استراتيجياتُ الانتهاك وإعادةُ تأطير الآخر في رواية "غرفة الصين" لسانجيف ساهوتا"

بسمة علاء الدين
كاتبة وباحثة مصرية
"Basma Alaa Aldean" <basmaalaa8484@gmail.com>
يكشف "سانجيف ساهوتا" في روايته الجديدة "غرفة الصين " التي رُشّحت لجائزة بوكر 2021، عن سوسيولوجيا فارقة تترجم انزياح البشر عن المبادئ والأخلاق، وكيف تسيطر القواعد الاجتماعية والبيئية على السلوك العام للأسرة عبر الأجيال؛ في هذا السرد الذي يربط بين الموضوعات المشتركة للهُوية، والوقوع في شرك هياكل السلطة الخانقة وسجنها، برمزية عودة الوعي الجمعي من حضور شخصياتها إلى الدلالة الزمنية واستدعاء الذاكرة.
ومع ذلك فإنَّ جوهر المقاومة والمرونة الموجودة في الروح البشرية تشكل الهُوية الشخصية والاستقلال، ويركّز الموضوع الرئيس للكتاب الذي تم وضعه في عام 1929، عن الاضطهاد في الهند التي تقاوم بشكل متزايد الحكم البريطاني، التي درجنا إلى تحليل إطارها السردي الممثل في صورة عبثية للاضطهاد.
السردُ منقسمٌ بالتناوب بين الهند وبريطانيا، يتحكم فيه الحضور الواعي لذات المؤلف، الذي يظهر بنفسه في مظاهر مختلفة. تشير "غرفة الصين" إلى غرفة في الجزء الخلفي من منزل قروي في البنجاب "الهند"، قصة واحدة تدور أحداثها في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، تحكي قصة "مهيار كور" الفتاة الأمّيّة التي تزوجت وعمرها خمسة عشر عاماً من رجل أكثر ثراءً، إلى "جيت"، حيث احتُفظ بها مثل المتاع في مزرعة عائلته، يتقاسم المزرعة مع والدته المستبدة "ماي" وشقيقيه المتزوجين.
رتبت حماتها المستقبلية لتزويج أبنائها الثلاثة في حفل واحد، حريصة على ضبط نغمة ديكتاتورية، لن تخبر "ماي" العرائس بمن يتزوجن، يتطلب الزواج عقيدة العائلة السيخية أن تكون العروس مغطاة من الرأس إلى القدم بالعباءات والستائر الذهبية، ويرتدي الرجال "سترة من القطيفة البيضاء" تحجب وجوههم.
في الأسابيع التي أعقبت الحفل، أثارت "ماي" الارتباك عندما أمرت الزوجات الصغيرات بقضاء معظم الساعات في "غرفة الصين" المزدحمة بالأسرة، حيث تقضي "مهيار" وأختا زوجها الكثير من حياتهما المحدودة، والتي سُميت بهذا الاسم نسبة لألواح الصفصاف القديمة على الرفوف. تتميز قصة "مهيار" بالفلكلور المتعصب مقيدة بجنسها كامرأة، إنَّها لا تعرف شيئًا عن العالم الأكبر، ما تعرفه هو أنَّ النساء ليس لديهن قوّة ولا خيار ولا وكالة، تم تزويج الثلاث نساء؛ "مهيار وهاربانس وجورلين"، من غرباء عن بعضهم البعض، من أبناء "ماي" الثلاثة؛ "جيت، موهان، سوراج" يقضي الأخوة السيخ وقتهم في الحقول في العمل أو في أي مكان آخر، لكن النساء الثلاث محصورات إلى حدٍّ كبير في غرفة الخزف، حيث يعدون الطعام وينامون، يرقدون بجانب بعضهم البعض على خطين متوازيين. تتحكم "ماي" في كل تفاصيل حياة أبنائها وزوجاتهم، وتدير المنزل مثل سيدة بيت دعارة، مع اهتمام مسبق بالنشاط الجنسي للسكان وحصة سيدة الأعمال في إنجاب ورثة ذكور.
عندما يرغب أحد الأزواج في النوم مع زوجته، تأمر" ماي" المرأة ذات الصلة بالدخول إلى غرفة بلا نوافذ في الجزء الخلفي من المزرعة، وهي نوع من غرفة الجنس المخصّصة؛ نظرًا لأنَّ النساء محجبات ويلقمن أعينهن في حضور أزواجهن؛ لأنهنَّ لا يمارسن الحب إلا في الظلام، فلا أحد يستطيع تحديد أي شقيق هو زوجها.. النساء فضوليات بالطبع، لكن الأخوة يبدون متشابهين؛ البناء الجسدي الصغير نفسه، بأكتاف ضيقة وأعين جادة؛ وجوه جادة لا تحمل أي ارتخاء، سمات تتبع القواعد نفسها، الثلاثة ملتحون بشكل متساوٍ، وشعرهم قصير ومشدود، وطوال اليوم يرتدون عمائم فضفاضة مقطوعة من غلاف الزعفران نفسه.
تحدّد مهيار الأخ الخطأ "سوراج" كزوجٍ لها، "سوراج" ليس لديه أي مشكلة، بالنسبة إليه الجنس الاستغلالي يتعمق في العاطفة، تجد "مهيار" الحب في النهاية، ولكن ليس مع زوجها "جيت"، يلتقي العشاق في حظيرة قريبة في الحقول، حيث يمكنهم الهروب من مراقبة "ماي"، هذه المشاهد محفوفة بالمخاطر الواضحة، التهديد بالتعرض والعقاب قريب، يعرف "سوراج" أنَّه إذا علم أحد فإنَّ حياة "مهيار" ستنتهي فعليًّا، لكن هذه أيضًا لحظات الخلاص بالنسبة لهم، لغة للتعبير عن رغبتها في الرجل الذي تعتقد أنَّه زوجها، يتخيل "سوراج" أنَّ العالم يتغير، وأنَّهما قد يكونا قادرين على الفرار من المزرعة إلى مدينة كبيرة.
في ظلِّ الحكم الاستعماري الوحشي الذي يهدد بإغراق الأسرة والبلد في الفوضى - يقوم الإنجليز بابتزاز ملاك الأراضي الهنود، وتقوم ميليشيات "الهند " بتجنيد الجنود، حتى يضع العشاق خطة لهروبهما.

