عايد محمد عودة أبو فردة
باحث في التراث الأردني
تراكمت خبرات المجتمع الزِّراعي على مرّ العصور، فتشكّل لدى أفراده وعي وإدراك بيئي في التعامل البنّاء مع محيطهم، وأنتجت هذه الخبرات ثقافة بيئيّة عبَّر عنها المجتمع بالأمثال، وخزَّنتها الذاكرة المجتمعيّة الشعبيّة، وكانت العادات والتقاليد تسود أكثر من سيادة الثقافة والوعي الاجتماعي والعلم. وقد شكَّلت الأغاني الشعبيّة حلقة الوصل بين الماضي والحاضر، لتعبِّر عن تعلُّق المواطن بأرضه، ومن جانب آخر فهي تعبِّر عن تراثنا الشعبي وتحفظ شخصيّة المواطن بكلماتها المحكيّة باللهجة العاميّة المُتداولة في كل قرية أو مدينة أو بادية.
(آباؤنا صنعوا الماضي لنا، ومهمَّتنا أن نصنع الماضي لأطفالنا، فأين ماضيهم من حاضرنا؟)
تُعتبرُ البيئة الزراعيّة المعلِّم الأوَّل والدّائم للإنسان، في كل زمان ومكان، وهي أغنى بيئة بمعارفها الكثيرة المتنوِّعة عن الأرض وما عليها من أحياء، وأغنى بالثقافات الغزيرة المتراكمة التي نشأت عن ممارسة النشاط الزراعي منذ زمن بعيد، وعن التأمُّل في ظواهر وبواطن الكون وإبداعات الخالق.
ومن البيئة الزراعيّة تبلورت المبادئ الخُلقيّة عند الإنسان، والتي قامت على أساسها المجتمعات المتقدمة حضاريًّا. فمنذ أقدم الأزمنة، والتقويم الزراعي هو الشائع خاصة عند الفلاحين، وهم أهل الخبرة وأصحاب المعرفة والدّراية بالخصائص المناخيّة لكل أسبوع في السنة، لارتباط هذه الخصائص المناخيّة ببرنامج أعمالهم وبضبط توقيت بداية ونهاية المواسم الزراعيّة المختلفة.
وقد تراكمت خبرات هذا المجتمع الزراعي الفلّاحي على مرّ العصور، فتشكّل لديه وعي وإدراك بيئي في التعامل البنّاء مع محيطه، إلى درجة أنها أنتجت ثقافة بيئيّة عبّر عنها بالأمثال وخزَّنتها الذاكرة المجتمعيّة الشعبيّة.
ارتبطت الحياة اليوميّة للفلّاح بتقلُّبات الطقس؛ وهذا ما لمستُه من خلال الكَمّ الهائل من الأمثال الشعبيّة التي تركها لنا أجدادنا والتي ترصد تقلّبات وتغيُّرات الطقس.
أجدادنا لم يصلوا إلى تلك الأمثال من فراغ؛ هي نتاج سنوات من العمل والجدّ والتجارب سخّروها لخدمة أرضهم وماشيتهم، فاستنتجوا تلك الحقائق التي نتناقلها من خلال مراقبة الشمس والنجوم وتقلّب الليل والنهار وتغيّرات الطقس {وعلاماتٍ وبالنَّجم هم يهتدون}(سورة النحل،16).
وبحسب الرزنامة الشعبيّة والتقويم المحلّي تبدأ السنة الزراعيّة ببداية موسم الأمطار.
يدخل فصل الخريف في شهر أيلول وهو شهر الصليب (وعيد الصليب يصادف 14 أيلول بحسب التقويم الشرقي أو 27 أيلول بحسب التقويم الغربي)، ويقول المثل الشعبي: "مالَك صيفيّات بعد الصليبيّات" أي في أيلول ينتهي الصيف. كما يدلّ هذا المثل على تغيُّر حالة الطقس وبداية فصل جديد: "إنْ أجا الصليب روّح يا غريب" أي إذا حلّ عيد الصليب يعود المصطافون في الكروم إلى بيوتهم، لذا يقول المثل الشعبي: "إن صلّبَت خرّبَت" أي يسقط المطر ويتلف العنب والتين، وأوَّل شتوة تسمّى "شتوة المساطيح" أو العريش وهي أوَّل شتوة تَهلُّ في الموسم وعادةً ما تكون في نهاية موسم التين والعنب.. وسمّيت "شتوة المساطيح" نسبة لتجفيف التين والزبيب والبندورة على المسطاح. ذلك أنها تنزل ويكون الفلاحون ما يزالون يُقيمون في البيوت الصيفيّة ومُجفَّفاتهم ما تزال على المُسطاح، فيجمعونها عند هطول المطر في أوَّل شتوة ويستعدّون للانتقال إلى بيوتهم في القرى، ومعهم القُطّين والزّبيب والبندورة المجفّفة والبامية التي يتمّ وضعها في الخوابئ أو تعليقها في قلائد.
