بنكُ الأحلام

عائشة بناني
قاصة مغربية

ماذا لو فتح دكانًا لبيع الأحلام؟، لطالما راودته هاته الفكرة وإن كان يعلم أنَّها فكرةٌ مجنونةٌ، لكن أليس هناك من يبيع الأوهام للناس؟ كلمات من هنا وأخرى من هناك تجعل اليأسَ جميلاً والحزنَ المتجدّد بوابةً للنسيان ... فلماذا لا يجرب حظَّه وينطلق في تجارته الجديدة بكل همّةٍ ونشاط؟، وهكذا انتقل بفكرته لمجال التطبيق، وأصبح الدكانُ يحمل لافتةً عريضةً على واجهته تحت اسم "بنك الأحلام".
في البداية استغرب المارون مما كُتب على اللافتة المعلقة، وبعد مدةٍ ليست بالطويلة، صار الزبائنُ يزداد عددهم يومًا بعد يوم. وتدخل فتاةٌ بفستان ورديّ اللون، تتّجه نحوه، تقف أمام المكتب حيث يوجد فوقه مجموعة من القارورات بأحجام وألوان مختلفة؛ بينما يجلس هو على مقعدٍ خلف المكتب يرتشف فنجان قهوته بكلِّ هدوء.
تسأله:
-هل أنت بائعُ الأحلام؟
-حسب الطلب.
-كيف؟
-قد أكونُ بائعَ أحلام وقد لا أكون.
-ألا تستطيع أن تحدّد جوابك بنعم أو لا؟
-بلى
-لماذا يحاول الجميع أن يبدو ذكيًّا أمام الغرباء، كان سؤالاً بسيطًا لا يستحقُّ كل هذا الدوران؟
-وكان جوابًا منطقيًّا لا يستحق كل هذا التذمر.
-ما هذه المتاهة من الكلمات التي لا حدود لها؟
-الأحلام هي أيضًا كلماتٌ لحكاية لا بداية لها ولا نهاية، وإنَّما مداخل لا حدود لها لعالم لا حدود له.
-كنت أعتقد أنَّ الأحلام من حبر وورق فقط.
-بل هي روح تتنفس مثلنا، تزهر وتذبل؛ لكنَّها قد تمتد لأكثر من عمرنا.
-وكيف للأحلام أن تظلَّ حيّةً حين نموت؟
-لأنَّها تنتقل من عقل لآخر، وتظلُّ حيّة من جيل لآخر، أكيد تدخل عليها تغييرات لكن الجوهر لا يتغير. فهي كشجرة تتفرع أغصانها وإن جلدتها الريح بسوطها تستمر في التنفس تستمد بقاءها منّا.
-لكن أغلبها يبقى حلمًا؛ وقد يرهقنا ذلك.
-ولهذا أنشأتُ بنك الأحلام هذا؛ ليتبادل الناس الأحلام فيما بينهم؛ ليستريح البعض في حلم الآخر حين يخبو حلمه.
تبتسم الفتاة وتنظر مباشرةً في عينيّ الرجل:
-إذن فأنت هو بائع الأحلام!
-لنقل إنَّي أعيرها فقط، فأنا لا أبيعها.
- الآن تعقدت الأمور أكثر... فكيف تعيرها؟
-كلُّ من كان له حلم لا يرغب به، أو لم يعد بحاجة إليه لسبب ما، أو ربما يكون بحاجة لحلم آخر أفضل مما لديه، يقوم بمقايضته هنا في بنك الأحلام.
-بنك الأحلام!! (تردّدها الفتاة مشدوهة)
يقف ويجلس على الكرسي قبالتها:
-اسمعي سيدتي؛ هنا تُجمع الأحلام كيفما كان حجمها ونوعها ولونها، تُجمع من الحالم وتعود إليه.
-استعصى عليّ الفهم، هلّا وضحت لي أكثر كيف تُجمع منه وتعود إليه؟
-يأتي الحالمُ بحلمٍ فاض عن حاجته ويستبدله بحلم آخر لحالم آخر كان لا يرغب به، وهكذا.
- أهذا ما تقصد به بنك الأحلام؟
-نعم.
-لكن؛ ألن يرغب الجميع بنوعٍ معيّنٍ من الأحلام؟ لنقل مثلًا الأحلام السعيدة، فمن سيرغب بحلمٍ حزين، وهذا سيجعل الطلب أكثر على الأحلام المبهجة.
