مقاربة أنثروبولوجية؛ الأسطورةُ عِلمُ "الشعوب البدائيّة".

د. محمد جرادات
أنثروبولوجي وإعلامي أردني

تمهيد
لا يتفق الباحثون والمختصّون في ميدان الأساطير الواسع على تعريف الأسطورة، وهذا الأمر بالتأكيد ليس غريباً أو مفاجئاً، فكثيرٌ من المفاهيم والمصطلحات في مختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية تتسم بهذه السمة، وكذلك هو الحال فيما يتعلق بنوع من التعقيدات في تعريف الأسطورة، لأسباب عدة، من بينها ما هو متعلقٌ بحداثة مناهج دراسة الأسطورة والاختلاف حول نشأتها ورموزها، فغالبية العلوم الإنسانية تناولت الأسطورة بصيغة أو بأخرى وأخضعتها للبحث والدراسة، كما فعل علماء الآثار والأنثروبولوجيا والتاريخ، وغيرهم، حيث أصبح لكلٍّ منهم رأيٌ في تفسير الأسطورة وتعريفها، وبالتالي أصبح هناك اختلاف وتباين في تعريفها من مدرسة لأخرى؛ ومن بلد لآخر، فالمدرسة الفرنسية مثلاً ترى في الأسطورة شيئاً من التاريخ، بينما تخلط المدرسة البريطانية بين الأنثروبولوجيا والآثار في تعاملها مع الأسطورة، وهي وفقاً للباحث فراس السواح، "مغامرة العقل الأولى"، حيث جهد الإنسان دوماً في كشف حقيقة العالم والحياة والبدايات، وشغلته الغايات والنهايات، فالأسطورة بحسب السواح، "هي التفكير في القوى البدئية الفاعلة الغائبة وراء هذا المظهر المبتدي للعالم وكيفية عملها وتأثيرها، وترابطها مع عالمنا وحياتنا، وهي أسلوب في المعرفة والكشف والتوصل إلى الحقائق، ووضع نظام معقول ومفهوم للوجود، يقنع به الإنسان ويجد مكانه الحقيقي ضمنه، ودوره الفعال فيه". (السواح، 2016: 20 -21). في حين نظر إليها باحثون آخرون كجهازٍ رمزيٍّ، أو سرديٍّ، يقوم بإرسال رسالة رمزية مشحونة بكثير من الدلالات، وميّز بين الأسطورة والخرافة، خصوصاً أنَّ للأسطورة أبجدية خاصة تبدو منسية، لكن لا بدَّ من تعلّمها ومعرفتها، "فنحن نعيش في قلب مجتمع ما تزال فيه الأسطورة حيّة، وهنا يجب أن نفرق بين الأسطورة والخرافة".

قد تكون الأسطورة قصة أو حكاية رمزية تلخص عدداً من المواقف المتشابهة، وتترجم قواعد السلوك عند هذه الجماعة الاجتماعية أو تلك، وتنتمي إلى العنصر المقدس لديها، "وهي تتمكن منا رغماً عنا"؛ وغالباً ما تروي تاريخاً مقدساً، وتسرد حدثاً وقع في عصور ما، في زمان غير محدّد، وتحكي بواسطة أعمال كائنات خارقة وفوق طبيعية كيف برزت إلى الوجود حقيقة واقعة، قد تكون كل الحقيقة أو كل الواقع، مثل الكون أو العالم؛ وأبطالها كائنات خارقة يُعرفون بما حقّقوا وأنجزوا في عصر التكوين، وتعتبر تاريخاً مقدساً وحقيقياً، لأنَّها ترجع إلى حقائق دائماً؛ فالأسطورة التي تتحدث عن نشأة الكون أسطورة حقيقية يبرهن عليها وجود العالم؛ وأسطورة أصل الموت هي أيضاً حقيقية، وموت الإنسان برهان عليها، وهكذا. الأسطورة تحكي مثلاً عن الكائنات العليا وتجلّي قدراتهم، وبالتالي تصبح النموذج المثالي لجميع أوجه النشاط البشري المحمّل بالمعنى؛ حتى أوجه السلوك ومختلف الفعاليات والنشاطات الدنيوية التي يقوم بها الإنسان تجد نماذج لها في الكائنات العليا؛ والأمثلة على ذلك كثيرة؛ مثلاً تتناول إحدى القبائل الأسترالية مأثوراً مفاده أنَّ كائنين علويين قد وضعا في زمن الحلم الأساس لجميع عاداتهم وجميع أوجه السلوك، (يونس، 37:1988).

