الجسدُ متناوباً على الجمالِ والحربِ معاً؛ في أعمال التشكيليّ العراقيّ "أحمد السوداني".

د. إبراهيم بن نبهان
كاتب وباحث تونسي
يأخذنا المسارُ التشكيليّ للفنان العراقي "أحمد السوداني" إلى مدارك جماليّة جديدة، تنهلُ تعبيراتُها المعاصرة من عوالم لا هي شرقيّةً ولا غربيّةً، بل عوالم هُلامية، انتقل عبرها إلى التماهي مع الذات في أقصى مراحل التشكيل؛ ففي أعماله المتعدّدة التي تستوحي قصصاً وأساطيرَ وأحداثاً تنهلُ من الماضي والحاضر، كما تنهل من الزمان والمكان أيضاً، كحياكةٍ جديدةٍ لموضوع الجسد ضمن فضاء الأثر الفني في هجنته الأسلوبة والتقنيّة.
من حيث بناء منظومة جماليّة تحملُ في باطنها الجمالَ المضادَّ، المحتوي نسقا أسلوبياً، يحيلنا إلى تيارات الفن الحديث من التكعيبية المركّبة بالشكل، مروراً بالسرياليّة المحمّلة بالخيالي، وصولاً إلى التجريديّة المتجليّة في شكل اللوحة، وأخيراً إلى الفنِّ المعاصر في مفاهيمه المستوحاة من الواقع اليومي للعراق، من حرب وعنف ودمار... كلُّ هذه المفاهيم أسّست لبناء منظومة تشكيلية هجينةً لدى أحمد السوداني، المقيم راهناً في الولايات المتحدّة الأمريكية، فهو يشكّل الموضوعَ تشكيلاً، جاعلاً من فضاء اللوحة فضاءً مُربكاً، متداخلاً، وحاملاً رموزاً عدّة، تُحيلُ إلى حالة الجسد الغامض، أي الجمال حينما يكون مكتنزاً ببشاعة الحرب، من أشلاء وعربات محترقة.
يمكن أن نستهلَّ الحديث حول لغة التأويل الجمالي، التي تفتح أبوابها للتحليل السيميائي والنقدي والتعبيري، وإثارة جوهر الأثر وفك رموزه الباطنية لذلك؛ " إنَّ اللُغة المشفرّة، لا تحيل على كون موضوعي خارج الأثر، وفهمها ليس به قيمة إلّا في داخل الأثر ذاته، وهي تجد نفسها مشروطة ببنية هذا الأخير. إنَّ الأثر بوصفه كُلاً يقترح شروطاً لغوية جديدة؛ فيخضع لها، ويصبح هو نفسه مفتاح تشفيره الخاص."[1] وبالتالي فإنَّ تأويل الأثر وقراءته يندرج في ذات الحين في عمق التجربة الفنية ومحيطها الثقافي والاجتماعي والسياسي، لذلك لا يمكننا أنَّ ننفي تلك العوامل المتعدّدة التي أحاطت بالفنان العراقي "أحمد السوداني" ودفعت به إلى تقصيّ التمضهرات المتفشيّة في مجتمعه "العراق" الذي أثاره للاشتغال على المظاهر كافة من حوله، وتحويل وجهتها إلى الفضاء التشكيليّ، فهو يشتغل على مفهوم العنف، ليس بمستواه الضيّق، إنّما بقدر ما هو سيناريو جماليّ يتجلّى في صياغة جديدة لمظاهره البصرية الجديدة المتحرّرة ضمن فضاء التشكيل، الذي تحرّر فيه الأسلوب الفني، لكي يصبح الأثر عالماً منفتحاً على الآخر(الغربي) بما يجعله قطباً مستقطباً لصورة الشرق، هذا الفضاء الفني الذي اجتمعت فيه التقنياّت الحديثة والمعاصرة فأصبح الأثر هجيناً، على مستوى الفكرة والشكل ليحمل هواجس الفنان الذاتيّة العميقة التي تعلن ظهوراً لصورها المتداخلة ضمن الإنشاء الفني.
