تجلياتُ أسطورة الآلهة الأنثى

دعد ديب
كاتبة وباحثة سورية
برزت الأسطورةُ كانعكاسٍ لوعي الإنسان القديم وتصوّراته عن القوى الخفية في الكون وأشكال صراعه مع الطبيعة، بوصفها حكاية مجازية تضمنت في جنباتها معاني الثقافة العميقة الغور، إضافة لرمزيتها المعبرة عن فلسفة عصرها، ولطالما حفلت الأساطير القديمة بمفهوم عبادة الآلهة الأنثى أو ما عُرف باسم عبادة الأم الكبرى؛ سيدة الطبيعة في أماكن متعددة والتي ترجع إلى ماضٍ بعيد؛ مما يعكس وحدة التجربة الروحية للإنسان في تمظهرات مختلفة كانت فيه المرأة ربة وملكة وحاكمة، وفي الغالب انعكاس لدورها الأساس في دورة الخصب واستمرارية النوع البشري، حيث كانت المحور الذي دارت عليه الأساطير الأخرى وفق تعبير فراس السواح، وبروز أهمية دورها الاقتصادي المهيمن في مرحلة ما من مراحل التاريخ تظهر كأم وأنثى كونية متوافقة ومنسجمة مع الطبيعة ومتبادلة التأثير والتأثر.
وما زالت في الذاكرة الحية أسماء الربات " أفروديت؛ أورنينا؛ ننخر ساج؛ إيزيس؛ وعشتار الآلهة الأشهر في بلاد الرافدين"، ولربما كانت تجسيدًا لكل تلك الأسماء في معنى واحد، والتي كثيرًا ما صُوّرت بشكل مجسم في المنحوتات واللقى الأثرية بشكل أظهر المعالم الأنثوية ذات العلاقة بالخصب والولادة كالحوض والبطن والأثداء، كما تناقلت النصوص الشعرية الرافدينية قصصها عبر الترانيم الملكية والنصوص النثرية والتعاويذ السحرية والأمثال الشعبية والحكايا المتعددة، كصدى لحسٍّ دينيٍّ متأصلٍ في لاوعي الإنسان، وخبرة أولية لعلاقته مع الآلهة، فمعنى عشتار باللغات القديمة يتضمن فكرة الرحم وبؤرة الخلق الأولى في مزاوجة بين المرأة والأرض والطبيعة، فكما تحمل الأرض في باطنها الخيرات التي تخرج منها كذلك الرحم تخرج منه سيالة الوجود بفعل عملية الخلق والولادة، وهذه إحدى الترانيم التي تتحدث عشتار عن نفسها:
"أنا الأول، وأنا الآخر
أنا ...، وأنا القديسة
أنا الزوجة، وأنا العذراء
أنا الأم، وأنا الابنة
أنا العاقر، وكثر هم أبنائي
أنا في عرس كبير، ولم أتخذ زوجًا
أنا القابلة ولم أنجب أحداً
وأنا سلوة أتعاب حملي
أنا العروس وأنا العريس
زوجي من أنجبني
أنا أم أبي، وأخت زوجي
وهو من نسلي".

وتُعدُّ منظومة "بانوگشســب نامه" أحد أكثر أشكال ظهور للأم الكبرى في تجسيدها للمعتقدات والتقاليد والثقافة الوطنية للأمة الإيرانية، إذ نلحظ فيها شخصية امرأة مقاتلة تقاتل الرجال وتصرعهم، وإنَّ هذه الأعمال الفردية العظيمة تعود إلی نوع من النماذج العليا والأفكار القديمة التي كانت سائدة، وهی جميعها ضاربة بجذورها فی العصر الزراعي فی إيران القديمة، حيث تشير إلی وضع النساء المسيطر فيها ومقدرتهن العالية في العمل الاقتصادي والفكري حيث ظهرت "بانوگشســب" ابنة آلهة تتمتع بالقدرة علی أفعال وأعمال خارقة مثل المهارة فی الصيد، والشجاعة فی الحروب، وهذه القدرات مستمدة من الآلهة الأنثى فی العهود القديمة وصدى لحضورها الطاغي، أو بكلمة أخرى إحدى تجليّاتها.
