فاطمة طاهري
كاتبة وباحثة مغربية
تظلُّ السينما مرآةً تكشف جميع الاختلالات والتجاوزات التي يقوم بها الإنسان، ومن ذلك ما تعرفه الحروب والنزاعات المسلحة من مآسٍ إنسانيّة، على أن ما تقدمه السينما يظلُّ أكثرَ عمقًا وتأثيرًا من مجرد كتابة تقرير قانونيّ أو بحثٍ حقوقيّ؛ وذلك لما تختزنه وتستبطنه السينما من أدواتٍ وأساليبَ فنيّةٍ تمنح الموضوع المتناوَل ما يستحق من عمقٍ في التعبير عن التجربة الإنسانيّة المعقدة، وذات الأبعاد المتعدّدة والمتداخلة.
1- السينما المصريّة وحرب 1948: لم تؤرخ لمآسي هذه الحرب أعمالٌ سينمائيّة كثيرة، رغم أن ما شهدته هذه الحرب من فواجع إنسانيّة قد يفوق ما عرفته مواجهات عسكريّة لاحقة من نكباتٍ إنسانيّة، وبالمقابل، اقتصر التعاطي السينمائيّ مع هذه الحرب - تقريبًا - على التركيز على الدور المصريّ فيها وأسباب هزيمة الجيش المصريّ، دون منح ما يكفي من الاهتمام الفنيّ والإبداعيّ للجرائم التي ارتكبتها العصاباتُ المكوِّنة للجيش الصهيونيّ في المدن والقرى الفلسطينيّة التي قاموا باحتلالها أثناء الحرب، ومن الأعمال الجادّة التي تطرقت لهذا الجانب الإنسانيّ فيلم "ناجي العلي"، المنتَج سنة 1991، وهو من بطولة الفنان نور الشريف، حيث تخلّلت هذا العمل مجموعةٌ من مشاهد القتل والتهجير للفلسطينيين من مدنهم وقراهم، وما تبع ذلك من مأساة مخيمات اللاجئين الفلسطينيين مثل حالة مخيم "عين الحلوة" بلبنان، والذي عاش فيه بطل الفيلم "ناجي العلي" خلال مرحلة طفولته وشبابه.
إضافة إلى بعض المشاهد الثانويّة في بعض الإنتاجات السينمائيّة الأخرى مثل الحوار العابر الذي دار بين شخصيتين من فيلم "الطريق إلى إيلات"، المنتَج سنة 1993 حول مجزرة "دير ياسين" التي نفّذتها عصابات "الأرغون" و"شتيرن" بدعم من "البالماخ" و"الهاغانا" في 9 أبريل/نيسان 1948، لتهجير سكان القرية، وبثّ الرعب في القرى والمدن الفلسطينيّة الأخرى، وهو حدثٌ شهدته فلسطين - كما هو معلوم – قبل اندلاع حرب 1948 بأيام.
2- السينما المصريّة والعدوان الثلاثيّ سنة 1956: يُعتبر فيلم "بورسعيد (المدينة الباسلة)"، والمنتَج سنة 1957، وهو من بطولة الفنان فريد شوقي، يُعتبر - في نظرنا- أحدَ أبرز الأعمال التي رصدت بعضًا من مآسي هذا العدوان؛ لا سيَّما فيما يتعلق بالدمار الذي عرفته المدينة المذكورة، والاعتداءات اللاأخلاقيّة التي قام بها المعتدون على أهالي المدينة، وبالمقابل إبراز دور المقاومة والصمود الشعبيّ النادر لهؤلاء الأهالي في وجه المحتل.
3- السينما المصريّة وحرب 1967: يُعدُّ فيلم "فتاة من إسرائيل"، والمنتَج سنة 1999، وهو من بطولة الفنانين: محمود ياسين، وفاروق الفيشاوي، وخالد النبوي، ورغدة، يُعدُّ أحدَ أهم الإنتاجات السينمائيّة التي تعرضت لانتهاك حقوق أسرى الحرب، حيث يبدأ الفيلم أحداثه بمشهد إرغام الجنود الصهاينة للجنود المصريين على حفر قبورهم بأيديهم قبل قيام الصهاينة بإعدامهم رميًّا بالرصاص، وكان من بين الضحايا أخو البطل، وقد استدعت والدة البطل (الشخصيّة التي أدتها رغدة) هذه الذكرى كي تمنع ابنها (الشخصيّة التي أداها بطل الفيلم خالد النبوي) من السقوط في بئر ومستنقع التطبيع بارتباطه بفتاة إسرائيليّة، كما استحضر والد البطل (الشخصيّة التي أداها محمود ياسين) هذه الذكرى في حواره مع والد الفتاة الإسرائيليّة (الشخصيّة التي أداها فاروق الفيشاوي).
