الثقافة والتفكير الاستراتيجي والتنمية ‏"شهادة في مئويّة الدولة الأردنيّة"‏

‏ عبد المجيد جرادات

كاتب ومحلل أردني

 

 

إنَّ فكرة الاعتماد على الذات المطروحة من قِبَل دوائر صنع القرار في الدولة الأردنيّة ‏تستدعي بالضرورة التفكير الجاد بالحقائق حول التساؤلات التالية: كيف سيتطوّر ‏العمل في ظلِّ التحوُّلات الاجتماعيّة البنيويّة والتي جاءت بمختلف أنماط الاستهلاك، ‏ودون احتياطات تصون حسّ التناغم والتوازن بين الناس؟ وإلى أيّ مدى يُمكن ‏الاستعانة بمنظومة القيم التي نحسب أنها تُبقي على الوجه المُشرق في طبيعة العلاقات ‏الاجتماعيّة؟ وبين جدليّة الإنتاج والاستهلاك الثقافيين، تبرز الأسئلة الفكريّة التي ‏تطرح أهم القضايا، وتجتهد عبر تعدُّد المقاربات، وفقًا لموضوعيّة التحليل ودقة ‏التشخيص.‏

‏ ‏

قبل سنوات وفي مؤتمر دولي للنَّقد الأدبيّ(*) قال أحد المداخلين: "أين يقف المثقف ‏العربي من قضايا أمّته؟ وهل يمتلك أهل الفكر الإرادة والقدرة ليكونوا فاعلين في ‏صناعة الأحداث؟ أم أنهم يتمركزون حول ذاتهم حتى لا تفسَّر مواقفهم على أنَّها ‏تندرج ضمن مفهوم التدخُّل أو التَّطاول على صلاحيّات أو سياسات دوائر صنع ‏القرار؟".‏

كان من الطبيعي أن يتشعَّب النقاش حول هذه الإشكاليّة بحكم جملة عوامل، أهمّها ما ‏يرتبط بالظروف الاقتصادية والخطط التنموية، وما تحدثه من متغيرات اجتماعية، يلي ‏ذلك حركة التطوُّر المتسارعة في مختلف حقول العلم والتكنولوجيا: أمّا السؤال الأهم ‏في ذلك المؤتمر فقد تركّز حول (المرتبة) التي تحظى بها التنمية عندما يُصار إلى ‏توزيع إيرادات الدخل القومي من خلال موازنة الدولة.‏

تذكّرتُ ذلك ونحن نتابع مجمل النشاطات والفعاليّات التي تُنظَّم بمناسبة مرور المئوية ‏الأولى للدولة الأردنية وبدء المئوية الثانية بكل ما فيها من قراءات لتجارب الماضي، ‏وطموحات نحو المستقبل، ولأنّنا نلمح (همّة عالية وتوجُّهات جادة على مختلف ‏المستويات نحو التطور المنشود والإصلاح المأمول)، وعليه فإنَّ هذه الدراسة ستحاول ‏تتبُّع واقع التحوُّلات الاقتصادية، منذ نهايات عقد الثمانينات من القرن الماضي، وأين ‏حصلت الاختلالات التي تقاطعت مع الوعود التي قيل في حينه إنَّ الشعوب ستنعم ‏بخيرات أوطانها بعد أن تمارس حريّة العمل بمشاريعها الواعدة.‏

في بدايات الحديث عن العولمة وعلاقتها بالتنمية، وبعد أن توجَّهت الحكومات للتخلي ‏عن دورها في الإدارة الاستراتيجية للموارد المالية والبشرية، ركّز خبراء الاقتصاد ‏على القول: "إنَّ مظاهر التطوُّر تستوجب التركيز على الانفتاح الإيجابي مع ‏الآخرين"، ومن بين العناوين التي حظيت بالمناقشة أنه سيتم توظيف النظريات التي ‏تنسجم مع طموحات وتطلعات الأغلبية، بحيث تكون سياسات التعامل مبنية على قدر ‏معقول من التكافؤ، إذ بخلاف ذلك ستتكرَّس التبعيّة بمعناها السلبي، وبناء على هذه ‏الفرضيات، فقد اتُّفق على أنَّ النهوض الاقتصادي يعتمد على مبدأين، أولهما: سياسة ‏عليا ترسم الخطط وتضع برامج العمل، أمّا المبدأ الثاني فهو: ضرورة ديمومة توفير ‏فرص العمل بكل الوسائل المتاحة من قبل القطاع الخاص سعيًا لإحداث التنمية ‏الاقتصادية المستدامة. فكيف كانت النتائج والمخرجات؟