الأسطورة بصفتها واقعة حضارية بالغة التعقيد يمكن أن تُفسَّر من منظورات متعددة قد يكمل بعضها بعضاً، وهي مثلاً، تروي ذلك التاريخ المقدس والحدث الذي جرى في الزمن "البدائي"، الخيالي، ولا تتحدث إلّا عمّا قد حدث ووقع فعلاً، وأشخاص الأساطير هم كائنات عليا خارقة نعرفهم من خلال ما صنعوه في الأزمنة القوية ذات التأثير الفعال، أزمنة البدايات، وبعد تدخل تلك الكائنات العليا صار الإنسان إلى ما صار إليه اليوم، كائناً حضارياً فانياً. هكذا تحكي الأسطورة، التي تعتبر بالنسبة لكثير من الباحثين، فلسفة وفكر وعلوم الإنسان "البدائي"؛ والمحاولة الأولى للإجابة على أسئلة عامة تتعلق بالعالم، طرحها العقل البشري والإنسان منذ أقدم العصور، ولا تزال تشغله حتى الآن، وسوف تبقى كذلك كما يبدو ما دامت الحياة؛ فهي ضربٌ من السحر يسمو عليه بإعلانه حقيقة ما؛ وضرب من التعليل العقلي يسمو عليه بأنَّه يبغي إحداث الحقيقة التي يعلن عنها؛ وضرب من الفعل لا يجد تحقيقه بالفعل نفسه، ولكن عليه أن يُعلن ويوسّع شكلاً شعرياً من أشكال الحقيقة، فتبدو الأسطورة وكأنَّها أقرب ما تكون إلى السحر، وشعر وتعليل وفعل طقسيّ لا يخلو من المعرفة. (فرانكفورت وآخرون؛ 13:1960).

• في أنواع الأساطير ومعانيها
ينظر الاتجاه الطبيعي إلى الأسطورة كتعبيرٍ رمزيٍّ يجري بلغة حسية لظواهر الطبيعة، حيث اعتبرت الأسطورة في نظر بعض الباحثين تعبيراً رمزياً عن حضارات الشرق الأدنى القديم، واعتبرها بعضهم تعبيراً رمزياً عن البنى الاجتماعية الحضارية المعبرة عن الفكر الجماعي والأساليب "البدائية"، حيث تعمل الأساطير هنا بمضامينها الروحية على دعم وترسيخ النظام الاجتماعي، باعتبار أنَّ هناك ترابطاً بين النظام الديني والميثولوجيا، لكن الأنثروبولوجيين مثلاً رفضوا مثل هذا التفسير والاتجاه لأنَّه أذاب وقلّص الوظائف المتعددة للدين والأساطير. وهناك من يعتقد بأنَّ الأسطورة تعبّر عن الحاجات النفسية والتطلعات التي أحسَّ بها الإنسان "البدائي". وهناك من يؤكّد على الصلة الوثيقة بين الأساطير والطقوس، حيث تنطوي الأسطورة هنا على التبرير الرمزي والدرامي والمأساوي عن الأفعال والنشاطات الطقسية التي مارسها الإنسان "القديم". ويرى الاتجاه الأيديولوجي في الأسطورة سجلاً للنظم الأيديولوجية، خصوصاً ما يتصل معها بالحضارات الأوروبية الهندية؛ حيث يعتقد أصحاب هذا الاتجاه أنَّ الميثولوجيا بما تتمتع به من سيادة أيديولوجية تنطوي على ثلاث وظائف متداخلة هي الوظيفة المتضمنة للأبعاد السحرية والقضائية والوظيفة المرتبطة بالتنظيم الحربي والدفاعي والوظيفة الإنتاجية الاقتصادية. وهناك من