-ستستغربين إن أخبرتك أنَّ الطلب عليهما معًا بشكل متوازن، هناك من يرغب في الأحلام البئيسة، بل هناك من يجد في الطلب على الأحلام المزعجة والتي نسميها الكوابيس.
تظهر علاماتُ الاستغراب على وجه الفتاة، وقبل أن ترغب في الاستفسار أكثر، تدخل في تلك اللحظة طفلةٌ صغيرةٌ تملأ المكان صخبًا وهي تلهو وتمرح قبل أن تصل إليه:
-عمّو؛ أمّي تقرؤك السلام وهذا طلبها.
تمدُّ له ورقةً وقد طويت لقطعة صغيرة جدًّا، يفتحها ويقرأ ما بداخلها، يقلّب القارورات بين يديه قبل أن يمدَّ لها واحدة ويقول:
-احرصي ألا تسقط منك، لم يعد لديّ حلمٌ بالمقاس نفسه والحجم نفسه.
تأخذ الفتاة القارورة وتخفيها بين ثيابها، وقبل أن تختفي يدخل سيّدٌ أربعينيّ يخاطبه:
-لم أكن أظنُّ أنَّ الأحلام المفرحة بذاك السوء، لقد أصبحت حياتي مملة وكئيبة، أريد أن أستبدل حلمي الحالي بحلم بئيس يجعلني أعاني وأتألم؛ لم أكتب من مدة طويلة.
ينظر بائع الأحلام لصاحبة الفستان الوردي ويغمزها بطرف عينيه:
-أعلم أنَّكم معشر الكتاب أغلبكم يتّخذ الحزن خليلًا، لا تحلو لكم الكتابة إلا على الأطلال؛ ترتوون من الكآبة وتغترفون من الألم كؤوسًا تنعشكم؛ كلما زحفت عتمة المساء برفقة قهوة مرة تستدعون كلَّ الكلمات الحزينة لتوزعوها نثرًا أو شعرًا، ولتزيلوا ما خالط رؤوسكم من نشوة الصباح؛ فالفرحُ بالنسبة لكم ترفٌ لا يليق بكم.
يناوله قارورة سوداء اللون؛ يتنفس الرجلُ الأربعينيّ الصعداء ويحضن القارورة.
-الآن فقط بهذا الحلم الأسود ستتلون أيامي القادمة؛ سأمضغ الألم على مهل، وأهضم الأيام مستندًا إلى جدار الغياب؛ وأشعل مواقد الذكرى بفتيل حلمي البئيس هذا...
ينصرف أمام استغراب الفتاة وتعجبها؛ تلك التي ظلت متسمرة في مكانها تنظر إليه. يدخل رجلٌ آخر بنظارة سوداء يضرب بعصاه الأرض يتحسس المكان.
الفتاة هامسة:
-إنَّه أعمى!!
يجيبها بائع الأحلام:
-نعم؛ وهو زبون دائم لبنك الأحلام.
-جئت أعيد إليك الحلم السابق.
-ما به؟
-به ألوان كثيرة أزعجتني، أتعجب كيف لكم أن تتحملوا رؤية كل هاته الألوان؛ ألوان تتبدل باستمرار، توقعاتنا معها تفوق دعوات حقائب الراحلين؛ لون واحد كنت أرى به الحياة أبسط وأحتمي به من ضجيج النهار؛ الأحلام الملونة تنساب إلى السطح بشكل لا يُقاوم؛ فتقلب الأحلام رأسًا على عقب.
يأخذ نفسا عميقًا ويواصل:
- أشتاق إلى حلمي القديم حين كنت أضعه تحت وسادتي وأنام.
- هل تفضّل لونًا معيّنًا؟
بدون تفكير يردُّ:
-اللون الأسود، اللون الذي أعرفه ويعرفني؛ تعرفه الشمس والقمر، الليل والنهار، النور والظلام، تعرفه كلُّ الثقوب التي في الجدران حين أمرُّ بها.
ينظر بائع الأحلام للقارورات أمامه ويبحث بينها عن قارورة سوداء، بالكاد يجد واحدة.
-إنَّها آخر واحدة بقيت لديَّ.
يرد البصيرُ مبتسمًا وهو ينصرف بعد أن أخذ القارورة:
-سأحافظ عليها كما أحافظ على عينيّ.