في محاولة الإجابة نؤكِّد على أنَّ النتائج لم تكن بحجم الوعود والطموحات، فقد اتَّسعت ‏دائرة المعاناة على مستوى الشرائح التي تبحث عن قوت يومها، وضاقت الحال في ‏أكثر من اتجاه، ولنا أن نوضِّح جملة حقائق على النحو التالي:‏

أولًا: على الرّغم من التزام دوائر صنع القرار في الدولة الأردنية بكل الوصفات التي ‏جاء بها النظام العالمي الجديد، إلّا أنَّ الأهداف المنشودة لم تتحقق خلال ما يزيد على ‏عقدين ونيّف من الزمن، وتأسيسًا على تجارب الماضي، فإنَّ خبراء الاقتصاد يرون ‏أنَّ أبسط متطلبات العمل خلال المئوية الثانية للدولة الأردنية تتطلّب التركيز على مهمة ‏التخطيط والتفكير الاستراتيجي، إلى جانب السعي لتحديد الميزة التنافسية للاقتصاد ‏الأردني على المدى المنظور. ‏

ثانيًا: تُعرَّف التنمية الاقتصادية على أنها مجموعة من الخطط طويلة الأجل، يتم ‏بواسطتها تحقيق زيادات في متوسط دخل الفرد الحقيقي من خلال مضاعفة الإنتاجيّة ‏والتغيير نحو الأفضل، وهذا يتطلب تحقيق الترابط والتنوُّع في هيكل الاقتصاد؛ ‏والمقصود هنا هو إيجاد نوع من التوازن بين الشرائح الاجتماعية محدودة الدخل من ‏جهة، وأصحاب المشاريع الواعدة والشركات المليئة من جهة أخرى، وفي هذا السياق، ‏يقولون إنَّ النموّ الاقتصادي يتمثّل بحجم التزايد في الدخل الحقيقي أو الناتج القومي، ‏وعندما يتطوّر الحال هكذا، تكون النتيجة هي الرخاء الاقتصادي الذي يؤدي للازدهار ‏وإشاعة الأمل نحو توطين الفعل الذي يصنع المنجزات.‏

ثالثًا: تشكِّل التنمية الاقتصادية حجر الأساس في عمليّتي البناء والاستقرار، وهي ‏تحتلّ موقعًا متقدمًا من حيث توظيف الجهود وتوجيه الموارد، ولهذا نلمح أنَّ الجهات ‏المعنية بالإدارة الاستراتيجية للموارد البشرية، تركز على النوع بالنسبة للنمو ‏الاقتصادي قبل الكَمّ، على اعتبار أنَّ الهدف المراد تحقيقه هو وجود حلول تعالج ‏أزمات البطالة وتحقق العدالة، وتضمن وجود العمالة، وآنذاك تتهيّأ متطلبات التنمية ‏الاجتماعية والتي توطن منظومة القيم والعادات التي تحثّ على الإيثار والتفاني في ‏خدمة المصالح العليا للجميع.‏

رابعًا: تعتبر المعلومات من أهم متطلبات التنمية الاقتصادية، وهي تمثل عنصر ‏التحدّي لكل فرد في المجتمع لصلتها بمجمل النشاطات البشرية، وتُعدُّ المعلومات من ‏أسباب تطوُّر ونمو المجتمعات، لأنها تسهم في وضع الخطط الوطنية والسياسات ‏الاقتصادية سعيًا لخدمة الطموحات العليا والتطلعات الرياديّة.‏

‏***‏

يأخذ التفكير الاستراتيجي والتنمية مكانًا بارزًا في بناء وإعداد الخطط المستقبلية، ‏وتهتم المدارس الفكرية والاقتصادية بذلك، خصوصًا في ظلِّ اتِّساع الفجوة بين الدول ‏الصناعية، وتلك التي تعاني من شح مواردها الطبيعية، وما يترتب على ذلك من ‏محددات ومفارقات، ومن أبرز تعريفات التنمية أنها "مجموعة من الخطط والسياسات ‏التي تسعى للرقيّ الاجتماعي والازدهار الاقتصادي".‏