• ارتباطُ الآلهة الأنثى بالقمر:
في العصر" النيوليتي" ظهرت رسوم وتماثيل ومدافن ومعابد كانت على هيئة امرأة حبلى، أو أم ترضع وليدها، وعكست وضع المرأة، حيث من جسدها يولد كائن آخر ومن صدرها تعطيه الغذاء، ودورتها الشهرية ثمانية وعشرين يومًا تتبع دورة القمر، وكما الأرض تختزن البذور وتخرج الزرع كذلك تكمن الحياة عند المرأة بصورة موازية هي منشأ الحياة منها وإليها ينتهي كل شيء، لذا كان القمر خالق الزمن وسيده وهو المسؤول عن نفخ الحياة بالبذور الجامدة، وبعث مياه المطر. وقد برز ذلك في الكثير من أساطير الشعوب في ارتباط المرأة بالقمر، وفي تشاركها بالدورة الشهرية في دورة ظهور وتلاشي القمر، واقتران القمر بالمرأة عظيم الدلالة لدى الإنسان القديم فكلاهما ينتمي إلى المبدأ السالب في الطبيعة الذي أطلق عليه الصينيون مبدأ(ين) ويقابله(يانغ) المبدأ الموجب الذي ينتمي إليه الشمس والذكر، ففي الين المرأة؛ الظلام؛ الغموض؛ الرطوبة؛ إذ أنَّ عالم الخلق يتسم بالغموض والرهبة والظلام، وفي اليانغ النور والحرارة والقوة والإنجاز، وفي الفكر اليوناني كان" الين " معادلاً للايروس حيث عالم الغرائز والشهوات وخفايا النفس، واليانغ هو اللوغوس حيث المنطق والتفكير العقلاني.
والأطوار الثلاثة للقمر: القمر المتزايد؛ والقمر الكامل؛ والقمر المتناقص؛ وقد عبر عنها في عقيدة التثليث للآلهة الأنثى، ووردت في النقوش البابلية ومنها جاءت إلى المسيحية كما كان لتثليث الأم الكبرى حضوراً في جزيرة العرب تجلى باللات والعزى ومناة اللواتي كن آلهة العرب في ذلك الزمن.
• تهاوي وانقلابُ موقع الآلهة الأنثى:
يعد التحوّل الجذري للإنسانية من مرحلة الصيد والتقاط الفاكهة والخضار إلى مرحلة الاستقرار الزراعي وتربية الماشية أولى لبنات الحضارة التي ترسخت في سورية الطبيعية، حيث لوحظت بداية التجمعات البشرية المستقرة في منطقة فلسطين ووادي الأردن خلال الألف التاسع والعاشر ق. م، حيث ساد المجتمع الأمومي، وكانت السيادة فيه للمرأة كتقدير عميق لدورها البيولوجي الخالق للحياة وخصائصها الإنسانية ولصفاتها المتواترة مع إيقاع الطبيعة والدور الاقتصادي المنوط بها، حيث كان نسب الأولاد يرجع إليها قبل أن يبدأ تقسيمُ العمل واحتكارُ الرجل للعمل العضلي، وبقاؤها في المنزل، وتراجع دورها، الأمر الذي أخذ شكله في الأساطير اللاحقة مثل أسطورة عشتار مع جلجامش وعشقها له ورفضه إياها، وما جرى بعدها من نزولها إلى العالم السفلي لإحياء ديموزي، أو ما عُرف باسم تموز إله الزراعة والرعي، والذي ارتبط بقدوم الصيف ونضح الفاكهة والمحاصيل.
