سجيع قرقماز
كاتب وباحث سوري
السؤالُ الذي سيظلُّ يقض مضجع الإنسان في كل زمانٍ ومكانٍ هو هل تصل رسائلنا! بين أيدينا اليوم رسالة مهمة كتبتها أوغاريت؛ تقول: " إذا لم تستطع كل اللقى الأثرية تحت الأرض أن تعطيكم فكرة حقيقية عني، إليكم صورتي من تحت الماء، مع كل اللقى التي حافظ عليها البحر، لتشكّل مع بعضها رسالة تعريفٍ بحقيقتي...
إنّي أتنفس تحت الماء ولا أغرق، ولم يعد الغرق يهمني بعد أن تم التعرف على كل ما في المركب من كنوز معرفية وحضارية.
لم يعد الغرق يهمني لأؤكد للبشرية ثانيةً أهمية ما قدمت في مجالات عدة، وأنا أؤكد أنَّ هذه اللقى هي دليلٌ كبيرٌ على عراقة كنوزي، ومعظمها أُنتج في أرضي، في أوغاريت. "
( جورج. ف. باس) المختصُّ بالآثار الكلاسيكية والمدرس في جامعة تكساس في الولايات المتحدة الأمريكية باع كل ما يملك من أجل إقامة مركز الأبحاث تحت المائية، ومتابعة أبحاثه الأثرية تحت الماء في البحر الأبيض المتوسط.
عام 1960 بدأ عمله في المياه التركية واكتشف حطاماً مهمّاً في خليج ( غاليدونيا )، وآخر أهم في خليج (أولوبورون) عام 1984، وهذا الذي سنتحدث عنه بالتفصيل خاصةً بعد إقامة متحف للآثار تحت الماء في مدينة (بودروم) التركية، وفي إحدى قاعات المتحف صالة خاصة تتم فيها إعادة السفينة الأوغاريتية المكتشفة في ( أولوبورون ) إلى حالتها السابقة بمحتوياتها، وحسب الإمكان.
في كانون الأول عام 1991 زار ( جورج. ف. باس) اللاذقية، وفي نيته متابعة تنقيباته تحت الماء على الساحل السوري واللبناني، وقد كُلّفت بمرافقته في عملية تقصي أولية للساحل السوري، حيث أجرى العديد من هذه العمليات في إحداها، وقد كان حماس السيد (باس) كبيراً لكن الظروف العامة للعمل بين سورية وتركيا ومن خلال ساحلهما في تلك الفترة لم تكن مؤاتية أبداً. أمَّا ما كان لصالحي الشخصيّ فهو تقدير جورج لمساعدتي له خلال سبعة أيام فأصرَّ على دعوتي لمتابعة عمله في مدينتي ( كاش وبودروم). حيث قمتُ بجولات متعددة لموقع العمل وللمتحف في ( بودروم ) ومن ثم الانتقال إلى سفينة الأبحاث( فيرازون) الراسية فوق موقع السفينة الغارقة، ليشرح لي القصة بتفاصيلها.
قبل ذلك دعوني أعرفكم على تجارة المنطقة وقت غرقت السفينة، في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، حيث كانت التجارة في حوض المتوسط هي الأولى عالميًّا: إذا أخذنا نقطة بداية (أوغاريت) واتجهنا شمالاً ستكون محطتنا التالية (قبرص ) ثم ( بحر إيجة ) و(بودروم) التي سنتعرف عليها لاحقاً. النقطة الرابعة بعد ( إيجة ) هي اليونان ( ميساني) ثم (مصر) لتنتهي الجولة في (كنعان ) أو (فلسطين ).
من خليج (كاش) المدينة التركية الصغيرة، والتي تعني (حاجب العين ) يتحرك بنا المركب، ويتجه شمال شرق حتى يصل مقابل (خليج أولوبورون)، هنا سفينة الأبحاث التابعة لمعهد آثار تحت الماء، وعلى الخليج خيمٌ لفريق العمل صُنعت بالخيش، والأهم في هذا الموقع أنَّ حطام السفينة التي نتحدث عنه يستقر على عمق حوالي 150 قدماً تحت (فيرازون) مباشرة، حيث سيتابع فريق العمل بقيادة(باس) وخبرة( دان فراي) في الغطس والاعتماد على (جمال بولاق) الأثري التركي، و(طوفان) و(مراد) الغطاسين التركيين، وبقية الباحثين والدارسين وبمساعدة من بعض علماء الآثار في أكثر من متحف في العالم. كلهم سيتابعون العمل لكشف أسرار هذه السفينة وحمولتها التي حافظ عليها الماء سليمة حوالي أربعة آلاف عام.