وبعد هذه الشَّتوة لا يتمّ "تسطيح" أيّ شيء في المساطيح ليجفّ، وسقوط المطر يعني نهاية التَّسطيح، (واللّي ربّع رَبّع واللي قبّع قبّع) كما يقولون.
الفلّاحات القرويّات ربّات العطاء هُنَّ أوَّل مَن ينزل للقرى قبل شتوة المساطيح. ذلك أنَّ هُناك مُهمّة مجيدة تقوم بها هؤلاء المُكافحات، حيث تتولّى النساء مهمّة تشييد البيوت وإصلاح أيّ خلل، وتتعاون نساء كل عائلة أو حُوش بهذه المهمّة بمُساعدة محدودة من الرجال.
ويتم تجهيز البيت وخُمّ الدجاج والطابون وزرائب الغنم قبل أن تهلّ شتوة المساطيح والتي تُعلن انتقال الفلّاح من حالٍ إلى حال. و"بعد عيد الصليب كل أخضر يسيب" أي تبدأ الظواهر الطبيعية الخريفية في الظهور، ومن الممكن أن يهطل المطر.
فالمَثَل يقول: (إن صلّب الصليب لا تأمن الصّبيب) والصّبيب هو المطر. ويقول المَثل أيضًا: (أيلول طرفه بالشتا مبلول) و(في الصليب المطر طروحات) بمعنى أنَّ المطر خفيف في الخريف.
تبدأ التحضيرات للموسم الزراعي مع نهاية الخريف، ويسمّي الفلاح شهر تشرين الأول (أَجْرَدْ أوَّل)، ويعود سبب التسمية لأنَّ الأرض تتجرَّد من حللها وغطائها الأخضر في هذا الوقت، وكذلك الأشجار تكون قد تجرَّدت من أوراقها. وفي مطلع تشرين الثاني يطلق اسم "الوسم البدري" وهو موسم البذار المبكر ويسمّى هذا البذار (العفير).
ومع هطول أولى مراحل المطر التي يحبّها الفلّاح (يسمى الموسم البدري) يبدأ العام الجديد وقد تسمّى (شراقى الخريف) والمثل (صلّب وخش وخمّس واطلع) يعني أنَّ شهر الصليب بدايات الخريف وشهر الخميس (نيسان) بوّابات الصيف، ولهم تسميات خاصة بهم للأشهر.
ومن الظواهر الطبيعية في هذا الوقت دخول البرد، فيقول المثل (برد تشرين أحد من السكاكين) و(برد تشارين توقّاه، وبرد الربيع استلقاه) و(ما في أنقى من قمرة تشرين، ولا أظلم من عتمة كانون) أي أنَّ السماء تكون صافية بسبب الرياح الشرقية الحارة التي تهبّ، بينما في كانون يهطل المطر. و(ما بين تشرين الأول وتشرين الثاني صيف ثاني) وهذا يدل على الأيام التي تشتد فيها الحرارة كأيام الصيف لذا تسمى "الصيفية الصغيرة"، ويقول المثل: (اللّي ما شبع من العنب والتين بشبع من ميّة تشرين).
وهكذا يتواصل الموسم فيبدأ مباشرة شهر تشرين الثاني، وأيضًا يسمّى هذا الشهر في الثقافة المحلية (أَجْرَدْ ثاني)، وربما للسبب نفسه، وفي هذين الشهرين (تشارين)، يكون موسم الزيتون، حيث يقصر طول النهار، ويقول المثل: (أيام الزيت أصبحت أمسيت).