4- السينما المصريّة وحرب الاستنزاف: من الأعمال التي تضمنت إشاراتٍ مهمّةً للخروقات الإنسانيّة التي عرفتها حرب الاستنزاف فيلم "مهمّة في تل أبيب"، المنتَج سنة 1992، وهو من بطولة الفنانة نادية الجندي، حيث مثّل المشهد المؤثر لسماع بطلة الفيلم الجاسوسة قصيدة الشاعر صلاح جاهين "الدرس انتهى لمّوا الكراريس"، مثّل العامل النفسيّ الأهم الذي هزَّ ضمير الجاسوسة (الشخصية التي أدت دورها نادية الجندي) وأيقظ حسَّها الوطنيّ، وجعلها تكشف نفسها للمخابرات المصريّة، بل وتتعاون معها، وقد تقصّد مخرج الفيلم أن يبين صور الأطفال ضحايا مجزرة مدرسة "بحر البقر"، ومن المعلوم أنَّ هذه المذبحة وقعت إثر قصفٍ للطيران الصهيونيّ للمدرسة المذكورة في 8 أبريل عام 1970، وقد جاءت القصيدة المشار إليها آنفًا تأريخًا لهذا الحدث المأساوي واللاإنسانيّ.
5- السينما المصريّة وحرب أكتوبر 1973: من الأعمال التي نعدُّها جادةً وذات بعدٍ إنسانيٍّ عميق، كما أنَّها خرجت عن سياق البهرجة التي ذهبت فيه مجموعة من الأفلام، نذكر فيلم "المواطن مصري"، المنتَج سنة 1991، وهو من بطولة الفنانين: عمر الشريف، وعزّت العلايلي، ومحمود عبد الله، حيث اضطرت الفاقة وحاجة الفلاح (الشخصيّة التي أداها عزّت العلايلي) إلى الحفاظ على أرضه إلى الموافقة على تجنيد ابنه (الشخصيّة التي أداها محمود عبد الله) بدل ابن العمدة الحقيقيّ، وذلك بضغطٍ وإغراءٍ من العمدة المذكور (الشخصيّة التي أداها عمر الشريف)، وقد شاءت الأقدار أن يستشهد ابن الفلاح في حرب أكتوبر 1973، وبعد أن أوشكت الجريمة أن تُفتضح قام العمدة بالضغط على الفلاح لإنكار نسب ابنه الميت له، وكأنَّ أبناءَ الطبقة الفقيرة والمستغلَّين زمنَ السلم مقدّرٌ لهم، أيضًا، أن يتحمّلوا وحدهم مآسي الحرب، دون أبناء الأعيان والإقطاعيين المنعمين سلمًا، والسارقين لشرف الاستشهاد والتضحية حربًا.
6- السينما المصريّة والغزو الصهيونيّ للبنان سنة 1982: من أكثر الأعمال الجادّة التي تضمنت مشاهدَ ترصد الجانب الإنسانيّ في هذه الحرب فيلم "ناجي العلي"، والذي صوّر أعمال التدمير وتقتيل المدنيين وإذلال الأهاليّ وإرهابهم، فضلًا عن قمع حرية الصحافة، وذلك إبّان غزو جيش الاحتلال الصهيونيّ لمدن لبنان.
7- ملاحظات واستنتاجات وتساؤلات.
انطلاقًا مما سبق يمكن تسجيل ما يلي:
- نستخلص أنَّ السينما المصريّة لم تركّز بما يكفي على تسجيل الجانب الإنسانيّ في الأعمال التي تطرقت للحروب والنزاعات المسلحة، ولم يتحقق بعدُ ذلك التراكم الفنيّ والإبداعيّ المطلوب في هذا الجانب.
- نلفت الانتباه إلى أنَّ الإنتاجات السينمائيّة قاربت هذا الموضوع بشكلٍ مباشر، دون اللجوء إلى أساليب الرمز والإسقاط، وغير ذلك مما له قيمة درامّية أعلى وأعمق.
- لم يمثّل موضوع المآسي الإنسانيّة للحروب القضية الأساسيّة لجلِّ الأفلام، إن لم نقل كلَّها، ذلك أنَّ هذا الموضوع ظلَّ بشكلٍ شبه دائم على هامش الأحداث وعلى هامش السياق الدراميّ العام.
- استثنينا من هذا المقال الأعمال السينمائيّة التجاريّة التي تناولت هذا الموضوع بطريقةٍ سطحيّة، أو استعراضيّة فجّة، وهي أعمالٌ كثيرة، ولا ترقى لاعتمادها مادةً خامًا لمقاربة قضيّةٍ إنسانيّةٍ عميقة كالتي نحن بصددها في هذا المقال.
كما يُمكن طرح التساؤلات التالية:
- لماذا لم يمثّل الجانب الإنسانيّ للحروب والنزاعات المسلحة العمود الفقري وصلب أحداث الأفلام التي تطرقت لهذا الموضوع، حيث ظلَّ هذا الجانب يُذكر -غالبًا- بشكلٍ عابر، أو على هامش السياق؟
- لماذا لم تتوفق السينما المصريّة إلى الآن في إنتاج أعمالٍ فنيّةٍ ترصد المآسي الناجمة عن الحروب والنزاعات المسلحة بأساليب الرمز والإسقاط، مع العلم أنَّ مثل هذه الاختيارات في المعالجة تقتضي توافر حرفيّة وكفاءة فنيّة عاليّة في القيّمين على العمل؟
- لماذا لم يتحقّق إلى يومنا هذا ذاك التراكمُ المطلوبُ في الأعمال السينمائيّة الجادّة التي تناولت موضوع مقالتنا هاته؟
- لماذا لم تحظ مثل هذه الأعمال بدعمٍ كافٍ في الإنتاج، سواء من طرف الدولة، أو الشركات، ومقاولات الإنتاج الخاصّة؟!.