تجليات الأنثى في التصوف والحياة قراءة في "المرأة والتصوف والحياة" للدكتورة سعاد الحكيم

أحمد رمضان الديبـاوي
التصوف علم وتجربة، وانفتاح على الكون كله، ولعل الدكتورة اللبنانية سعاد الحكيم، أستاذة الفكر الإسلامي والتصوف بالجامعة اليسوعية، تجمع التصوف في جُعبتها علمًا وتجربةً وانفتاحًا بلا حدود؛ فهي، وإن تخصّصت في العلوم الصوفية بعد حصولها على الشهادة الجامعية في الفلسفة، بيْد أنها خاضت من الداخل في التجربة الصوفية؛ إذ تنتسب إلى الأسرة الصوفية المعروفة باسم " الدندراوية ، "التي أوصلت إلى رُوحها غذاءها، وأفاضَت على عقلها تفكيرا مستمرا في أحوال العالَم من حولها، وهو التفكير الذي قادها في النهاية إلى محاولة إعادة ترتيب ذلك العالم من خلال الاهتداء بالتجربة الصوفية ، التي لا تعتمد على الرُّوح والعرفان فقط، بل تعتمد على المعرفة الصحيحة والفهم العميق للدين الإسلامي، الذي لا تكاد الأجيال الجديدة من الشباب تعرفه معرفة صحيحة، قائمة على العقل والوجدان والإنسانية.
ولا تتأتّى هذه المعرفة – من وجهة نظر الدكتورة سعاد الحكيم – إلا من خلال الانفتاح على الكون، ولا يتأتّى هذا الانفتاح، بدوره، إلا من خلال خوض التجربة الصوفية، علمًا وعملًا، وفهمًا وتطبيقًا، وهو ما عاينته الدكتورة سعاد بنفسها، بل درَجت عليه منذ نعومة أظفارها في بيت "الدندراوية"، فجاء كتابها الهام الموسوم (المرأة والتصوف والحياة)، وهو الكتاب الذي أصدرته دار (كنز ناشرون) في بيروت عام 2017، وجاء مشتملا على 280 صفحة، تتوزّع على ثلاثة أقسام؛ الأول منها تحت عنوان "المرأة والحياة"، والثاني تحت عنوان "المرأة والإسلام"، والثالث – وهو أكبر تلك الأقسام – تحت عنوان "المرأة والتصوف".
بالطبع، لن تستوفي السطور القادمة مادة هذا الكتاب وأبعاده، لكننا على أي حال سنحاول الإلمام بالخطوط العريضة التي أرادت المؤلفة شرحها لبعث التجربة الصوفية من جديد في نفوس الأجيال الحالية والقادمة، وكذا لبيان أهمية المرأة في عالم التصوف، وكأنها معادل موضوعي للكون كله، بل للحياة بأسرها، ويأتي القسم الأول من هذا الكتاب وكأنه (نوفيلا)، أو رواية صغيرة الحجم، وفيه تحكي المؤلفة، بصيغة أدبية درامية تقترب من صيغة الروايات، حياتها مع كل من أبيها ونفسها وعمها "سمير الحكيم" وأسرتها، وأستاذها الذي تتلمذت العلوم الصوفية ليديه، ولعل أهم ما يلفت انتباهنا في ذلك القسم، بعد لغته الأدبية وتعبيراته الشاعرية الممزوجة بالعاطفة والوجدان، هو حديث المؤلفة عن نفسها/ ذاتها، التي سبرت أغوارها وعرفتها حق المعرفة منذ البدايات، فعرفت أن ذاتها "ككُلّ كائن حيّ، خاضعة لكيمياء التغيُّر"، فهي عندما تخلو بنفسها وتُرجع شريط الذاكرة إلى "بدايات البناء"، ترى صورا لها كثيرة متغيرة، تعكس ذاتها في مراحل عمرها، وتعترف بأنها ستظل تتقلّب في تلك الصور، وسيظل من ينظر إليها ويراها، يرى "تجدُّد الصور، وتولّدها من بعضها البعض"، وكل صورة جديدة تحل محل القديمة التي لا تنكرها بل تضعها في معصمها "أساور من ذهب"!