عشق تموز أو أدونيس عشتار وتزوجها، وبارتباطهما اجتمعت أقانيم الحياة والحب والخصب والتجدّد، حيث يغيب تموز في العالم السفلي ستة أشهر هم الخريف والشتاء ليظهر بعدها في الربيع والصيف، وفكرة العودة من الموت والبعث ظهرت في الكثير من الديانات كانعكاس لدورة الطبيعة؛ مثل قيامة المسيح وظهور المهدي في الإسلام، كما يرى البعض أنَّ مأساة الحسين حفيد النبي محمد وما يرافقها من طقوس ندب ورثاء تشبه إلى حدٍّ بعيد طقوس ندب ورثاء الإله تموز في الأساطير القديمة؛ لأنَّ الأسطورة في أحد جوانبها هي ذاكرة إنسانية، والكثير من أساطير الشعوب تشير إلى الانقلاب الكبير ضد العصر الأمومي وإحلال حقِّ الأب محلَّ حقِّ الأم؛ ففي الحكاية الأسطورية المتداولة عندما استفاق شعبُ "أثينا" على وجود شجرة زيتون كبيرة فارعة وأمامها نبعٌ غزير، واحتاروا في تفسير معنى ظهور كلٌّ منها، وعندما استشار الملك كاهنة معبد "دلفي" عن الأمر في هذين الحدثين قالت: إنَّ الشجرة هي الإلهة أثينا، وإنَّ النبع هو الإله بوسيدون، وإنَّ الإلهين يخيران الشعب أي الاسمين يطلقان على مدينتهم؛ فصوتت النساء لصالح أثينا والرجال لصالح بوسيدون، ولما كانت النساء أكثر عددًا فقد فازت النساء، الأمر الذي جرَّ على المدينة غضب بوسيدون بأن أغرق المدينة بالمياه المالحة، ولم يعد ينبت فيها زرع أو شجر؛ ولتهدئة خواطر الإله الشرس فرض الرجال على نساء المدينة عقوبات ثلاث وهي: الحرمان من حق التصويت، والثانية لم يعد لهن الحق بنسب أبنائهن إليهن، وإنَّما النسب للرجال فقط، والثالثة أن لا تحمل النساء لقب الأثينيات وإنَّما اللقب للرجال فقط؛ وما يعنيه ذلك من سلب حق المواطنة لهن، ومن هذه الحكاية نستشف كيف جرى الصراع المرير بسحب حقوق النساء تدريجيًّا وشيطنة أفعالهن، وما الأسطورة إلا صورة ظليّة لما حصل في الواقع من سلب حقوق النساء في محمول تاريخي صادقت عليه القوانين والشرائع.
وتتكرّر الحادثة في أسطورة "ميدوزا" ربّةِ الحكمة والثعابين الأمازيغيّة، الجميلة التي ارتكبت الخطيئة مع "بوصيدون" في معبد أثينا، حيث نراها تتحمّل وحدها غضب أثينا فتسلبها جمالها وتحوّل شعرها إلى ثعابين، وليس هذا فحسب، بل تفرض عليها العزلة والإقصاء، حيث تطال اللعنةُ كلَّ من ينظر إليها متحولاً إلى حجر، وكانت نهايتها على يد "برسيوس" الذي قطع رأسها وأهداه إلى أثينا أثناء عودته من حرب طروادة، فنال الخلود تكريماً له.
أمّا خلاصة النقمة على المرأة "فتجسّدها أسطورة “باندورا" إذ خلق الإله زيوس المرأة الأولى باندورا من الماء والتراب، وأعطاها حظًا وافرًا من الجمال والعذوبة وقدرة فائقة على عزف الموسيقى، كما حباها بمقدرة متميزة على الإقناع، وأعطاها صندوقًا جمع فيه كل شرور الكون كالجشع والغرور والافتراء والكذب والحسد والوهن، وأوصاها بألا تفتحه كي يبقى الكون يرتع في الخير العميم، ولكن فضول النساء دفعها لفتحه وتدفقت الشرور منه، ولم تستطع الحيلولة دون ذلك، وهكذا حملت المرأة سبب الشقاء الإنسانيّ على هذه الأرض.