يدخل هذه المرة شابٌ يمسك هاتفًا نقّالًا يتحدث من خلاله ويشير للبائع:
- أريد حلمًا لا لون له.
-وبماذا ستقايضه؟
-بحلمٍ أخضر.
هل أنت متأكّدٌ؟
يترك الشاب الهاتف للحظات:
-نعم الحلم الأخضر أتعبني، كان عليَّ أن أتعهده بالعناية باستمرار.
ثم يعود لهاتفه.
تنظر الفتاة للبائع فتلتقي نظراتهما قبل أن يمدَّ هذا الأخيرُ قارورةً بيضاء للشاب. يبدي الشاب تذمره ويتحدث بغضب:
-لون أبيض!! أريد حلمًا لا لون له.
-اللونُ الأبيضُ كما ترى لونٌ صامت؛ باردٌ كصباحات الحنين، سيفي بالغرض.
يأخذ الشابُ القارورة بسرعة ويمضي.
تلتفت الفتاة للبائع وتخاطبه:
-عجبًا لهؤلاء!! يريدون أن يقايضوا حلمهم بحلم أسود أو بحلم لا لون له، ما الذي جرى للناس هل اكتفوا من الأحلام المبهجة؟
-أو هي التي اكتفت منهم.
-لعل دفاعاتهم سقطت أمام هجمات واقع يشاطرهم الشهيق والزفير، ويفرض نفسه عليهم وعلى أحلامهم.
-بل الحلمُ الذي لا يصل بك إلى وجعٍ واغتراب، حلمٌ مزيفٌ؛ لهذا سرعان ما يتلاشى ويشتاق الواحد منهم لحلمٍ حقيقيّ؛ وأنتِ هل أتيتِ لتستبدلي حلمًا لك؟
-أنا مفتشةُ الأحلام، وأنت متهمٌ ببيع أحلام ملوّنة للناس، أقلقت السلطات فباتوا يخشون أن يتفشّى فيروس التفاؤل بين أفراد طبقات الشعب. استدعوني لألقي القبض عليك، لكنّي أردت أن أتأكد من الأمر أولاً، وأنا الآن في حيرة من أمري بعدما رأيته من عزوف الناس عن الأحلام المبهجة، لكنَّني مرغمةٌ وللأسف على القبض عليك وتسليمك للسلطات لمحاكمتك.
يمدُّ الرجلُ يديه للفتاة، تضع فيهما الأصفاد وتقوده خارجًا.

 

عائشة بناني
قاصة مغربية
وأخيرًا تصالحت مع الظلام وأصبحت كل الجدران صديقتي؛ أحفظُ عن ظهر قلب كل ركن بها؛ كل خدش وكل ثقب أعرفه وأعرف قصته متى كان، وكيف أصبح، أعيشُ في الظلِّ ولا أرى ظلّي أبدًا... بحلم أسود وحكاية معلقة؛ أمضي معظم الوقت داخل رأسي؛ بسنواتي العشرين التي لم تقف إلى صفي...
أنامُ، كما أستيقظ محطّمًا لأجزاء، وأحلم بعالم بلا ألوان، فهل كان عليّ أن أحسّ بالألم؟. أن أترك نفسي تحسُّ به أكثر لأصل إلى ما أنا عليه الآن... لا أشعر بالأمان ولا بالخوف لا بالطمأنينة ولا بالاختناق... لا أخشى أنَّه لا وجود للمستقبل، بل هي فترات طويلة لقتل الوقت، ما من هدف فيها سوى مواصلة التنفس.
أعضُّ على شفتيّ؛ أغمضُ عينيّ بحركة لا إرادية... ألتمسُ الخواء بداخلي؛ ذاك الفراغ الذي يركن إليَّ والذي عليّ أن أتعايش معه؛ أن أنمو معه كما تنمو جذور شجرة حول الإسمنت...
