأرض وخاطبته الجبال، وإن صفت نفسه النارية كلّم الكائنات المخلوقة من النار وكانت النار عليه بردًا وسلامًا، فإن توازنت أخلاطه زاد مَدده من طاقة روحه النورانية، ص135].
وفي رواية (حيوات سحيقة) يتدانى القيسي أكثر من البنية الروائية السائدة، فيظهر (صالح) بطلًا رئيسًا من خلال تحوّلاته الحياتية والفكرية. فهو شاب أردني من المفرق انتقل للسكنى مع أهله في الزرقاء، لكنَّه يعمل دليلًا سياحيًا في البترا. وفي أثناء مساعدته فريقًا لتصوير فيلم سينمائي عن حياة المرأة النيوزلاندية التي جاءت إلى الأردن سائحة فتزوجت بشاب بدويّ. والقصة معروفة في كتابها [تزوجتُ بدويًّا].
وقع صالح في حفرة غامضة وتعرّض للأذى الجسدي. فكان وقوعه فيها باعثًا على طرح سؤال باطني عميق [هل الأماكن الأثرية بما تخفيه من أسرار وكنوز قابلة لأن تكون معادلًا موضوعيًا للأفكار القديمة الثابتة فتتشابهان (أي كل من الأماكن والأفكار) في ضرورة اكتشافهما من جديد. لعلَّ في هذا الاكتشاف ما يفيد الإنسان المعاصر] كأنَّ السؤال بصيغة أخرى [لماذا لا نحرّك الثابت والمسلّم به لصالح تنوير جديد؟].
وقد تعاظم هذا السؤال عندما كشفت الرواية عن البيئة الأسرية للبطل، فأخوه الملقب بالنّمس شخص متطرف ينتمي إلى حوزات التفكير والقتل. وهنا تَبين الأحداث عن مرايا مجتمعية واقعية في البلاد سببت للبطل صراعًا نفسيًّا باهظاً وتطوّرًا ثقافيًا في شخصيته، ولا سيّما عندما عمل موظفًا باحثًا في مركز الدراسات والتوثيق وتعرّف إلى (أليس) البريطانية التي تآلفت معه وجدانيًّا وثقافيًّا إلى حدٍّ كبير، لكنَّها ظلّت تحذر نزواته وشططه.
إنَّ عمله هذا قدّم له إنارة كافية عن تاريخ التعذيب والقتل في البيئات العربية فعرضها في تقرير موجز، عبر مشهدية تفصيلية لقتل الحلّاج، وعبر ما جاء في عشرات الكتب التاريخية التي أرّخت لاتجاهات التقتيل وجرائم الطغاة. ولكن (أليس) قدّمت بالمقابل عرضًا آخر لتاريخ التعذيب والتشريد والنفي في أوروبا.
فالرواية تتّجه إلى إدانة سلطة الشّر، وإلى إعلاء حرية التفكير في الوقت نفسه، وإلى نقد تحولات الحضارة العربية التي ما زالت تتغنّى بأمجاد سلفت واندثرت فيما اتجهت الحضارة الغربية إلى تخطي الماضي الأسود إلى حاضر ينتصر لحرية الإنسان وجماليات الحياة.
وإذا كانت رواية "الفردوس المحرّم" مستندة إلى تصوير انعكاس الخارج نحو الداخل في شخوص الرواية، من خلال الرسائل البريدية والإلكترونية، فتؤثر أفكارها في فكر البطل السري الخفي وهو الكاتب نفسه، فإنَّ رواية "حيوات سحيقة" تستند إلى انعكاس الداخل على الخارج بصورة أوسع، إلى الدرجة التي أصبح فيها (صالح) يعيش حيوات سحيقة في نفسٍ واحدةٍ مضطربة باحثة عن الحق والطمأنينة والرضا. إنَّها رواية تحكي عذاب الإنسان مع الفكر.
رواية (حيوات سحيقة) أوضح التزامًا بمعمارية الفن الروائيّ من حيث تنامي الأحداث وتنوّعها، وتطور شخصية البطل، وتجسيد الصراع الجوانيّ بين القلب والعقل والواقع والحلم. في حين اتجهت رواية "الفردوس المحرّم" إلى تقنية تجريبية تقوم على استمداد الأفكار من مصادر مختلفة ولا سيّما الرسائل الشخصية، فوقف الكاتب عند النافذة ليشاهد ما يجري في الخارج. أمَّا في "حيوات سحيقة" فانشغل بالأثاث الداخلي لغُرفه الروحانية والفكرية وراح يعرضه من النوافذ، تماماً كما يفعل الشاعر، أيضاً في "الفردوس المحرم" كان السارد نحلة يجمع العسل من الأزهار، وفي "حيوات سحيقة" كان يدل النحلة كيف تعيد العسل إلى الأزهار التي أُخذ منها.
فالروايتان تقدّمان إلماحات ناقدة للفكر المتكلّس، وإيماءات ضمنية لقلب موازين الزمن التاريخي لصالح الإنسان. على أنَّ القيسي في أغلب رواياته – كما قلت – يصدر عن قلب كونيّ وروحانية تأملية يكتنفها السفر اللذيذ في فضاءات المعرفة، كمن يستمتع بالمشي على الطريق ولا يهمّه الوصول إلى نهايتها، أو كطفل يشاهد تساقط الثمار الناضجة عن أشجارها فيودَّ لو يعيد الثمار إلى غصونها لتراجع هذه الثمار مراحل نموّها لعلها تجد أشجارًا أخرى تليق بجمالها وطعمها.
وأخيرًا؛ إذا كان "كولون ويلسون" اتّجه إلى الصوفية الوجودية الخالصة في سردياته، ونحا "الغيطاني" في تجلياته إلى الصوفية الإيمانية الدينية، فإنَّ القيسي استطاع أن يشتبك مع الاتجاهين فيجعل من قلبه عقلًا ومن عقله قلبًا في سرد مرائيه وعروج مراقيه، وكأنَّه يدلّ نهر الحياة على الجريان في أكثر من مصب، فليس لهذا النهر في النهاية سوى سعادته في المنبع والجريان وليس في بلوغ المصبّ، فهو على كل حال سيندم عندما ولد وسيندم عندما يموت.
هكذا يتجسّد الاغتراب الإيماني والفكري في روايات القيسي في أعلى تشظّياته الفؤادية ومكابداته العقلية، وهكذا يقدم الخيال الأدبي أقصى جساراته في إدانة القلق الإنساني بحيث تصبح الكتابة نفسها حالة من التطهير.