المسرحُ والأسئلةُ الكبيرة.

بلال المصري
شاعر وكاتب مسرحي لبناني

في الأصل؛ المسرحُ هو فنُّ الكشف والمرايا التى تعكس روح العصر في أبعاد مختلفة ومتعددة، من اللحظة الراهنة للزمن الذي يمثل الماضي الحاضر والحاضر الماضي إلى المستقبل، وهو من دون شك يعبّر عن هُويتنا كأفراد وجماعات، وتتماوج فيه صورتنا بكل تفاصيلها وأبعادها الإنسانية، هذا الترابط الوثيق والطبيعي بين اتجاهات الزمن بوصفها الكرات الثلاث الدائمة التدحرج التي تشكّل الوعي الإنساني على مسرح الحياة الكبير.
يقول وليم شكسبير: " الدنيا مسرحٌ كبيرٌ، وكل الرجال والنساء ممثلون على هذا المسرح"؛ بالتالي يُعاد على خشبة المسرح إنتاج هذا الوعي الإنساني من خلال تكثيف اللحظة وجعلها كماً هائلاً من الزمن في سبيل الكشف الذي يجافي الإجابات والخلاصات المعلبة التى تنصر جماعة على أخرى، أو فكر على آخر، إنَّما من أجل التأثير في المتلقي بشكل يكشف له المتناقضات ويترك عنده الانطباعات التى تثير لديه الرغبة بالمعرفة، وتفتح له آفاق الأسئلة الكبيرة.
المسرحُ الحياديُّ هو الذي يطرح القضايا الكبيرة والصغيرة دون أن يهزم أيديولوجيا على حساب أُخرى، ودون أن يعطي الدروس لأنَّه يمتلك الشجاعة على تقديم الشيء ونقيضه في الوقت نفسه، وبصور مختلفة ليس بهدف إرباك المتلقى بل من أجل الاطلاع على الأفكار من زوايا متعددة، ومن اتجاهات الزمن المختلفة من خلال مشهديةٍ مسرحية ونصٍّ يحاكي المشتركات الانسانية بين مختلف الشعوب والحضارات، ومن ناحية أُخرى يضيء على القضايا الشائكة ويحرك المياه الراكدة عبر إثارة الأسئلة، فالحقائق العظيمة تكون في الأسئلة وليس في الإجابات، المسرح الذي ينطلق من الأسئلة وينتهي إليها يؤسس لعلاقة تفاعلية وصحية مع جميع الإتجاهات الفكرية والأيديولوجيا، شرط أن تكون هذه الأسئلة تحاكي وجدان الناس وعقولهم وتنطلق من خلفيات مختلفة في سبيل الإحاطة؛ أي أن تكون شاملة وكونية في أبعادها بقدر ما هي إنسانية؛ أي أنَّها على مسافة واحدة من جميع المتناقضات الفكرية والعاطفية، وهذا ضروريٌّ لإثراء مراكب الحوار على شواطئ مأهولة بالمريدين للمعرفة والحقيقة؛ تمهيداً لتحطيم الحواجز الفكرية العقائدية التى تحول دون التلاقي بين البشر على مختلف انتماءاتهم ومشاربهم؛ وسعياً لحوار يعزّز المشتركات الإنسانية ويمدّ جسور التلاقي بين الحضارات المختلفة من أجل تقليص مسافات التباعد الفكري في ما بينها، وجعل عملية البحث عن الحقائق متقدمة على محصول الموروث العقائدي والفكري الذي يطمئن له الفرد والجماعة دون البحث والتفكر فيها وفحص صوابيتها من عدمه.
إذن للعبور إلى الضفـــة الأخرى لا بـــدَّ من التأرجح على الحبل، بـــمعـــنى آخــر؛ إذا أردت الاتصال والتلاقي مع الآخر عليك ترك بعض من موروثك الفكري والعاطفي اللذين يمثلان عدة المواجهة القاسية، لا يمكن أن تعرف الحقيقة طالما أنَّك تريد هزيمة الآخر وتحطيمه.
يقول الشاعر "آرثر رامبو": "الأنا شخصٌ آخر"؛ وبالتالي كل محاولة لهزيمة الآخر وتحطيمه هي في الواقع هزيمة للذات وتحطيمها. لأنَّ الفوز الحق أن لا تهزم أحداً، تلك هي المسألة التى أغفلتها معظم حضارات العالم على مرِّ العصور، واليوم يستطيع المسرح أن يمضى في هذه الرؤى بوصفه أبا الفنون والرائد في الكشف والتنوير؛ ليكون في هذا العصر حاضراً وفاعلاً ومؤثراً في حركة الزمن، فالزمن كما يقول "شكسبير": "بطيء لمن ينتظر.. سريع جداً لمن يخشى.. طويل جداً لمن يتألم.. قصير جداً لمن يحتفل.. لكنَّه الأبدية لمن يحب".