توصف التنمية البشرية على أنها المعيار الجوهري في تقييم الجهود الإنمائية، ذلك لأنَّ ‏الإنسان هو هدف التنمية وهو صانعها في الوقت نفسه، وفي عالم اليو: تتأثَّر أحوال ‏التنمية البشرية في العديد من الدول بحكم الكثير من المتغيرات والمحددات الاقتصادية، ‏أو التقلبات السياسية، سواء كان ذلك في الإطار الإقليمي أم في الإطار العالمي، ويبقى ‏أنَّ الحديث عن المتغيرات في المنطقة العربية، يبدأ من مشكلة فقدان مقوّمات ‏الاستقرار وغياب أسباب التوازن الذي يُقوّي البناء الفكري ويعمل على التحصُّن ‏الثقافي الذي يُعزز مفهوم التماسك الاجتماعي.‏

يتفق خبراء العلوم الاجتماعية على أنَّ للتنمية البشرية بعدين أساسيين، أولهما، يهتم ‏بمستوى حالة النمو الإنساني في مختلف مراحل الحياة، والذي يشمل نمو المهارات، ‏وطاقات الإنسان الروحية والعقلية والجسدية، من خلال ما يتطلبه الإشباع المتنامي ‏لمختلف الاحتياجات بعناصرها المادية والمعنوية. أمّا البعد الثاني، فهو أنَّ التنمية ‏البشرية تُعتبر عملية تتصل باستثمار الموارد والمدخلات والأنشطة الاقتصادية التي ‏تضاعف الثروة اللازمة، وهذا يتطلب اعتماد أسس تنظيمية تتفاعل مع أحدث ‏النظريات العلمية والابتكارات التكنولوجية.‏

 

التفكير الاستراتيجي ‏

ودوره في التنمية الثقافيّة والاقتصاديّة

يعتمد التفكير الاستراتيجي على التنبؤ الحذِر وضرورة التركيز على البُعد المعرفي في ‏مسيرة العمل التي يتم من خلالها تحديد الأهداف والتعرف على أهم التحديات، وهذا ‏يستدعي دراسة جميع أنواع الموارد والإمكانات المتوفرة في البيئة الاجتماعية، وكيف ‏يُمكن استخدام هذه الموارد بقصد تحسين الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية واستثمار ‏الحقائق المعرفية والمعلومات من أجل تسليط الضوء على قضايا الإصلاح باتجاهات ‏التطوير والتجديد، ثم توجيه الأدوار، فيما يختص بسبل الإنتاج، وفي هذا الميدان، ‏تنشط فعاليّات العمل بوضع البرامج والمشاريع المبنية على دقة الاستشراف بالنسبة ‏لبيئة العمل؛ ولهذا فإنَّ عملية التفكير الاستراتيجي، ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالدراسة ‏العلمية للموارد البشرية والاقتصادية والطبيعية ومعرفة مدى كفايتها وأنماط توزيعها.‏

يوجَّه التفكير الاستراتيجي نحو التغيير الذي يأتي منسجمًا مع اتجاهات الناس وميولهم ‏وأفكارهم وقيمهم، ومحققًا لرغباتهم وما يطمحون إليه، وتستطيع الدولة عن طريق ‏التفكير والتخطيط أن توظف طاقاتها سعيًا لمبدأ مواكبة التقدم الحضاري، وعندما ‏تتبلور هذه القيم بسلوك الجميع، فإنَّ النتيجة المتوقعة هي الميل التلقائي من قِبَل الجميع ‏نحو الثقافة الإنتاجية والتنمية المستدامة.‏

أين يقف الضمير الجمعي من مصطلح التفكير الاستراتيجي وأساليب النقد الأدبي؟ وما ‏هو دور العادات والتقاليد السائدة في ظلِّ حالة التداخل غير المنضبط بين السياسات ‏والأيدولوجيات؟