إذن ما هي أهم النتائج؟؛ يقول باس: "بعد حوالي 27 عاماً من البحث عن حطام السفن الغارقة والغوص في المتوسط والعثور على حطام (غاليدونيا ) الذي يعود إلى القرن الثاني عشر ق.م. في عام 1960. وبعد العديد من الاستطلاعات والتحقيقات مع الغطّاسين والبحارة والصيادين الأتراك، سمعت العبارة المهمة من صيادِ إسفنج تركي؛ قال لي:
- رأيت بسكويتاً معدنيًّا ذا آذان.
وهو يقصد السبائك البرونزية التي غيّرت وجه العالم اقتصاديًّا، كان هذا عام 1982، وبدأنا بالاستطلاع والغطس في المكان الذي حدّده هذا الصياد، وعلمت مباشرة أننا أمام كنزٍ حضاريٍ مهم. لقد بدأنا الغطس عام 1984 وقد كانت غلة الغواصات الأولى قوالب نحاسية على شكل أقراص إضافة إلى النوع المألوف ذي المقابض الأربعة، رأس عصا حجري، جرة كنعانية مليئة بالخرز الصناعي، وجرة أخرى مليئة بالرهج الأصفر، كما استخرجنا عينات من مادة رمادية هشة ثبت أنَّها 99.5% من قصديرٍ نقي، وهي المادة التي عجلت بالعصر البرونزي، ولكن قلما وجدت كمادة خام من تلك الحقبة.
بعد يوم أو اثنين استخرجنا ما بدا وكأنَّه خنجر برونزي، رغم أنَّ التحجر من حوله أخذ كل المعالم - غير الشكل العام - وبمقارنة مع خناجر أخرى اكتشفنا أنَّ الخنجر كنعاني، وهناك مثيل له مكتشف في فلسطين.
إنَّ العدد الكبير من القوالب النحاسية في (أولوبورون) يمكن أن يدعم نظرية تبنيتها لأكثر من ربع قرن، ومفادها أنَّ الكنعانيين، أو فينيقيي العصر البرونزي لعبوا دوراً رئيساً في التجارة البحرية لشرق المتوسط. مع أنَّ الكثير من العلماء يصرون أنَّ الميسينيين قاموا باحتكار التجارة البحرية خلال عصر البرونز، وأقول هذه نصف الحقيقة حيث كان هناك شيء مقابل تلك الآنية، وهذا الشيء عاد إلى اليونان من الشرق واستعصى على العلماء، وما زلت أعتقد أنَّ هذا الشيء كان عبارة عن مواد العصر البرونزي الخام مثل النحاس والقصدير العاج والزجاج، ومواد أخرى حولت لدى وصولها إلى أدواتٍ وأسلحة وأدوات زينة وأدوات منزلية.
إنَّ لوحات القبور المصرية تصوّر مثل تلك المواد بين أيدي تجار كنعانيين ( سوريين ) يسلمونها للفراعنة، لكن السلع نفسها نادراً ما وجدت، وكارثة تحطم هذه السفينة هي الشيء الوحيد الذي كان يمكن أن يحفظ هذه السلع بشكلها الأصلي، ( وهي الرسالة المهمة التي يجب أن نهتم بها ).
لقد وجدنا مثل هذه المواد في (غاليدونيا) 1960، وبعد دراسةٍ متأنية اقتنعتُ أنَّها كنعانية، وحلمتُ أنَّ أحداً ما سيكتشف في يوم من الأيام حطاماً ذا دليل أقوى وربما جاء هذا اليوم أخيراً".
إذا أخذنا بعين الاعتبار طبيعة العلاقات الدولية في منتصف القرن الرابع عشر قبل الميلاد، سنرى أنَّ هدايا كثيرة كان ملوك (أوغاريت ومصر وقبرص، واليونان) يتبادلونها وهذا ما حصل بالنسبة للكأس الذهبية التي يفترض أنَّها هدية لملك مصر من ملك أوغاريت، فهل وصلت الهدية؟ وإلى أين؟ لقد وصلت إلى (أولوبورون)!
سفينة (أولو بورون) أخذت اهتماماً إعلاميًّا كبيراً، وكان ل(الناشيونال جيوغرافيك) في عدد كانون الأول 1987 لقاء مع ( جورج ف باس ) حول السفينة ومحتوياتها وأهميتها؛ يقول باس: "نعلم من خلال اللقاء أنَّ حمولة السفينة هي جرة تخزين ضخمة، ومواد خام من عصر البرونز، سيوف برونزية ورؤوس سهام، رؤوس هراوات حجرية وقشور بيض النعام، العاج في مؤخرة السفينة، أمَّا في الوسط فتخزن شباك صيد السمك وسبائك زجاجية زرقاء، إضافةً إلى جذوع أشجار وجرار مليئة بالراتينج العطري وسبائك نحاسية وقصديرية مرتبة أمام الصاري، وحيث المراسي الحجرية مكدسة أزواجاً."
أمَّا أهم ما يهمنا هنا فهو السبائك البرونزية التي صهرت من القصدير والنحاس.
