- حضاراتٌ أفريقيَّة غير معروفة

د. أشرف فؤاد أدهم
أكاديمي وباحث مصري في الحضارات الأفريقية


"رأس نوك"، من الطين المحروق، بالمتحف الوطني – لاجوس – نيجيريا.
تمتاز القارةُ الأفريقية بتاريخها الطويل والحضارات المتعددة التي احتضنتها. وعلى الرغم من أنَّ الحضارة المصرية القديمة تتصدر قائمة أشهر الحضارات الأفريقية، إلا أنَّ التاريخ والحضارت الأفريقية الأخرى خاصة جنوب الصحراء، شملت ممالك وإمبراطوريات أخرى قد تكون مثلها، إن لم تتفوق عليها، ولكنَّها ما زالت تحتاج إلى المزيد من جهود البحث والدراسة والتنقيب؛ لاكتمال الصورة عن هذه الحضارات. وأهمُّ هذه الحضارات " حضارة النوك "، فى وسط نيجيريا، حيث تم اكتشاف القطع الأثرية لهذه الحضارة لأول مرة بالصدفة، أثناء أعمال التعدين للبحث عن القصدير عام 1928. وأظهرت الأبحاث أنَّها حضارة معقدة، نشأت في غرب أفريقيا منذ عام " 1000 قبل الميلاد، وانتهت عام 500 بعد الميلاد "، حيث تناقص عدد سكان النوك في ظلِّ " ظروف غامضة " حتى اختفاؤهم تمامًا. ويرى الباحثون بأنَّ هذه الحضارة كانت متقدمة للغاية، وقد اعتُبرت هذه الحضارة، أول حضارة جنوب الصحراء تنشئ أعمالاً فنية بنظام " تراكوتا ⃰ بالحجم الطبيعي ".

 

 

حضارة النوك في متحف اللوفر–باريس، تمثال رأس القرد الذى وجده "فاج".
ويرجع الفضل فى اكتشاف هذه الحضارة إلى عالم الآثار البريطانى " برنارد فاج "، حيث عثر بالصدفة فى إحدى الهضاب الوعرة بمدينة " خوس "، بوسط نيجيريا على عدد من القطع الأثرية، كان أهمها " رأس قرد" من الطين المحروق، ثم وجد أنَّ السكان المحليين معهم الكثير من هذه القطع الأثرية، وقد جمع حوالي 200قطعة من " التراكوتا "، من الحفريات، أو بالشراء من السكان. وقد توصل " فاج " إلى عمر هذه القطع بطريقة الكربون المشع، وبالبحث وجد " فاج " ومعاونوه أنَّهم قد اكتشفوا حضارة غير معروفة حتى الآن، وأطلق عليها اسم " نوك "، نسبة إلى مدينة " نوك " بوسط نيجيريا، والتي اكتُشف فيها العديد من القطع الأثرية لهذه الحضارة. كما اكتشف " فاج " أيضاً في قرية " تاروجا " وهي إحدى القرى التابعة لمدينة " نوك " ثلاثة عشر فرناً بدائياً متجاورة فى صفٍّ واحد لصهر الحديد، وحولها العديد من تماثيل " التراكوتا "؛ مما يشير إلى أنَّ حضارة النوك هى أول حضارة " جنوب الصحراء الأفريقية".
وتوصل إلى صهر الحديد في الأفران باستخدام الفحم. كما وجد عدد كبير من التراكوتا حول الأفران، وربما يكون ذلك للعبادة، لتسهيل عملية صهر الحديد. وهكذا بدأ " فاج " في استنتاج بعض العلامات الرئيسة لهذه الحضارة، وأسلوب الفن والعبادة. كما نوّه " فاج " إلى أن نهب وتهريب أثار هذه الحضارة من نيجيريا، كان له أسوأ الأثر للوصول إلى المزيد من النتائج والبحوث لهذه الحضارة. وقد استكمل العديد من علماء الأنثروبولوجي أعمال البحث والتنقيب، بعد " فاج "، مثل " روب " و " برونيج "، وتوصلا إلى أعمال فنية لا تقدر بثمن لهذه الحضارة والمعروضة بمتاحف فرنسا وأمريكا، والتي تمثل المشاعر الإنسانية كافة؛ مثل الحب، والأغاني، والمرض، والثواب والعقاب في السجون، وخلافه. وذلك من خلال العديد من القطع الفنية مثل تمثال لرجل وامرأة في لحظة توافق عاطفي، وأيضًا شخصية رجل غامض ذي شارب كثيف، وفم مشقوق، وأذنين صغيرتين، ونظرة تأمل. ويعتقد أنَّ هذه الوجوه الغريبة كانت لها علاقة بالسحر.
وآخر لرجل يعزف على الطبول ويضعها بين قدميه، وهو أقرب تصوير للدلالة على طريقة عزف الموسيقى الأفريقية في هذا الوقت.