يعتبر الأسطورة فكر الإنسان "البدائي" ومغامرة العقل الأولى، كما يقول فراس سواح؛ فبعد أنَّ رأى الإنسان "البدائي" النجوم وحركة الكواكب في السماء وأدهشته تضاريس الأرض ونباتها وحيواناتها وأرعبته الصواعق والرعود والبرق وداهمته الأعاصير والزلازل والبراكين، ولاحقته الضواري ورأى الموت وعاين الحياة وحيرته الأحلام وداهمته ألغاز في الخارج والداخل؛ وغموض يحيط به، وكل المتغيرات والتطوّرات اللاحقة قادته إلى التأمل وبدأ بطرح الأسئلة العديدة: لماذا نموت؟ ولماذا نعيش؟ ولماذا خُلق الكون، ولماذا...؟. حينها كان العقل صفحة بيضاء؛ عضلة لم تألف الحركة خارج نطاق الغريزة وبعد حدود ردود الفعل، ومن أدواته البسيطة كان عليه أن يبدأ مغامرة كبرى مع الكون وقفزة أولى نحو المعرفة؛ فكانت الأسطورة. وعندما يئس الإنسان من السحر كانت الأسطورة له كل شيء؛ نظاماً فكرياً متكاملاً استوعب قلق الإنسان الوجودي وتوقه الأبدي لكشف الغوامض، فكانت الأسطورة ذاكرة الجماعة التي تحفظ قيمتها وعاداتها وطقوسها وحكمتها وسلوكها؛ ما جعلها مغامرة فكرية جريئة للإنسان "البدائي" تهدف إلى كشف الحقائق وفتح آفاق المعرفة (سواح، 1989: 18-21). وهناك من يعتبر الأسطورة تاريخاً؛ وتتضمن هذه الفكرة مسألتين أساسيتين: الأولى نظرية مرتبطة بانقسام المادة الأسطورية إلى نوعين مختلفين هما قصص مفكّكة توضع واحدة تلو الأخرى من دون أي علاقة واضحة بينها، وقصص متجانسة بشكل كبير تنقسم إلى فصول يتبع واحدها الآخر في تسلسلٍ منطقيٍّ تام، والأسطورة باعتبارها تاريخاً ليست نتاج الخيال، بل ترجمة لملاحظات واقعية ورصد لحوادث جارية، وعبرها انتقلت إلينا تجارب الأولين وخبراتهم وتعود في أصولها إلى أزمان سحيقة سابقة للتاريخ المكتوب، حيث كانت ذاكرة الإنسان قبل الكتابة نشطة وحيوية، (شتراوس، 1985: 33-34). ومن هنا يبقى السؤال: أين تنتهي الميثولوجيا وأين يبدأ التاريخ؟ وهذه مشكلة مهمّة، حيث لدينا حالة تاريخ من دون ملفات ووثائق مكتوبة، بل مجرد تراث لفظي يسود الزعم بأنَّه التاريخ نفسه. فلو جربنا مقارنة بين هذين الاتجاهين لوجدنا حالات تشابه وحالات افتراق. وهناك من ينظر إلى الأسطورة باعتبارها فناً أدبياً وحكمة، وهي هنا عبارة عن تراكم لنتاج الفكر الإنساني المبدع في مجال الأدب، فالأمثال التي يرويها "حكيم القوم" ستُروى مراّت عديدة وسوف يضيف لها الراوي بعض عناصر نابعة من خياله الخاص ومن ظروف اجتماعية مستجدة، وعندما تأخذ القصة شكلها المكتمل تكون عبّرت عن طابع فني وفكري وأدبي لشعب من الشعوب، ويمتلك الشعب على ضوء ذلك "نظريات في السلوك والأخلاق والتوجيه والضبط الاجتماعي.
