الصليبُ الحديديُّ

قصة: هاينر موللر*
ترجمة: علي عودة
قاص أردني
"ali odeh" <aliodeh50@yahoo.com>
في نيسان من عام 1945، في "ستارغراد، مكلنبورغ"، ودّ تاجرُ ورق وزوجتُه وابنتُه البالغةِ من العمر أربعة عشر عاماً الانتحارَ بإطلاق النار على أنفسهم. كان هذا التاجر قد سمع من أحد العملاء عن زواج هتلر وانتحاره.
كان ضابطاً احتياطيّاً في الحرب العالمية الأولى، وهو ما يزال يملكُ مسدساً ومن الذخيرة عشر طلقات. كان يقف جانب الطاولة، حينما خرجت زوجته من المطبخ مع العشاء، وثمة صليبٌ حديديٌّ على طيّة صدر معطفه، كما هو الحال في أيام الأعياد.
قال ردّاً على سؤالها، لقد اختار القائد الانتحار، وأنّه ما يزال مخلصاً له. لكن، هل كانت زوجته مستعدة لاتباعه في هذا أيضاً. أمّا بالنسبة لابنته لم يكن لديه شكٌّ في أنَّها ستفضل الموت الشريف على يد والدها بدلاً من حياة غير كريمة. فدعاها وهي ما خيّبت ظنّه.
دون انتظار ردَّ المرأة، طالبهما ارتداء معطفيهما بهدوء، لأنَّه يريد أن يصطحبهما إلى مكان مناسب خارج المدينة فصدعتا لطلبه. ثم شحن المسدس، وجعل ابنته تساعده بارتداء معطفه، أغلق المنزل وألقى المفتاح من خلال فتحة صندوق البريد.
كانت السماءُ تمطر وهم يخرجون من المدينة عبر الشوارع المظلمة، يتقدمهم الرجل، دون أن يلتفت لهما خلفه، وهما يتبعانه على بُعد مسافة، كان يسمع خطواتهما على الإسفلت. بعد أن ترك الشارع وأخذ ممر المشاة باوخنفالد، استدار إلى الوراء وحثّ خُطاه.
رغم ارتفاع قوّة الرياح الليلية على السهل الخالي من الأشجار والأرض المبللة بالمطر، لم تصدر خطواتهم أية أصوات.
صرخ عليهما للمُضي قدماً، لم يقدر على اللحاق بهما، كان خائفاً، كان بمقدورهما الهرب منه، أو تمنّى، أن يهرب هو بنفسه.
لم يمضِ وقت حتى ابتعدتا في طريقهما. ولّما لم يعد بمقدوره رؤيتهما بدا عليه الخوف واضحاً أن يكونا قد هربتا، وكم تمنّى لو تفعلان ذلك. مكث واقفاً وراح يتبول.
كان يحملُ المسدس في جيب السروال، شعر ببرودته من خلال القماش الرقيق. عندما حثًّ خطاه للحاق بهما، كان المسدسُ يضرب فخذه عند كل خطوة.
تباطأ في مشيه. وعندما مدّ يده إلى جيبه لإبعاد المسدس، رأى زوجته وابنته، كانتا تقفان في منتصف الطريق تنتظرانه. كان يريد أن يفعل ذلك في الغابة، لأنَّ خطر سماع صوت الطلقات لم يكن هناك كبيراً.
عندما أخذ المسدس وفكًّ الأمان، تعلقت المرأة بعنقه باكية، كانت تقبله، لكنَّه امتلك القوة للتخلص منها.
تقدم نحو الابنه التي كانت تحدق به، ووضع المسدس على صدغها وأغمض عينيه وضغط على الزناد. تمنّى لو لم تنطلق الرصاصة، لكنَّه سمع صوتها ورأى الفتاة تترنح وتسقط.
كانت المرأة ترتجف وتصرخ. كان عليه إسكاتها لكنَّها لم تصمت إلّا بعد الطلقة الثالثة.
صار وحيداً ولم يكن هناك مَن يأمُره بوضعِ فُوهةِ المسدس على صدغه. لم يَره الموتى ولم يَره أحد.
وضع المسدس في جيبه وانحنى على ابنته ثم انطلق جارياً. عاد إلى الطريق حتى وصل الشارع، ثم سار مسافةً قصيرة على طول الشارع، مُسنداً ظهره على شجرة وراح يُفكّر بوضعه وهو يتنفس بصعوبة. ووجد أنَّ ثمة أمل. فقط عليه أن يواصل الجري، ودائماً نحو الغرب، وتَجُنّب المدن التالية.
وفي مكان ما بمقدوره الاختباء، والأفضل أن يكون هذا في مدينة كبيرة، تحت اسم مستعار، لاجئ غير معروف، فهو متوسط القامة ومجتهد في العمل.
ألقى المسدس في حفرة على الشارع ثم نهض. أثناء مسيره تذكّر أنّه نسي أنْ يتخلص من الصليب الحديدي. فَفَعَلْ.
*هاينر موللر: ولد في آيبن دورف في منطقة ساكسن عام 1929 وتوفى في برلين عام 1995. وهو مسرحي وقاصّ. نشر مجموعات قصصية عدة منها "قصص من الإنتاج" في جزأين عام 1974 وعام 1975، "العائدة أو الحياة في الريف" عام 1975. أمّا قصة الصليب الحديدي فقد أُخذت من مجموعة "موت جيرمانيا في برلين" عام 1977.
المصدر: نُشرت هذه القصة ضمن مجموعة "خمسون قصة ألمانية معاصرة". عن دار نشر ريكلام عام 1980.