رجل وزوجته في تواصل عاطفي، نظرة تأمل لرجل من النوق، بشفاه مشقوقة!
كما تم التوصل إلى المناطق ذات الكثافة السكانية الكبيرة في إحدى التلال شمال مدينة النوك؛ وذلك كنتيجة لاكتشاف أكثر من 1700 قطعة فنية فى مساحة لا تتجاوز 450م مربع في هذا المكان، وقد يكون هذا المكان هو عاصمة الدولة. ومما يشير أيضاً إلى احتمال وجود حكومة مركزية تشمل كل أفراد شعب النوك.
إنَّه بفحص الصلصال المستخدم فى تصنيع كل أشكال التراكوتا، في أنحاء متفرقة من وسط نيجيريا، وجد أنَّه صنف واحد، وتركيبة واحدة؛ مما يشير لوجود حكومة مركزية كانت مسؤولة عن توفير كل هذه الكميات الكبيرة من الطين ونقلها إلى الأماكن المختلفة لأرض النوك. كما أنَّه على الرغم من التنوع الموضوعي بين أشكال التراكوتا إلا أنَّ لهم بعض الخصائص المشتركة، من خلال سمات أسلوبية خاصة مرتبطة بشعب النوك.

شكل يمثل وجه رجل من النوك، رجل من النوك ولحظة تأمل وتفكير.
رغم مئات الأميال التى تفصل بين هذه القطع الفنية من التراكوتا، حيث نجد دائمًا الرجال برؤوس كبيرة، وأعين على شكل ثمرة اللوز، أو مثلثة، وأنف أفريقي، وفم مفتوح غالباً بشكل دائري، وشنب كثيف، وتكون الرؤوسُ أحيانًا بشكل أسطواني، والحواجبُ واضحة شبه دائرية، والشفتان غليظتان، وغالبًا تكون الأشكال مغطاة بلمسة نهائية لامعة، وغالبًا ما يكون لديهم أغطية للرأس، وتسريحات الشعر المعقدة، والمجوهرات المزخرفة للنساء التي قد تمثّل الوضع الاجتماعي للشخصية. وكل ذلك لا يدلُّ على وجود حكومة واحدة وشعب متجانس فقط، ولكنَّه يؤكد أيضاً على وحدة المعتقدات والثقافة المشتركة التى تؤكد وجود شعب واحد كان يعيش فى هذه المنطقة.

يتضح تسريحات الشعر المعقدة، والإفراط فى الزينة بالرقبة والصدر والذراعين.
كما وجدت أيضًا أدوات الحفر الحديدية بجوار القليل من الأدوات الحجرية المشابهة للغرض نفسه، وهو ما يؤكد أنَّ أدوات الحديد لم تحل محل الأدوات الحجرية إلا بعد تطوير التكنولوجيا بما يكفي لتقديم كميات كافية من الحديد. كما يؤكد استخدام الحديد والحجر أيضاً وجهة نظر معظم علماء الآثار بأنَّ أهل غرب أفريقيا القدامى انتقلوا من الأدوات الحجرية مباشرةً إلى الحديد، دون عصر تصنيع النحاس، وهذه قفزة علمية يبدو أنَّ الكثير من أجزاء العالم الأخرى لم تحققها في هذه الحقبة، حيث لم يجد الباحثون أي أدلة تشير إلى صهر النحاس قبل صهر الحديد في أي مكان في غرب أفريقيا. وقد حير انتقال النوك من العصر الحجري إلى العصر الحديدي الباحثين، حيث إنَّ ثقافات "أوروبا الغربية وشمال أفريقيا" انتقلت إلى الحديد بعد صهر النحاس؛ وذلك لأول مرة منذ نحو ألف عام، في حين أنَّ ثقافات أخرى؛ مثل الثقافات الموجودة في بيرو، بأمريكا الجنوبية صنعت النحاس لقرون دون تطوير الحديد على الإطلاق.
⃰ التراكوتا: هي تشكيلاتٌ يشكّلها الفنان أو الصانع، وكان بعضها يتم نضجه في الشمس، و البعض الآخر يتم حرقه في حفر نارية تصل درجة حرارتها إلى 300 درجة مئوية.