قصتي تبدأ منذ أن كان عمري ثماني سنوات... أُصبت بالتهاب السحايا؛ ظنَّ والدي أنَّها نزلة برد عادية فالفصل شتاء والأعراض تبدو أكثر تشابهًا؛ حمّى وصداع وتيبس ببعض أنحاء جسمي...اكتفت والدتي بتطبيبي منزليًّا ومدّي ببعض المشروبات الدافئة مع بعض الأعشاب... لم يتم تشخيص المرض إلا بعد فوات الأوان وبعدما كان قد أخذ معه بصري ... حياة بأكملها أكلها المرض كوجبة شهية بلا بسملة ولا حمد...لم يترك لي سوى ذكريات لجنة ضائعة؛ لأمكنة وألوان بقيت عالقة في ذاكرتي أنزع إلى رؤيتها بداخلي كلما اشتدَّ بي وهج الحنين، كنت أعشق أخذ الصور في طفولتي وكان أحد السياح قد أهداني كاميرا صغيرة ظلّت رفيقتي في مسيرة ظلامي...
نسيت اسمي ولم أعد أتذكره، فقد وهبني الجميع اسم الأعمى... تهيأت بفواصل من الألم لأواجه الحياة أو لا أواجهها من كآبةٍ أحالتني لكومة من احتضار ميت. ألبس تفاصيلي كوزرٍ رهيب وأحتارُ بين استذكاره ونسيانه بعدما حادت السكينة عن طريقي والأرض تلسعني كلما مشيتُ فوقها.
اغتصب من حلقه صوتًا مجروحًا ثم أضاف بصوت خافت:
عشت سنوات ظلامي كظلٍّ بارد كتراب أسود.. أنتظر لا شيء في ركن من المنزل يبتلعني ظلام أبدي. كنت أرى بسمعي بعدما تطوّرت حاسة السمع ودفع بها اليأس الذي كان يعتصر قلبي وأنا أنتقل من مراحل عمري بلا لون، كمن يصعد درجات سلم وهو يعلم أنَّه لن يرى الأفق أبدًا، سيبتعد عن الأسفل فقط ولن يستطيع العودة إليه ولا الاستمرار في تسلق الدرج... ما كنت أرغب به هو ألا أبدأ أي شيء وأن ينتهي كل شيء.
استمرت حياتي داخل أسرتي وتحولت شفقتهم علي إلى عادة من عاداتهم اليومية، ظللت لمدة أتردد بين الخروج من قوقعتي أو أظل حبيس جدران المنزل الذي أصبحت أحفظ شقوقه وتصدعاته.
وأخيرًا قررت أن أمضي في طريقي المظلم مع أنَّ الوقت ظهيرة، كنت أمشي أتحسّس الطرقات بعكازي بدت لي ظلمة الطريق موحشة؛ ظلام المنزل كان أحنَّ عليَّ وأرحم...
كنتُ قد عزمت البحث عن عمل يقدم لي الدعم المادي والمعنوي؛ عمل يجعلني أحسُّ أنَّي أتنفس وأرمّم به ذاكرتي التي أغرقتها الندوب السود في بحر الظلمات.
حملت شهادة ولادتي وأخرى منحتها لي الدولة كُتب عليها أنَّي بصيرٌ، لعلّها تساعد في شذب السواد الذي يحيط بي بعد أن جملتها اللغة ونقلت عاهتي إلى بعد تجريدي أملًا في تخفيف وطأتها.
بصير كم هي عمياء هاته الحروف التي تصمني بها لغتي رحمة وشفقة منها لأصل لوجهتي، كانت الأيادي تتناوب عليَّ لتمسك بيدي، لا أعلم من أين أتت ولا كيف تترك يدي ليد أخرى، كنتُ أترك نفسي لهم بكل سخاء، أسمع همسات بعضهم وصمت آخرين الذي يصل لداخلي كطاحونة تعصف بي.
وصلت للإدارة المعنية، سلمتهم وثائقي وشهادة تثبت أنَّي بصيرٌ، حاسة السمع تلك التي أصبحت كرادار متطوّر تلتقط ضحكة استهزاء لأحدهم وهو يقول:
-أنا بصير ولم أجد عملاً ويريد هذا الأعمى أن يجده!!
انتفضتُ كخروف العيد، كنت أودُّ أن أثور في وجهه لكنّي اخترت أن ألتقط معول الصبر لأحرث به أرضي المتيبسة. واصلت طريق الخروج بصمتي المعهود لتمسك بي يد ثم أياد صغيرة ...
ابتسمت وهي تنظر إليه وطفلهما حولهما؛ كانت ما تزال تمسك به وهو يدنو من منصة الفائزين تحت استغراب الجميع، ويفوز في مسابقة أفضل صورة.