وفي شهر تشرين الثاني وهو بداية الموسم الزراعي الثاني، يكون الموعد المناسب لبدء أعمال الحراثة وتهيئة التربة تمهيدًا لزراعة الحبوب، وشعار الفلّاح الدائم (كل شيء بالأمل إلا الرّزق بالعمل) لذا تعبِّر الأمثال الشعبيّة عن موسم الحراث ووقته فتقول: (في عيد لِدْ، اللي ما شدّ يشد) بمعنى أنَّ الفلاح الذي لم يتهيّأ بعد للحرث والبذر عليه أن يسارع إلى ذلك، و(اللي ما بحرث في الأجرد عند الصليبة بِحْرد) بمعنى مَن يحرث الأرض ويعدّها ويعتني بها في تشرين يجد محصولًا وفيرًا عند الحصاد، أمّا مَن لا يقوم بهذه الأعمال فعند الغلّة يندم ويزعل زعلًا شديدًا.
• حراثة الأرض
تعتبر الحراثة عند الفلاحين عرسًا للأرض؛ كيف لا ومَثَلهم (الأرض ابتفرَحْ لأهلها)، وتتمّ الحراثة بواسطة الدّواب (الحمير، البغال، الأبقار، الخيل) باستخدام المحراث اليدوي، وهو أداة لحراثة الأرض وقلب التربة وقلع الأعشاب، تجرّه الحيوانات، وقد يجرّه زوج من البقر، أو زوج من الحمير، وعندها يدعى (فدان)؛ وقد تجرّه دابّة واحدة (حمار واحد، أو حصان). وقد كان الناس قديمًا يصنعون المحراث من الخشب، ثم أصبح معدنيًّا. وما زال المحراث موجودًا حتى يومنا هذا، ويطلق عليه أيضًا اسم "العود" ويُستخدم "المنساس" وهو عبارة عن عصا طويلة في نهايتها ما يشبه الشُّعبة تستخدم للضغط على المحراث وتنظيف السكّة من الطين العالق ونَهر الدواب. ويسمّى مَن يقوم بهذه المهمة الحرّاث، والحرّاث يحبّ الأرض التي يتعامل معها حبًّا شديدًا،لأنها مصدر رزقه وعمله، وها هو يقول مخاطبًا الأرض التي يقوم بحراثتها تلمًا تلمًا وحبّات العرق تغطّي جبينه الأسمر:
(علينا حَمارِك وعلى الله خضارِك)، وأيضًا (رمينا الحَبّ واتَّكلنا على الرب)؛ وهذا دليل على أنهم كانوا يأخذون بالأسباب.
كما تتمّ حراثة الأرض لأكثر من مرَّة وفي المرَّة الأخيرة يقومون برشّ البذار وهي الحبوب بكافة أنواعها وتسمى (بذارًا)، ومن أغانيهم:
"يا بنت وش هو بلاك
تمشي وتجري وطاك.
قل سبع سنين بتحراك
حريا الفلاح ببذاره.
حراث يا عِمّي رَمِي ع البَقَر رَمي
وكَم مليحة تْقول للنَذِل عَمّي.
حراث يا خالي لالي ع البَقَر لالي
وكم مليحة تْقول للنِذِل خالي.
حرّاث البقر ما أطول معانيك
قتلت البقر من طول المعاني".
وفي المثل يقولون: (طول معاني البقر قصر معاني الرجال)، والمعناة هي قطعة الأرض التي يقومون بحراثتها، والحرّاث يرفق بالحيوان والطير، فالطير بأسرابه الكبيرة يأتي دون ممانع ليلتقط طعامه من البذور المنثورة في باطن التربة، وحين كان الرجل -أو المرأة- يقوم برش البذور وراء الحراث كان يقول: (الله يا رب تطعمنا مثل ما تطعم الطير في ظلام الليل).