لذلك لا بدَّ أن نتوقف عند العلاقة الوثيقة بين المسرح والحب، فقد جسّد المسرح أنبل قصص الحب التي تمثل العلاقة بين الأنا والآخر على أساس التضحية والإخلاص والوفاء وحتى الموت من أجل الآخر الذي نحب، وهذا يقودنا إلى السؤال الكبير: ما هو الحب؟ لعلَّ الإجابة عن هذا السؤال لا تحتاج فقط لكثير من التأمل، ولكن أيضاً لمزيد من البحث والتنقيب في ماهية الوجود والإنسان، وحاجة الإنسان الملحة لشريك في الحياة يتقاسم معه كل ما لديه. يقول "صمويل بيكيت": " الطريق تبدو طويلة عندما يقطعها الإنسان وحده".
لعلَّ الملفت بهذا القول الإشارة لثقل الزمن ووحشته عندما يكون الإنسان وحيداً يرى كل شيء من حوله، ينتبه لكل التفاصيل، يتذكّر كل شيء كان في الماضي، ويظهر له أنَّ الغد بعيد لأنَّ الحياة خالية من الحب، فالحب يجعل الزمن في أقصى حدوده وأقصى حدود الزمن هو الخيال المنتج على حافة العدم، وهذا ما يفعله المسرح.
"لكن ما الذي كان سيقدمه المسرح لو لم يكن الحبُّ موجوداً؟" هذا السؤال يُطرح على الفرنسي "آلان باديو" صاحب كتاب "الكينونة والحدث" ويجيب عليه قائلاً: "يمكن أن يتحدث، مطوّلًا عن السياسة. إذن، نستطيع أن نقول إنَّ المسرح هو السياسة والحب وتقاطعاتهما عمومًا".
إنَّ تقاطع السياسة والحب تعريفٌ محتمل للتراجيديا. لكن حب المسرح هو، بالضرورة، حب الحب كذلك، لأنَّه من دون قصص الحب، ومن دون الصراع من أجل تحرير الحب من القيود، لن يضيف المسرح الكثير من الحب ."
نعم؛ لا مسرح من دون حب، ولكن ماذا عن السياسة؟ ثمة تقاطع بين السياسة والحب كما قال "باديو"، كما يقول "أوجستو بول": " كل مسرح هو سياسي بالضرورة، لأنَّ كل أنشطة الإنسان سياسية، والمسرح واحد من هذه الأنشطة، وأولئك الذين يحاولون فصل المسرح عن السياسة يحاولون تضليلنا، وهذا نفسه موقف سياسي".
ونخلص للقول إنَّ ثمة علاقة وثيقة بين المسرح والحياة بكل تفاصيلها، إنَّه وعاء العناصر كلها، لا مسرح من دون حب، ولا مسرح من دون سياسة، ولا مسرح من دون قضية إنسانية، وأيضاً نرى أنَّه لا مسرح من دون موقف حيادي يرفض أن يستثمر اللحظة للاستحواذ على مشاعر المتلقي وعواطفه في سبيل توجيهه واستثماره على مسرح الحياة الكبير، لصالح توجّه سياسي على آخر، بل نتطلع لمسرح لا يدفع المتلقي في اتجاهات محدّدة مسبقاً، كأن نتحدث عن الحب، لكن لا نقول له من عليه أن يحب، وعن السياسة دون أن نقول له إلى أين عليه أن يذهب وماذا يجب أن يفعل، فالمتلقي في المسرح هم جماعة من الناس تترقب وتتابع المشهدية والنص المسرحي، وهذه الجماعة لكل فرد فيها خلفيته الفكرية والثقافية وموروثاته العقائدية التي يختلف وعي كل فرد فيها عن الآخر، ولكن نستطيع أن نطرح الأسئلة ليذهب المتلقي كجماعة وأفراد إلى الإجابات التى قد تكشف الحقائق وتبلور رؤيا واضحة ومنتجة تدفع الى التغيير الإيجابي في بنية المجتمعات المحلية، وفي البنية العامة للنظام العالمي الحديث الذي يؤثر فيها بشكل سلبي، بحيث أنَّ هذا النظام العالمي يفرض على المجتمعات المحلية رؤيته الخاصة عليها، وهذا يسهم في اضمحلال الهُوية الوطنية والثقافية. وهنا ثمة دور كبير يلعبه المسرح للحفاظ على الهُوية الثقافية والوطنية وذلك من خلال الإعلاء من شأن الحب، ومن شأن الإنسان، ومن شأن الوطن.
وختاماً؛ نتوقف عند نظرية الجمال السببية، التى تقول: إنَّ الشيء الجميل هو الذي يسبب المتعة؛ والمتعة هي من أروع ما ينتجه المسرح، حيث أنَّه يبعث السعادة في النفوس من خلال تصويره لجمال الحب والسياسة الرصينة، وتقديمه في لحظة من الزمن العابر في قلب الزمن إلى ما لا نهاية.