تتشابك قصة "مهيار" مع قصة "أخف" حفيدها بعد سبعين عامًا، يتلاقى كلا الخطين في موضوعات الهروب والسجن، سواء كان ذلك حرفيًّا أو اجتماعيًّا ونفسيًّا، ليصل الراوي الشاب المعزول إلى المناطق الريفية النائية في الهند، حيث عاشت جدته الكبرى وهو في الثامنة عشر من عمره، قرية" كالا سانغيان" في البنجاب، على بعد اثنتي عشرة ساعة بالسيارة من أقرب مدينة قد يسمع بها أي شخص، المزرعة التي حُبست فيها "مهيار" والمنزل الذي أصبح الآن مهجوراً، يحاول البالغ من العمر ثمانية عشر عامًا التخلص من عادة "الهيروين" المدمرة، وعندها يقع في حب امرأة أكبر سنًا منه "راديكا" وهي طبيبة مشغولة تعمل وسط فقر مدقع، لكنَّها تقضي إلى حدٍّ ما ساعات لا حصر لها وهي تنغمس في العلاقة مع المراهق المدلل.
ينتهز الراوي الفرصة لمكافحة إدمانه بزيارة عمه في البنجاب قبل أن يبدأ دراسته في إحدى جامعات لندن، يذهب محملاً بمجموعة مختارة من الكتب، يحوم حول القصة بأكملها، يلقي نظرة خاطفة على الأحداث وتفاصيلها في ومضات، ليترك القارئ يرسم خطًا يقوده من جيل إلى جيل، وذلك بوجود عنصر من عناصر فيلم وثائقي عن الرواية. كيف قضت "مهيار" حياتها وكيف يعيش حفيدها حياته بعد عودته إلى المنزل، الكثير يربط بين الفترتين الزمنيتين معًا، الرواية هنا توحي برمزية عودة الوعي الجمعي من حضور شخصياتها إلى الدلالة الزمنية واستدعاء الذاكرة لتجعل من السرد الأدبي حدثاً حقيقيًّا، ليُبرز التوتر السردي بالإضافة إلى التأثر، حيث نتعلم تدريجيًّا حقيقة نضال "مهيار" لتحقيق الاستقلال وما تريده.

تبني الرواية بشكل جميل جسرًا عبر الزمن يربط بين اثنين من أفراد الأسرة من أجيال مختلفة تمامًا، يكمن اتصالهم المادي الوحيد في التصوير الفوتوغرافي والذي يتميّز أيضًا بجدول زمني مزدوج، حيث يُكشف عن القرائن تدريجيًّا في القصص المتناوبة لإظهار سرد أكثر تعقيدًا ودقة للتاريخ، إنَّها تقنية سرد مؤثرة ولكن من الصعب تحقيق التوازن بين الحسابات بحيث تشعر بالتأثير نفسه لاستعادة الأمكنة والربط بقصص الماضي. ومع ذلك، فإنَّ هذا الشكل من رواية القصص تجعل القارئ يفكر بطريقة أكثر تعقيدًا وديناميكية حول الفهم المحدود للأسلاف، ومدى ضآلة المعرفة والتحديات المعقدة التي يواجهونها في حياتهم.
لذلك فإنَّ الراوي في "غرفة الصين" لديه مثل هذا التوق القوي لكشف الحقيقة والتواصل مع النسب المفقودة في صفحات التاريخ الغامضة.. القصتان متناقضتان تمامًا، وربما بدقة شديدة: الزواج الحديث المرتب مقترن بالزواج الأقدم، الجهود التطوعية للشباب في المزرعة تلقي نظرة على النسخة السابقة المفروضة، يبدو أنَّ نية "ساهوتا" الروائية هنا علاجيّة في نهاية المطاف، يتناوب بين التدبير الديني والعلماني من جهة، وهناك التشدد والمنع والعقاب الشديد من ناحية أخرى، هناك التنقل والترخيص والتسامح المعاصر. الحكاية مكتوبة بضمير الغائب المعاصر، يجرده بلطف بمنظور ضمير المتكلم الحر، الرواية بأكملها عبارة عن جديلة مترابطة من الحرية/ السجن، بأشكال سياسية وجسدية، عاطفية أو نفسية في رؤية معقدة تبدو الصفحات الأخيرة من غرفة الصين وكأنَّها لكمة بطيئة في الصندوق.