تحدّث جيمس فريزر عن اتّجاه علاقة الأسطورة بالطقس، والفكرة هنا تقول بأنَّ الأسطورة استمدت من الطقوس، فبعد مرور زمن طويل على ممارسة طقس ما وفقدان الاتصال مع الأجيال التي أسسته، يبدو الطقس خالياً من المعنى والسبب والغاية، وتُخلق الحاجة لإعطاء تفسير وتبرير له، وهنا تأتي الأسطورة لتبرير طقس مبجل قديم لا يريد أصحابه نبذه والتخلي عنه، (سواح، 1989: 14-15). واعتقد "برونيسلاف مالينوفسكي" أنَّ الأسطورة لم تظهر استجابة لدافع المعرفة والبحث، ولا علاقة لها بالطقس أو البواعث النفسية الكامنة، بل تنتمي للعالم الواقعي وتهدف لتحقيق نهاية عملية، فهي تُروى لترسيخ عادات قبلية معينة أو لتدعيم سيطرة عشيرة أو أسرة ما أو نظام اجتماعي ما، لذلك هي في هذه الحالة عملية في نشأتها وغايتها. وربط "فرويد" الأسطورة بالحلم حيث رأى تشابهاً في آلية العمل بينهما، وتشابه الرموز لكليهما، فهما نتاج العمليات النفسية اللاشعورية. ففي الأسطورة والحلم تقع الأحداث مرة خارج قيود وحدود الزمان والمكان، وبالتالي فإنَّه على ضوء هذا التعدّد والتنوّع في منطلقات واتجاهات البحث الخاص بالأساطير يمكن الإشارة إلى أنواع عديدة للأسطورة منها: أساطير الظواهر الطبيعية وأساطير الحيوانات، وأساطير النباتات، والأساطير الدينية، وأساطير الأصل والحياة، وأساطير الجنس، وأساطير الصحة، وأساطير الطقوس والعادات، وغيرها الكثير. ويتفق الباحثون أيضاً على وجود تقسيم آخر لأنماط وأنواع الأساطير تختلف فيما بينها في الهدف والسبب؛ ومن أهمّها أسطورة الأصل التي تعتبر الأسطورة السببية التكوينية، وتنحصر وظيفتها في إعطاء تفسير خيالي لأصل مادة ما أو اسم ما أو عادة محدّدة، وهناك أيضاً أسطورة الطقس التي يُعتقد بأنَّها الأقدم بين الأساطير، وتتولى الأسطورة هنا سرد قصة أو تصف المواقف وتجسّدها، أمَّا "أسطورة الصيت" فتقوم على تقديم هالة من الغموض والإعجاز حول بطل شعبي. وأسطورة العبادة التي تجري في معابد محلية متعددة وتقدم القرابين هنا بواسطة الكهنة. أمَّا أسطورة البعث فهي التي تقول ببعث الإنسان بعد موته مضيفة للبعث هالة من الغرائب والحوادث والمتخيلات، (باش؛ 13:1988). ومع كل هذا فإنَّ الأساطير اعتبرت من قبل كثيرين دليلاً مهمّاً يسلّط الضوء على الحضارات "البدائية" ويكشف عن تاريخها.

• بين القصة "الحقيقية" و "الزائفة"
تميّز الجماعات الاجتماعية التي ما تزال الأسطورة فيها حيّة، بين القصص "الحقيقية" بمعنى الأساطير، وبين القصص "الزائفة"، بمعنى الحكايات والخرافات والحدوتات؛ فمثلاً تميّز قبائل البوني بين الحقيقي والزائف في القصص ويضعون القصص التي تتحدث عن أصول العالم في مرتبة القصة الحقيقية؛ وهي قصص يكون أشخاصها كائنات إلهية خارقة سماوية أو غيبية. ويأتي بعد ذلك في المرتبة الحكايات التي تروي المغامرات العجيبة والمذهلة التي قام بها البطل، وغالباً ما يكون هذا البطل فتى متواضع النشأة ما يلبث أن يصبح مخلّصاً لشعبه ومنقذاً له من مختلف ويلات الفقر والجحيم والجوع والذل ومختلف منغصات الحياة. ويجترح مآثر أخرى تتميز بالنبل والكرم. ثم تأتي القصص التي تتعلق بالسحر وكيف اكتسب هذا الساحر أو ذاك قواه الخارقة؛ وكيف نشأت جمعية الكهانة والعرافة هذه أو تلك "الجمعية الشامانية"، وهذه جميعها تُعتبر قصصاً حقيقية. بينما القصص الزائفة فهي تلك التي تروي المغامرات والأعمال الأخرى والمؤذية عموماً. في القصص الحقيقية "الأساطير" تكون علاقتنا بالمقدس وبما يفوق الأشياء؛ أمَّا في القصص الزائفة فتكون بمضمون دنيوي. وفي الأسطورة عناصر واضحة من القصة والحكاية، فهي بنية قصصية تعتمد عناصر الإثارة والتشويق والفكرة والشخوص والأحداث، وتتعقد فيها الأحداث وتتأزم ثم تُفك بواسطة البطل المخلَّص أو المساعدين له، وعموماً تتضمن الأسطورةُ والخرافةُ بنيتين مهمّتين من تراث الشعوب "القديمة والحديثة" وترتبطان بالطقوس والمعتقدات عند تلك الشعوب وتتداخلان مع التاريخ والأنثروبولوجيا، لذلك يصعب الفصل بينهما، فكلاهما بنية ميثولوجية تحدّدت معرفيّاً منذ بداية تشكّل المجتمعات البشرية في حضارتها الأولى، فالميثولوجيا بمعنى الخرافة والأسطورة فهي عبارة عن نَص أو وثيقة من مجموعة من الأساطير والخرافات المتصلة بالآلهة وأنصاف الآلهة والأبطال الخرافيين والخارقين عن شعب ما أو عرق في مراحل التطور الأولى. (إلياد، 1991:19).