انتهج الفنانُ العراقيُّ "أحمد السوداني" مسألةً شائكةً مفادها، البحث في إشكاليّة العنف بما هو مفهوم متعلّق بالتشكيل، هو ذاته الذي يبدع تلك التراجيديا الأيقونية المنصهرة في الفضاء والمساحة واللون والشكل، ليغدو العنفُ هكذا، تعبيراً عن فضاء متمسرح ثنائي الأبعاد وهجينَ التوجّهات الفنيّة، إذ يحيلنا إلى تراجيديا الحرب؛ فيبدع دراما تشكيليّة جديدة ضمن الأثر الفنيّ، فنجده سريالياً في شخوصه وأجساده تارةً، وتكعيبيّاً في أشكاله طوراً، كما نجده تبسيطيّاً في ألوانه، وتعبيريّاً في مفهومه للعمل الفني.
لقد مثّلت هذه الهجانة الأسلوبية مساراً تفاعليّاً، يحيلنا إلى ذات الفنان في البداية، إلى التمظهرات الجماليّة والمفهومية للأثر الفني لاحقاً، هذا الأخيرُ الذي أصبح أيقونةً مُعبّرة عن الجسد وصوره المتعدّدة، وعن حالته الشكليّة الهجينة، التي غابت تفاصيلها وتعددّت تعبيراتها الشكليّة والمضمونيّة. هكذا، يمكن قراءة العمل الأول "حفريات 2007":

أحمد السوداني حفريات، 2007
لقد ارتكز الفنان في هذا العمل على تلك الرماديات الملّونة، في نطاق التراجيديا المأساوية للجسد، فقسّم اللوحة إلى أبعاد منبثقة بعضها من بعض؛ تقسيمات جوهرية تُمثّل صراعاً ما بين الجزء والكلّ، هو صراع الفنان مع محيطه وخيالاته التي تحوّلت الى أجساد مُشوّهة مُخيفة، هي صورٌ مُخزّنةٌ لديه اخترقت مفهومها الخيالي لتُصبح أشكالاً مُعبرّة، تندمج بعضها مع بعضٍ، فتُشكّل هالةَ الجسد الغريب عن هُويته.
لقد ارتحلت الأجسادُ في هذه اللوحة من التقسيم الجزئيّ إلى الكليّ. وكأنَّ الفنانَ يحيك الحكاية عبر اللّون والشكل والخط من جهة والضبابية المُتجلية على وجوه الأجساد من جهة ثانية. ذلك هو تعبير عن ذاته المتداخلة الهادفة للتحرّر في فضاء التشكيل، ربما هو تداخلٌ بين الأزمنة بين الماضي والحاضر والمستقبل، أو هو إعادة بناء لصور الجسد العراقي بعد الحرب، هذه الأجساد المنهارة التي جاءت في شكلها المرعب والمخيف، تجرّدت من إنسانيتها وكأنّها جثثٌ هامدة، صوّرها السوداني لتكوّن شكلاً جمالياً معاصراً لصورة الجسد السكيزوفريني. لقد اشتغل الفنّان على تلك الدراما التراجيديّة للجسد العربي عامّة والجسد العراقي خاصّة بعد الحرب، فأنتج كائنات هلامية، ليست إنسيّة ولا جنيّة، بل هي أجسادٌ منهارةٌ في فضائها التشكيلي، هذه الاستعارةُ المفهوميّةُ أنتجت مفهوماً للجميل القبيح، أو العنيف المقبول الذي شكّل معاني الجمال الجديد . ولكن في هذا الصدد، يُحيلنا التفكير لمساءلة اللوحة المعبرّة عن مضمونها المتشكّل في هيئة مسرح حربيّ، وهكذا. فهل نحن أمام مخلّفات الحرب التي أثّرت على الفنّان المرتحل من وطنه إلى الغرب؟، أم، تضعنا أمام مشهد ينبع من جذور الذاكرة لدى الفنان العراقيّ؟ أم نحن أمام صور لذاكرة الفنان تتوهج لتبرز في موطنه الجديد، على إنّها "الغربة"؟ أم هو توجيه للفنان، لكي ينفرد متمركزاً حول قضية الجسد بما هو مفردة تعبيريّة؟ ذلك هو إشكالٌ في حدِّ ذاته، يطرحه الفنان ذاته ضمن أعماله الفنية المتسلسلة من ناحية الصراع الشكلي والمفهومي.