" إنَّ الاكتشاف القائل بأنَّ النحاس والقصدير يمكن أن يمزجا ليشكلا معدناً جديداً أقوى يدعى (البرونز)غير مجرى التاريخ البشري بشكلٍ مثير .. فمنذ حوالي 3000 سنة قبل الميلاد بدأت الأدوات، والأسلحة المصنوعة من هذا المزيج تحلُّ محلَّ الأدوات الخام المصنوعة من الحجارة والخشب والعظام والنحاس، بحيث صار العمل الذي يستغرق من المزارع أياماً ينجز في ساعات وبسرعةٍ قياسيةٍ استطاع نجارو السفن استخدامهم للأدوات البرونزية أن يبنوا هياكل السفن القادرة على نقل حمولات ضخمة إلى مسافات بعيدة، تدفعها قوة الرياح فقط. وقد سمحت هذه التطورات للتجارة بالانتشار عبر العالم المتوسطي".
إنَّ الشكل المميز للسبائك ذات المقابض الأربعة أو الأرجل الأربعة يوضح تأثير الشرق الأدنى، فقالب الصب الوحيد المعروف لهذه الأشكال، اكتشف قرب القصر الملكي المتهدم في مدينة أوغاريت القديمة على الساحل السوري.
هذا المكان نسميه اليوم (خليج ابن هاني) حيث قالب الصب الوحيد لهذه القوالب في العالم قد اكتشف في ثمانينات القرن العشرين.
وفي عودةٍ إلى طبيعة العلاقات التجارية الدولية في القرن الرابع عشر ق.م. فقد تمت الإشارة إلى مؤسساتٍ تجاريةٍ خاصة من خلال رقم كانت تحوي أسعاراً لبضائع وسلع مختلفة، وكانت التجارة تتم أيضاً على شكل هدايا ملكية.
إنَّ الكثير من هذه المبادلات دوّنت على رُقم طينية اكتشفت في (تل العمارنة) وكان معظمها عبارة عن وثائق ملكية من تجار من سورية وفلسطين ومصر.
لكن خيوط هذا العالم المحكمة النسيج انحلت في الحال، ففي حوالي عام 1200 ق.م. بدأ الدمار يحصد حضارة اليونان، ويدمر قبرص والساحل السوري الفلسطيني، لكنَّه انحدر في مصر التي ردّت الغزوات.
من المكتشفات المهمّة التي عثر عليها( باس) وفريقه تحت الماء:
-زوجٌ من السبائك الزجاجية الزرقاء، وآنية ضخمة لتخزين المياه، والبعض الآخر يملأ بالأواني الفخارية الصغيرة، والمتعددة الاستعمالات.
-وأطنانٌ من النحاس، كانت كافية حين مزجها مع القصدير لصنع حوالي 300 خوذة برونزية، و300 درع برونزي، و3000 رأس رمح، و3000 سيف.
- كأسٌ ذهبية رائعة تبدو ككؤوس القربان، وأسنان فرس النهر وأنياب فيلة، وأساور فضية وأقراط ذهبية.
-عددٌ من المراسي الحجرية.
- زرٌ تزييني على شكل خنفسةٍ مصنوع من العظم أو العاج، ومؤطرٌ بالذهب، منقوشٌ بأحرف هيروغليفية تزيينية، على قاعدته، بجملةٍ تقول: " بتاح إله الحقيقة". "و"بتاح" هو إله الحرفيين، فهل كان أحدٌ ما من البحارة من عبدته التي شاعت في تلك الفترة؟!
- أمَّا أجمل اللقى فهي القلادة الذهبية التي تحمل شكل آلهة عارية تحمل غزالاً في كل يد، تلك القلادة تشبه بشكلٍ ملحوظٍ واحدةٍ أخرى وجدت في موقع أوغاريت.
- أجمل ما رأينا أيضاً، (يقول باس)، شكلةٌ ذهبيةٌ على شكل خنفسة وعلى قاعدتها نقشٌ مصري ترجمته: "نفرتيتي .. نفرتيتي.. هل هناك وجه من العصور القديمة أجمل من وجه ملكة أخناتون العظيمة؟؟ "
إنَّ المواد الخام على متن السفينة، إضافةً إلى الآنية القبرصية والجواهر والأسلحة والجرار الكنعانية، كلُّ هذه الأشياء التي لها صلة وثيقة بالمتوسط، تثبت أنَّ السفينة كانت تبحر من الشرق إلى الغرب عندما غرقت.
ليس المهم الذهب والفضة في بحث علماء الآثار كما يؤكد (جورج باس) دائماً بل المهم هو كما يقول:
- "إنَّنا ننقذ أعظمَ الكنوز وهو كنزُ المعرفة. (إذن وصلت الرسالة).
لقد قام معهد البحوث تحت المائية ببناء متحفٍ خاص في بودروم، نُقلت إليه كلُّ موجودات هذه السفينة بعد أن أُعيد بناء السفينة أيضاً