كما يلفت انتباهنا في القسم الأول من الكتاب لحظة حياتية، صاغتها الدكتورة سعاد الحكيم كما لو كانت تكتب قصة قصيرة، وجاءت تحت عنوان "باقة ورد صوفية ، "وفيها تحكي عن تجربة حياتية خاضت أحداثها في صباح يوم ربيعي في شهر رمضان أمام مبنى الإذاعة اللبنانية، فجعلتها تفكر من جديد فيما مضى من حياتها، وتحاسب ذاتها محاسبة من منطلق خُلُقي بحت، لإعادة التوازُن النفسي، وكشف الخلل السلوكي داخلها، ليكون الانكشاف الصوفي الخلقي، الذي جعلها تتجه إلى محل ورود تختار منه باقة/ طاقة ورد تقدمها إلى رجل غضبت منه غضبا فكّرت معه في تدبير طريقة لتأديبه والانتقام منه لأنه حجز سيارتها أمام مبنى الإذاعة، الأمر الذي يجعلها تنتظر لساعات حتى يخرج هذا الرجل فيٌخلي الطريق أمام سيارتها، لكنها وبعد تفكير عميق واسترجاع لمعاني مكارم الأخلاق وأقوال رجال الصوفية، ومحاسبة ذاتها من منطلقات خلقية، تراجعت عن تفكيرها في الانتقام، فانقلب الموقف كلية مع ذلك الرجل، لتهديه باقة ورد، فيستحيل الغضب والحنق إلى ودّ وصفاء وصداقة، ويكون الدرس هو "المحبة فضيلة الفضائل.. وحملت الأديان المنزَلَة رسالة محبة استكانت لها قلوب البشر".
ولم تشأ الدكتورة إنهاء هذا القسم دون أن تعرّج على أستاذها الأكبر محيي الدين بن عربي (ت 638 هـ)، الذي تعرّفت إليه عام 1970 بعد حصولها على إجازة الفلسفة العامة، وبكلمات دالّة شاعرية تقول الدكتورة: "أنا لم أختر ابن عربي، ولكن هو الذي اختارني!"، وتحصي في سبع نقاط أهم ما تعلّمته منه؛ وهو: حُسن استقبال النعمة الإلهية- قدسية الكون وكائناته- الثقة بالعقل البشري- القرآن يخاطب الإنسان بآياته- حُسن استقبال البلاء الإلهي- طاقة على الغفران غير محدودة- المعادلة الصعبة بين الجرأة والحكمة.
وأما القسم الثاني من الكتاب فهو عن "المرأة والإسلام"، وتنتصر فيه الدكتورة للمرأة المسلمة كنموذج عالمي، حسب تعبيرها، فهي شريكة الرجل في كل شيء، وقد أكّدت إجمالا أن الإسلام لا يحظر تقدّم المرأة علميا وعمليا، وليس عائقا أمام تحقيقها نموذجا عالميا ينافس النموذج الأحادي المطروح، وقد حاولت المؤلفة، في سبيل الدفاع عن شراكة المرأة الرجل في كل شيء، اقتراح طائفة من الآليّات التي تحقق ذلك، كابتكار هندسة جديدة للمساجد – باستثناء المسجدين المكي والمدني – تجعل المساحة المخصصة للنساء مساوية للمساحة المخصصة للرجال، ويظهر لي أن الدكتورة قد وُفّقَت إلى حدّ كبير في الإجابة عن بعض التساؤلات الفقهية حول قضايا المرأة، كأحقية المرأة في تولّي منصب الإفتاء العام، لكن يبدو أن الدكتورة حاولت إمساك العصا من المنتصف، فقررت أن من الأنسب أن يظل الرجل متوليا لهذا المنصب، نظرا لما يتطلبه من وجود مستمر، واختلاط ضروري بعالم الرجل (..)، ويبقى أفضل ما قامت به – ربما تعويضا عن عدم تعمّقها في تناول قضية المساواة بين الرجل والمرأة – هو بناؤها رؤية أستاذها الأكبر ابن عربي للمرأة في الوجود وفي التاريخ، وهي رؤيته التي جعل عمادها الجمع بين العقل والقلب في استنباط الرؤى والأحكام، وذلك عبر ستة مجالات، نكتفي بإحصاء عناوينها فقط، هي:
المرأة مبدأ كوني- المرأة الكاملة- قطبية المرأة، أي خلافتها في الدولة الروحية- مشيخة المرأة- المرأة/ الآخَـر- قضايا المرأة، واشتملت على نماذج ثلاثة، هي:
شهادة المرأة- إمامة المرأة في الصلاة- ناقصات عقل ودين، وقد جاءت تلك العناوين كلها في القسم الثالث والأخير من الكتاب، وهو أكبر أقسام الكتاب على الإطلاق؛ إذ يستغرق الصفحات من 117 حتى نهاية الكتاب، وفيه أجادت الدكتورة بيان علاقة المرأة بالتصوف، ممهدة لذلك بعنوانين، هما : المرأة في رؤية إسلامية متنورة، والجمال الإنساني في عيون صوفية، واستطاعت بجهد لا نهائي بيان علاقة المرأة بالتصوف، متنقلة بين العقل والقلب، والمنطق والإحساس، ولا أدل على إحساسها ومشاعرها الفيّاضة من قصيدتها النثرية الجميلة عن السيدة مريم، ثم لا تنسى المتصوفة الكبيرة رابعة العدوية؛ فهي تجعل من سيرتها أنموذجا لتجليات المرأة الصوفية، ولأنها تجعل من المرأة أنموذجا عظيما للتجلي، فقد تناولت في كتابها العارفات والصدّيقات في حياة "ذي النون المصري" (ت 245هـ)، وانبهار ذي النون بولاية النساء؛ لأنه ينظر إلى المرأة كونها شقيقة الرجل، ومما هو معروف أن "ذا النون" قد التقى في مكة السيدة فاطمة النيسابورية، زوج أحمد بن خضرويه البلخي، فتلقّى عنها الروحانيات، التي على رأسها الصدق والإيثار.
وكمثل "ذي النون" كان ابن عربي، ففي حياته ثلاث نساء؛ وليّـة (فاطمة بنت ابن المثنى القرطبي) وفقيهة (بلقيس) وأنثى (نظام بنت مكين الدين الأصفهاني)، وقد أودَع الرجل في "الفتوحات المكية" وفي "فصوص الحكم" خلاصة نظريته في علاقة الرجل بالمرأة، وهي باختصار كما أشارت الدكتورة يعاد الحكيم (الرجل سيظل يشكو نقصانا ما لم ترجع أنثاه المفارِقة إلى مكانها من بدن ذاته، وستظل المرأة تشكو غُربةً ما لم تعُد إلى داخل حدود أرض رجلها)؛ فكلاهما مكمل للآخر، كما هو مستفاد من قصة آدم وحواء.
بالطبع، لن يستطيع مقال كهذا الإحاطة الشاملة الكلية بكتاب (المرأة والتصوف والحياة)، ففيه بحوث ومقالات بعضها كان منشورا في الدوريات والصحف، وبعضها يُنشَر للمرة الأولى، لكننا في النهاية حاولنا الإلماع إلى أهم خطوطه العريضة، وبيان لُبّ مادته التي يجمعها مصطلح (المرأة والتصوف)، ولعلنا نستطيع أن نضع مصطلح (سعاد الحكيم والتصوف) بدلا منه، لأن مؤلفتنا تناولت التصوف من زاوية انخراطها فيه كعلم وسلوك معًا، منذ نشأتها الأولى، وفي الكتاب فصول هامة جدا عن: السيدة الطاهرة فاطمة الزهراء، نموذج الكمال الإنساني، وفصلان آخران عن كل من الملكة بلقيس، زوج النبي سليمان، والست عجم بنت النفيس، فضلا عن فصليْ: الجسد عند كل من ابن عربي وتريزا الأفيلية، كباكورة لعلم التصوف المقارن، وتحولات الجسد عند الإنسان الصوفي، وفي هذين الفصلين فلسفة عميقة لفهم طبيعة الجسد وإشكاليته في الخطاب الصوفي.
قصارى القول، فإن هذا الكتاب يُعد رحلة بديعة في عوالم التصوف والوجدان والروحانيات ، وشاهد إثبات على أن الإنسان، بالأساس، ذاتُ ورُوح، وأن لا فضل لرجل على امرأة، فالإنسانية تجمع الذكر والأنثى، وما الذكورة والأنوثة سوى عرضيْن ليسا من حقائق الإنسانية، على حدِّ تعبير ابن عربي.