أحمد السوداني "على العكس 2010"
فحم وأكريليك على قماش (277.8 × 311 سم.)

في هذا العمل، يصوّرُ عنف الفنّان على الأثر، وهو عنف داخلي أفصح عن ذاته في تجلّيات مرتبطة بعنف الصورة الملتحفة في ذاكرتها، فقد جاءت بين الحضور والغياب معبرّة عن شظايا الجسد وبقاياه المنصهرة، فتراكمت على هذا النحو، معيدة التّشكّل في هيئة أجساد مكتظّة خيالية مريعة في وجوهها وتفاصيلها. هي أجساد تجرّدت من هُويتها متقمصة هُويةً شكليّة جديدة في مشهدية جديدة. هذا المريع الحربي الذي أفضى إلى تشكيلات غريبة وغرائبية، مستوحاة من مفهوم التشظيّ والانفجار، فتعود للظهور من جديد، في هُوية فنيّة جديدة، يتخلّص فيها من اللون الواحد ليصبح متعدّداً بتعدّد الأجساد المركبة. ربما هي أجسادٌ خياليّةٌ تحيلنا إلى أشباح الماضي، أو ربما هي خيالاتٌ تتصارع على الفضاء التشكيلي من أجل البقاء فيه، وهكذا، يتجلّى الجانب التعبيري في تلك الأمثولة التراجديّة التي تسرد موضوع الحرب بتمظهراته كافة، فهو يستوحى أمثولة "غرنكا" الأسبانية ل"بيكاسو" معيداً التشكيل الحربي للعراق في مقاربة مع تيارات الفن الحديث. تغطي الفكرة هنا ظاهرياً على الشكل من حيث هو تجريد كليّ، ولكن إن نحن دققنا النظر، فسرعان ما نلمح تلك الأجساد المتداخلة في تفاصيلها والمحيلة على مساءلة السلطة والقوّة والحرب والقتال والصراع، فكلّها مفاهيم اجتمعت لتُعبر عن هواجس الذات المغتربة الباحثة عن موطن جديد.
هنا، توجّهٌ إلى خلق فضاء تشكيليّ يعبّر في ذات الحين عن "سكيزوفرينا" المجتمع من جهة، و"سكيزوفرينا" الجسد وتشكيلاته المتحوّلة والتي تمسُّ انفعال المتفرج وإثارته من جهة أخرى. تقول الباحثة أم الزين بن شيخة: " من أجل أن يصير الانفعال شعورًا، عليه أن يتحرّر من كل ما من شأنه أن يلغي حرية الذات."[2] فتحرّر الذات المبدعة في تجربة الفنان العراقي "أحمد السوداني" جعل منه، يفصح مرّة كما يستبطن أحياناً تعبيريةَ الشكل وجمالياته التي جاءت في شكلها الجديد والمتحصّنة بمفردات الحرب وببقاياها مُشكّلا فضاء تعبيريًا جديدًا.