• في دور الأسطورة ووظيفتها.
تزخر حياة الجماعات الاجتماعية "البدائية" بالعناصر الغيبية والأساطير والسحرية والروحية بصورة عامة، ودفع طغيان الطابع الأسطوري والغيبي على الفكر والسلوك "البدائي" بعض المفكرين إلى الاعتقاد بأنَّ الفكر "البدائي" هو فكرٌ لا منطقي، أو أنَّه يمثّل مرحلة ما قبل المنطق. ويشير بعض الأنثروبولوجيين إلى أن الجانبين الأسطوري والديني يرتبطان ببعضهما ارتباطاً وثيقاً لا يُسمح بفصلهما عن بعضهما، وناقش أوائل الأنثروبولوجيين مثلاً النظم العقائدية "البدائية" على أساس تكامل عناصر الطقوس والعقائد الدينية والسحرية والأسطورية وحدّدوا منطلقاتهم على أساس اختيار الأساطير كنقطة البدء لفهم الحياة "البدائية" كما فعل "باخوفن"، بينما ركّز آخرون على الدين كمحور لدراساتهم مثل تايلور، أو على السحر مثل جيمس فريزر. ويتفق الباحثون عموماً على أنَّ القصص أو الحكايات الأسطورية تختلف عن باقي الحكايات باعتبار الأساطير تُعبّر عن وعي الجماعات الأساسي لذاتها، الأمر الذي يجعلها تؤدي دور الميثاق الذي ترتكز عليه الحياة الثقافية والاجتماعية للجماعات، كما أنَّ الأساطير تعكس بناء الحياة الاجتماعية وعلاقته بعالم الآلهة والقوى الغيبية، فوظيفة الأساطير الأساسية تعني أنَّها تُعّبر بصورة دراماتيكية عميقة عن أيديولوجيا الجماعات البشرية "البدائية" والتقليدية البسيطة عادة، والتي تحيا الجماعة معتمدة عليها، وبهذا تدفع الأساطير تلك الجماعات إلى التمسك بقيمها ومعاييرها ومثلها العليا التي تسعى لتحقيقها من جيل إلى آخر. وتُعبّر الأسطورة أيضاً عن وجود الجماعة ذاته وبنائها وديمومتها الحضارية والثقافية، كما تُجسِّد عناصر هذا البناء وعلاقاته، وتعمل كضوابط ومؤشرات لدعم وترسيخ القواعد والممارسات التقليدية التي يتعرض المجتمع للتحلل والتفكك بدونه (النوري، 1973:217).
أشار بعضُ الأنثروبولوجيين على ضوء أبحاثهم ودراساتهم الميدانية إلى كيفية عمل الأساطير بصورة من الترابط والتأثير المتبادل، حيث تلتحم الأساطير بكل الفعاليات التجريدية في المجتمع المعين، وأكدّت الأبحاث على بطلان التفسيرات الأحادية التي تعزل الأسطورة بكل الفعاليات التجريدية في المجتمع المعين، وأكّدت الأبحاثُ على بطلان التفسيرات الأحادية التي تعزل الأسطورة عن البناء الاجتماعي الذي تعمل فيه وتعالجه من زاوية واحدة؛ وتعتبر الأساطير عناصر رمزية تمثّل الأنماط السائدة في الحضارة التي توجد فيها؛ فكثيرٌ من الباحثين، لا يُشجّع على تطبيق تفسير واحد على ظاهرة الأسطورة في جميع أنحاء العالم. أكثر الجدل المتعلق بالأساطير دار حول تيارين؛ الأول يشير إلى أنَّ الأساطير هي التي توجد الطقوس وتحدّدها، بينما يشير الآخر إلى أن الطقوس هي المصدر الأولي الذي تنبع منه الأساطير. لكن من الصعب إطلاق التعميم بأنَّ الطقوس هي السبب والأساطير هي النتيجة أو العكس؛ نظراً لعدم تماثل الظروف الحضارية في المجتمعات؛ وقد يكون الأكثر دقة هو التأكيد على العلاقة والتأثير المتبادل فيما بين الأساطير والطقوس. (النوري؛ 214:1973). فالأساطير تحكي لنا أصل العالم والحيوان والنبات والإنسان ومختلف الحوادث "البدائية" التي على أثرها أصبح الإنسان على ما هو عليه اليوم؛ بمعنى كائناً فانياً ذكراً وأنثى وعضواً في جماعة اجتماعية معينة مجبوراً على العمل لكي يعيش؛ ويعمل وفق قواعد معينة؛ وإن كان العالم موجوداً وكان الإنسان موجوداً فلأن الكائنات العليا أبدعت عن فعالية مبدعة في "زمن البدايات". إنَّ معرفة الأساطير تعني فيما تعنيه تعلّم سر أصل الأشياء؛ بمعنى لا يتعلم المرء كيف جاءت الأشياء إلى الوجود وحسب؛ إنَّما يتعلّم أين يجدها، وكيف يجعلها تعود إلى الظهور عندما تختفي. (إلياد؛ 1991: 28).