إنَّ أغلب الأساطير اللاحقة والديانات الذكرية المشتقة عنها حاولت طمس كل ذكرى للأم الكبرى من النظام الأسطوري، ولكنَّها لم تستطع بشكل كلي؛ فرجعت لتكون أم الإله، ومع ذلك جرى صراع عنيف بين الذكورة والأنوثة في مجمع" افسوس" قاده "نسطوريوس" الذي اعتبر بأنَّ الرحم الذي حمل الإله غير مقدس، وأنَّ القداسة للإله الذكر وحده، كما نقرأ للقديس "كيرليس الاسكندراني": "السلام عليك يا مريم، يا أمّ الله، يا كنزًا يمجده العالم، يا نورًا ساطعًا، أنت التي فيك يتمجّد الثالوث ويُعبد". كما صوّر هذا الصراع الكاتب يوسف زيدان في روايته "ظل الأفعى"، وأيضاً جرى ذكر حواء في الحكاية التوراتية بأنَّها مخلوقة من ضلع آدم وليست خالقة كما تداولتها الأساطير السابقة، وهكذا كان احتكار الذكر للأمومة والأبوة معًا، وما صراع الآلهة الشمسية مع الآلهة القمرية إلا صورة لتقويض الثقافة الأمومية والتراجع الذي طرأ على منظومتها المثيولوجية حيث أُقيمت هياكل الشمس على أنقاض هياكل القمر.
إذ تؤكد أساطير الخلق بمعظمها أنَّ البدء الأول جرى من الظلمة الأزلية، إذ كانت "تعامة" هي الرحم المائي المظلم الذي نشأ عنه الكون والآلهة، وفي حكاية التكوين التوراتية (في البدء خلق الرب السماوات والأرض وكانت الأرض خربة وخالية وعلى وجه الغمر ظلمة، وروح الرب يرفرف فوق الماء).
ارتباطُ الآلهة الأنثى مع الأفعى:
تظهر المتوازيات الرمزية التي تتقاطع ما بين الأنثى والأفعى في متشابهات عدة، فالأفعى التي تخلع جلدها رمزاً للولادة والتجدّد والديمومة، الزحف والانسحاب والتلوي أسلوب حركتها عبر الالتواء الدائري أو الجانبي أو بحركات انقباضية وكلها تشابه فعل الولادة لدى الأنثى، وقد تعددت أسماؤها من الأفعى للكوبرا ذات الأجراس والصل والحية، والحيّة عكس الميتة؛ أي دلالة الحياة يقابلها حواء رمز الاحتواء والاحتضان، وبقيت الأفعى شعارًا ورمزا للربّات والملكات في الأزمنة الأولى، وقد ظهر رمز الحيّة وفوقها الهلال في الكثير من الرسوم والنقوش، ومنها الأفعى الشافية، والأفعى القاتلة مثاله ميدوزا المرأة الأفعى والتي قام بقتلها البطل نصف الإله "بيرسيوس"، وأعطى دمها ل"اسكيلبيوس" حيث جمعهما في إنائين اليمين للشفاء والأيسر للموت، وقد ارتبط تقديس الأنثى مع الأفعى في ازدواجية الجلال والمهابة والقدرة، وهذا يؤكده وجود المعابد وهياكل العبادة في مصر القديمة التي ظهرت فيها رسوم للأفعى، وفي الترانيم المقدسة للأنثى حيث هي احتفاء وجداني طافح بالحياة تقول الترنيمة:
"يوم أفني كل ما خلقت
ستعود الأرض محيطًا بلا نهاية
مثلما كانت في البدء
وحدي أنا، سأبقى
وأصير كما كنت قبلًا
أفعى،
خفية
عصية عن الإفهام". (ترنيمة لايزيس).
فهنالك علاقةٌ قوية بين الأســطورة وبين الثقافات البدائية للشعوب، وهي وسيلةٌ ناجعةٌ لدراســة الأفكار البدائية والأحداث التاريخية وقضايا البشــر عبر العصور والأزمان؛ لأنَّ الأسطورة نوعٌ من التأليه للوقائع البشرية تكشف عن اللاوعي الجمعي للبشر في مرحلة ما، وتحمل الكثير من الرموز والأسرار، وفي النهاية تقول الأسطورة إنَّ الذكر والأنثى كانا جسدًا واحدًا جرى فصلهما؛ لذا فإنَّ تيار الحياة الأزلي يقوم حول انجذاب أحدهما للآخر، وبحثهما المضني عن بعضهما البعض في دورة الخصب الكونية.