وكانت مُعاناة الحرّاث كبيرة مع التوقيت، فهو لا يمتلك ساعة تدلّه على الوقت، فهناك عدوّان له هما "نجمة الغرارة" و"العتريف"، وكثيرًا ما كان يقع الحرّاث ضحيّتهما؛ ونجمة الغرارة هذه تشبه نجمة الصبح فيحسب الفلّاح أنَّ الصباح قد لاح، ويؤكِّد له العتريف ذلك، والعتريف هو الديك الذي يصيح في منتصف الليل فيحمل الفلّاح أدواته وينطلق للحقل ليكتشف بعد ذلك بأنَّ الوقت ما زال منتصف الليل، فلم يكن للساعة وجود في حياتهم في ذلك الزمان. والمعاناة الأخرى في انحباس المطر، وعند ذلك يتوجَّب عليهم الابتهال والدعاء إلى الله بطريقتهم الخاصة؛ حيث كانوا يخرجون صغارًا وكبارًا رجالًا ونساءً يلبسون ملابس شتوّية ويصطحبون بعض حلالهم، وكانت المسيرة تحمل "لُعبة" على شكل امرأة وهي عبارة عن غصنين من أغصان الشَّجر، تربط على شكل صليب، ثم توضع عليها ملابس رثّة قديمة، وتُلفّ على رأس الغصن الأوسط كوفيّة أو منديل وتسمّى "أم الغيث"، وكانوا يردِّدون:
"يالله الغيث يا دايم
تسقي زرعنا النايم.
يالله الغيث ياربي
تسقي زرعا الغربي.
يا ربي مطر مطر
تسقي حلق هالبقر.
يا ام الغيث ويا بدعج
خلي سيلنا يدعج.
ويمّ الغيث وغيثينا
واسقي زرع اهالينا.
وراعينا حسن الاقرع
لا بشبع ولا بقنع.
ويا ربي تبل الشرتوح
وقبل نحمل قبل نروح.
وقبل نروح ع بلاد الناس
وبلاد الناس ما بتحميناش.
ويا ام الغيث ويا دايم
ويا ام الغيث ويا دايم.
وتبللي زريعنا النايم
وتبللي زريعنا النايم.
عشانه للكرم دايم
عشانه للكرم دايم.
ويمّ الغيث غياثه
لدار الشيخ ضيّافه".
وحين كانت النسوة يتوقفن أمام أحد البيوت، كُنَّ يطلبنَ المعونة، في أغنيات تحمل الأماني السعيدة لصاحبة الدار:
"واللي تحط في المنخل
ريت ابنيّها يدخل.
واللي تحط في الغربال
ريت ابنيها خيّال".
ولشدّة الحرارة أيّام انحباس الغيث كانت النساء يردِّدن:
"ويمّ الغيث ويا دنه
ويمّ الغيث ويا دنه.
وقربتنا غدت شنه
وقربتنا غدت شنه".
وقبل أن تعود المسيرة إلى البيت الذي انطلقت منه، وحتى يكون الأمل قد تحقَّق وينزل المطر
فإنَّهم هنا يسخرون من أم الغيث التي عملوها لأنها لم تحقِّق مرادهم، بل حقَّقه الكريم ربّ السموات والأرض، فيقولون:
"راحت إمّ الغيث اتجيب المطر
ما اجت الا الزرع طول الشجر.
راحت إمّ الغيث اتجيب الرعود
ما اجت الا الزرع طول القاعود.
راحت إمّ الغيث اتجيب الزلزال
ما اجت الا الزرع طول السنسال.
راحت إمّ الغيث اتجيب الرشاش
ما اجت الا الزرع طول الجحاش".
أمّا في حال هبوب رياح باردة، لا تصحبها الأمطار المرجوّة والمُنتظرة، فكانوا يُنشدون:
"يامّ الغيث ويا طقعه
يامّ الغيث ويا طقعه.
وقتلتينا من السقعه
وقتلتينا من السقعه".
كانت العادات والتقاليد تسود أكثر من سيادة الثقافة والوعي الاجتماعي والعلم، وكانت الأغاني الشعبيّة تشكِّل حلقة الوصل بين الماضي والحاضر، وتعبِّر عن تعلُّق المواطن بأرضه، وحبّه الشديد لقريته وحرصه على حماية تراثها. وتَحفظ هذه الأغاني شخصيّة المواطن وعواطفه وهمومه باللهجة العامية المتداولة في كل قرية أو مدينة أو بادية. لقد كانت حياتهم حافلة بالفرح والتكاتف والتعاون فيما بينهم، ولم يكن لديهم من تكنولوجيا هذا العصر ما يشغل بالهم عن أعمالهم؛ فحياتهم زاخرة بالعمل ويحدوها الأمل.