• الأسطورةُ ميثاقٌ لفعلٍ اجتماعيّ
جذبت دراسة الأساطير الكثير من الباحثين، وكانت دوماً تلعب أدواراً فكرية واجتماعية وثقافية ومعرفية في مختلف الحضارات "القديمة"، وبقي مصطلح الأسطورة يغطي مجالاً واسعاً في بحوث ودراسات كتّاب الأنثروبولوجيا والفلكلور وعلم الاجتماع والتحليل النفسي والفنون الجميلة. وينظر بعض الكُتّاب والباحثين لميدان الأسطورة ودراستها باعتباره حقلاً مضاداً ومعاكساً لدراسة التاريخ والعلم والفلسفة والفكر الموضوعي بصورة عامة؛ لدرجة أنَّ مصطلح الأسطورة أصبح في عصر اليقظة الفكرية التي عقبت عصور الظلام الأوروبية مصطلحاً معيباً وشائناً في مدلولاته ومعانيه، باعتبار أنَّ الأسطورة ضربٌ من الخيال والفكر غير العلمي وغير الواقعي؛ غير أنَّ هذا الموقف السلبي الرافض للأسطورة تحوّل مع انتعاش الحركة الرومانتيكية في أوروبا؛ ومع زيادة التأكيد على الأساطير في كتابات العديد من الباحثين والمهتمين والمشاهير أمثال كوليريدج ونيتشه وامبرسون وغيرهم، أصبح مفهوم الأسطورة مسيطراً في مجال الأدب، وصار يُنظر إليه ليس كمفهوم مضاد للواقع أو مناقض للموضوعية العلمية والتاريخية؛ بل مكملاً لها. (النوري، 1988:18).
لعلَّ المهمة التي تطرحها الأسطورة لها قيمتها ومكانتها، خصوصاً أنَّنا محاطون باستمرار بالأسرار ومدفوعون بغريزتنا كي نكشف الغطاء الذي يسترها، على أمل أن نتمكن ذات مرة من اكتشاف السر الأكبر الذي لم تتمكن أجيال عديدة برغم ما بذلته من جهد ومحاولات من اكتشافه؛ وحتى يكون تاريخ الفلسفة والعلوم كاملاً، لا بدَّ من التأكيد على عرض الأساطير لما لها من أهمية باعتبارها وثائق عن التفكير الإنساني عندما كان في مرحلته "البدائية"؛ فهي تنير لنا طريق التطوّر الفكري الذي سار عليه الجنس البشري، وبالتأكيد ما زال الكثير من العمل المطلوب لأجل جمع الأساطير ومقارنتها وقراءتها وتفسيرها قبل أن نتمكن من تصنيف كل أساطير العالم وتبويبها في مجموعة كاملة "إذا استطعنا الاستمرار في الحلم والعمل" حيث نستطيع من خلال مثل هذا العرض الطموح لحفريات الفكر الإنساني، كشف النقاب عن مرحلة "بدائية" من مراحل مسيرة فكر البشرية منذ بداياته. (فريزر، 1999: 5-8).