هذا التحرّر جعل من الذات تبدع من باطنها ومن مخزونها الزمني سواء من الماضي المتجسّد في صور الذاكرة، أو من الحاضر المطّل على المستقبل. حيث بنى أيقونةً معاصرة تبوح بذاك التداخل الشكليّ والتعبيريّ المشكّل للجماليّ " وذلك يعني بخاصة أنَّ الذات لا ترتقي إلى مقام الشعور بالروعة ما لم تتمتع بضرب التطهير الاستطيقي."[3] تبعاً لهذا يمكن لنا تسليط الضوء لقراءة العمل التالي:

أحمد السوداني، بدون عنوان 2010، أكريليك على قماشة.
لقد توجّه الفنان العراقي أحمد السوداني إلى توظيف صورة الحرب من زواياها المتعددة كنمطٍ تشكيليٍّ، ينتقل عبره إلى تجريد هيئة الجسد عن شكله، ليخلق كائناتٍ مشوّهة تتصارع على مساحة اللوحة، هي أجساد نتيجة الحرب، جاءت مضطربة مهمّشة متكتّلة تغيب فيها تفاصيلها، فوضعها الفنان موضع الهجانة الشكلية المعبّرة عن اضطراب الذات وما تحمله من صور مخزونة، أحياناً ضبابية وتارةً يكسوها الوضوح. إذ نلمح التقارب المفهوميّ الذي ارتكز عليه "السوداني " من خلال البحث في المقاربة الفنيّة التي تطرّق من خلالها إلى تصوير مشاهد، تتمظهر على مستوى رُموزها وعلاماتها، المحيلّة لشُخوص جسدية هجينة البنية غابت عنها تفاصيل الوجه، لتحضر كمجموعة من المفردات التي تحيلنا على خروج الإنسانية من إنسانيتها، فيعيد حياكة صورة الجسد المتمرّد على شكله وهيئته، المتحوّل إلى أثرٍ داخل الأثر نفسه، علامة جسدية يراوح فيها الفنان ما بين المرئي واللامرئي، جاعلاً منها بعدا للبناء التشكيلي والمريع الجمالي المتجسّديَن في تداخله الشكلي.
لقد تجاوز الفنان استنساخَ عنف الحرب ومحاكاتها بالطريقة التقليدية الواضحة، عندما غاص في معناه المفهومي وعايش الحربَ تشكيليًّا وشعوريًّا وتقنيًّا، ليعطي صورة مخالفة لمعنى الجمالي التشكيلي المبسط، يحتويه في شكله ومضمونه عبر التقنية من جهة والفكرة من جهة ثانية. فتوجّه إلى إثبات وجوده الفني ضمن أكبر الدول العالمية، منتجاً أسلوباً يفرده عن غيره من الفنانين نظراً لتوظيفه التمظهرات الشرقية محاولاً تأويلها تشكيليًّا وتصويرها في سياق فني جديد يحمل الأسس الجمالية والأسلوبية في صناعة الأثر الفني.
يمكن القول إنَّ البعد الجمالي في تجربة الفنان العراقي قد قام على مساءلة مفاهيم متعدّدة، كالعنف، الحرب، الصراع، السلطة والهيمنة، كلّ هذه الهجانة المفهومية شكلّت حرباً شكلية تجسيدية، لهيئة الجسد المتلاشي والمتداخل في أجزائه، فيصبح مطيّة لتعبيريّة الذات المبدعة والمتداخلة في ذاتها ومعبرّة عن جنون الفنان في تشكيله أو ربما تصرح عن "سكيزوفرينا" الجسد في حدّ ذاته، بما يحمله من تقلّبٍ وتداخلٍ وازدواج، هذا الجسدُ الباحثُ عن موطنٍ جديد وهُويةٍ جديدة يجدُ مستقره ووجوده فيها.

المراجع:
[1] إمبرطو إيكو، الأثر المفتوح، ترجمة عبد الرحمان بوعلي، دار الحوار للنشر والتوزيع، سورية ، الطبعة الأولى 2001 ص 123.
[2] أم الزين بن شيخة، الفن يخرج عن طوره، جداول الحمراء، الطبعة الأولى 2011، ص 76.
[3] المرجع نفسه، ص 76