منذ منتصف القرن الماضي أسّس العلماء منهجاً جديداً في دراسة الأسطورة يختلف عن المرحلة التي سبقتها، حيث تم العمل على تجاوز مسألة التعامل مع الأسطورة بمفهومها العادي والتقليدي، بمعنى كونها "حدوتة" وتخيلًا وتلفيقاً، إلى مستوى آخر من الفهم لها؛ حيث حاول العلماء فهمها كما كانت مفهومة في المجتمعات "البدائية" حينما كانت الأسطورة تدلُّ على "تاريخ حقيقي" وكانت نموذجاً يُحتذى وقصة حافلة بالمعنى، يُنظر إليها بأعلى درجات الاعتبار لما تتميز به من طابع قدسي. وهذه تعتبر قيمة دلالية جديدة تُمنح للأسطورة، وليس كما هو دارج في استعمالها بمعنى التخيّل والوهم والمأثور والمقدس والوحي الأولي والنموذج المثالي، وليس كما فعل الإغريق القدامى من وضع الأسطورة "ميثوس" في حالة من التضاد للعقل "لوغوس" وانتهت بها الأمور للدلالة على كل ما ليس له وجود حقيقي؛ وبالتالي من المهم جداً العودة إلى المجتمعات التي تكون أو كانت فيها الأسطورة حتى عهد قريب حاضرة وحيّة وفاعلة، بمعنى أنَّها تتيح نماذج للسلوك البشري وتضفي على الوجود قيمة ومعنى.
على أيِّ حال يبدو أنَّ تحديد معنى الأسطورة ومفهومها أصبح اليوم أكثر صعوبة وتعقيداً بسبب الاتساع في المعنى الذي اكتسبه؛ حيث نسمع مثلاً عن شعراء ورسّامين يسعون إلى تحقيق الطابع الأسطوري في أعمالهم؛ كما نسمع أو نقرأ أيضاً عن معجزة تقدم هذا أو ذاك في مجالات العمران والتعليم والصناعة وغيرها من ميادين الحياة. ويبدو أنَّ البعض يعتقد أنَّ الإنسان اليوم لا يخلو تفكيره من النزعة الأسطورية؛ إلا أنَّ هذا التفكير أصبح سطحياً من الوجهة الميثولوجية بالقياس لفكر الأقدمين، ويرى بعض المفسرين أن "تحديث" هذا العصر واكتساح التكنولوجيا لمختلف مرافق حياة الإنسان دفعت الناس إلى التفكير بسد الفراغ الناشئ عن عدم إجابة الوسائل التقنية للتساؤلات الناشئة عن التعقيد؛ فكانت الوسيلة لذلك اللجوء إلى الأساطير الفجّة التي تروّج في الأوساط الاجتماعية في كثير من المجتمعات في عصرنا هذا؛ فبعض هذه الأساطير تتحدث عن صور حياة المستقبل البعيد التي يتطلع إليها البشر وسط أزمات حياة هذا العصر؛ فعلى الرغم من اعتبار الأساطير جزءاً من الفكر الخرافي غير العلمي أو غير الموضوعي، فإنَّ الفكر الأسطوري والمواقف الأسطورية بشكل أو بآخر لم تتلاش على الرغم من اتساع سيطرة العلم والتكنولوجيا على حياة مجتمعات هذا العصر. (النوري، 1973: 158).
يعتقد "مالينوفسكي" بأنَّه لفهم الأساطير لا بدَّ من فهم المحيط الاجتماعي الذي يجعلها جزءاً لا يتجزأ منه، والتي غالباً ما تختفي في ذلك المحيط، وبالتالي فإنَّ الأساطير تُعتبر بمثابة ميثاق ودستور أو تبرير وتسويغ للتنظيمات الاجتماعية الموجودة اليوم. وضرب مثالاً على ذلك أساطير الأصل في جزر تروبرياند؛ فكلُّ عضو في أيِّ جماعةٍ اجتماعية قرابية هناك يعرف ويميّز ويعيد رواية قصة المكان الذي خرج منه أجداده وأسلافه وظهروا من أعماق الأرض، وأساطير الأصل هذه منظّمة ومرتبة في زمن ما، "قبل بداية التاريخ". وكل واحد من هؤلاء الأسلاف جاء حاملاً مجموعة منظمة ومتميزة من الصفات التي تتضمن مواضيع خاصة ومعرفة خاصة ومهارات متنوعة عديدة، وغير ذلك، وعندما اقترب الأسلاف من سطح الأرض امتلك كلُّ واحدٍ منهم قطعة من الأرض، وهذه هي الطريقة التي يدير بها أصحاب الأرض اليوم مسألة امتلاكهم قطعة الأرض هذه أو تلك، حيث خرج منها أجدادهم وأسلافهم. أمَّا "ليفي شتراوس" فأكّد على أنَّ الأساطير تمتلك بنى كاملة المعنى؛ فللأسطورة معنى وبناء لا بد من الاهتمام بهما، حيث تستحق الأساطير الدراسة العلمية المعمقة والتحليل المتميز، واقترح مثلاً أنَّه يجب على الأسطورة أن تقدم توضيحات حول كيفية تفسيرها للمواضيع الموسيقية؛ ففي القطعة الموسيقية يظهر المعنى ليس فقط من اتساق الأصوات واللحن (قراءة لأعلى)، ولكن أيضاً من الانسجام (قراءة لأعلى ولأسفل) بمعنى أنَّ بنية القطعة الموسيقية والطريقة التي من خلالها يسهم كل خط في الموسيقى في اللحن والصوت الكلي ضمن حالة من الارتباط بين الخطوط الأولى وهذا كله يحمل المعنى، فتصبح الأسطورة أداة مفهومية، أي أنَّها ذات علاقة بالمفاهيم؛ واعتبر شتراوس الأساطير بمثابة أدوات للتغلب على التناقضات المنطقية التي لا يمكن قهرها بطريقة أو أداة أخرى؛ فهي مكوّنة من وحدات أصغر (تعبيرات موجزة وكلمات وجمل وعلاقات) والتي تكون منظمة بطرق تقدم لنا حكاية وقصة (تتضمن لحناً واتساقاً للأصوات) متماسكة وتتضمن ترابطاً منطقياً وتماسكاً بنيوياً منسجماً، وأكّد على أنَّ البنية المقابلة والمعارضة للأسطورة تقدّم وتعرض لنا كيفية عمل الدماغ البشري وأسلوبه في التعامل مع الخبرات؛ وربما تصف الأسطورة رحلة العصفور الطائر من الأرض "بيت ومكان الحياة" إلى السماء "بيت ومكان الموت"؛ فالأسطورةُ لا تتحدث عن العالم كما هو، بل تصف العالم كما كان، وحسب شتراوس فإنَّ الأساطير مهمّة وجيدة لأجل التفكير، فالتفكير الأسطوري يمكن أن يقدّم لنا عدة طرق للحياة خلال مسيرة حياتنا (Schultz &Mayfield,1995:37) لذلك يجب أن نأخذ الأسطورة بعين الاعتبار، لأنَّها تكشفُ عن حقيقةٍ مهمّة، وإن تعذر إثباتها؛ فهي "حقيقة ميتافيزيقية"، وتتجلّى الناحية اللاعقلية في الأسطورة بوجهٍ خاصٍ عندما نتذكّر أنَّ الأقدمين لم يكتفوا بسرد أساطيرهم كقصصٍ تحمل الأخبار، بل مثّلوها روائيّاً قائلين إنَّ فيها قوّة خاصة تتنشط بالإلقاء الجهوريّ التفاعليّ.

 


المراجع

1- إلياد، مرسيا، مظاهر الأسطورة. (ترجمة نهاد خياطة)، دار كنعان للدراسات والنشر، دمشق 1991م.
2- الباش، حسن، الميثولوجيا الكنعانية والاغتصاب التوراتي. دار الجليل للطباعة والنشر والتوزيع، دمشق 1988م.
3- سواح، فراس، الأعمال الكاملة 1، مغامرة العقل الأولى. دار التكوين للتأليف والترجمة والنشر، دمشق، 2016.
4- شتراوس، كلود ليفي، الأسطورة والمعنى. (ترجمة صبحي الحديدي)، دار الحوار للنشر والتوزيع، اللاذقية 1985م.
5- فرانكفورت وآخرون، ما قبل الفلسفة الإنسان في مغامرته الفكرية الأولى. (ترجمة جبرا إبراهيم جبرا)، دار مكتبة الحياة، بغداد 1960م.
6- فريزر، جيمس، أساطير في أصل النار. (ترجمة يوسف شلب الشام)، دار الكندي، 1988م.
7- النوري، قيس، الأساطير وعلم الأجناس. جامعة بغداد، 1988م.
8- النوري، قيس، طبيعة المجتمع البشري في ضوء الأنثروبولوجيا، جامعة بغداد، 1973م.
9- يونس، محمد عبد الرحمن، مفهوم الأسطورة وبعض الاتجاهات الفكرية في تفسيرها؛ الفكر العربي. عدد 91، 1988م.
10- Emily, A.Schultz & Robert H. Lavenda Mayfield. Cultural Anthropology.Publishing Company, London, 1995.