نميل لطرح هذه التساؤلات، لأنَّ معتقدات الإنسان تعود في جوهرها إلى الانطباعات ‏الحسيّة، وما يترتب عليها من قناعات، وفي هذا السياق، نقرأ في كتاب المفكر إبراهيم ‏زكريا الذي حمل عنوان "برغسون" والذي يوثق فيه ما قاله الفيلسوف الفرنسي ‏‏"برغسون" عن (أنَّ النموّ والنّضج والديمومة) هي دلالات على تطوُّر الكائن الحيّ ‏وانتقاله من حالة إلى أخرى، يرتبط فيها حاضر الإنسان بماضيه، بحيث تكون النتيجة ‏هي الإطلالة على المستقبل عبر معطيات الحاضر.‏

يتزايد الحديث خلال هذه المرحلة عن أزمات التنمية وتحدّياتها، بخاصة وأنَّ حدّة ‏ارتفاع الأسعار عالميًا ومحليًا بدأت تؤثر على حس التناغم ومفهوم التوازن ‏الاجتماعي، بحكم تآكل الدخل الفردي للأغلبية، ومحدودية موارد الدخل القومي للعديد ‏من الدول، وهنالك مؤشرات عن ارتفاع أعداد الباحثين عن العمل في بعض الدول ‏الغنية والصناعية، كما هي الحال في الدول التي تعاني من شح مصادر دخلها، وفي ‏ظلّ القيود السياسية ونفوذ البلدان المتقدمة على الهيئات والجهات الدولية التي تموّل ‏المشاريع الإنشائية أو التنموية، فإنَّ تقاطعات المصالح الاستراتيجية بين الدول العظمى ‏والصناعية، تسير بالاتجاه الذي يُبقي على منسوب المعاناة بالنسبة لشرائح كبيرة من ‏المجتمعات في الدول النامية، وهذا بالطبع يتعارض مع التوجُّهات التنموية التي تسعى ‏لمعالجة الاختلالات والتباينات في المسارين الاجتماعي والاقتصادي، ولهذا، فإنَّ فكرة ‏الاعتماد على الذات المطروحة من قبل دوائر صنع القرار في الدولة الأردنيّة تستدعي ‏بالضرورة التفكير الجاد بالحقائق حول التساؤلات التالية:‏

‏-‏ كيف سيتطوّر العمل في ظلِّ التحولات الاجتماعيّة البنيويّة والتي جاءت ‏بمختلف أنماط الاستهلاك، ودون احتياطات تصون حسّ التناغم والتوازن بين ‏الناس؟

‏-‏ إلى أيّ مدى يُمكن الاستعانة بمنظومة القيم التي نحسب أنها تُبقي على الوجه ‏المُشرق في طبيعة العلاقات الاجتماعيّة؟

‏-‏ بين جدليّة الإنتاج والاستهلاك الثقافيين، تبرز الأسئلة الفكرية التي تطرح أهم ‏القضايا، وتجتهد عبر تعدُّد المقاربات، وفقًا لموضوعيّة التحليل ودقة ‏التشخيص.‏

‏ ‏

كان الراحل د.محمد عابد الجابري (1935- 2010م) قد أشار في كتابه (إشكاليات ‏الفكر العربي المعاصر) إلى أنَّ مهمّة الرّبط بين الفكر والواقع، تأتي بعد عمليتين ‏أساسيتين، الأولى تحليل الواقع بهدف الكشف عن بنيته، سعيًا لاستخراج ثوابته ‏ومتغيراته واستخلاص نموذجه الصوري، أمّا العملية الثانية، فهي تحليل صورة الواقع ‏كما تنعكس في وعي الناس، وبعد هاتين العمليتين يُصبح الربط الجدلي بين الفكر ‏والواقع ممكنًا.‏

يُمثل الفكر من حيث المحتوى، جملة الآراء والمواقف التي يُعبر الناس بواسطتها عن ‏مشاكلهم واهتماماتهم، والتي تشمل المعتقدات والطموحات والرؤية، وبهذا الوصف ‏فإنَّ الفكر هو الأيديولوجيا بمعناها الذي يشمل السلوك الديني والسياسي والاجتماعي ‏والفلسفي، وبذلك تتَّسع مفردة (الفكر) لكل المنتجات، وبالتالي، فإنّ الفكر هو أداة ‏لإنتاج المعرفة. وبمعنى أدق؛ يشمل الفكر مبادئ ومفاهيم وآليات تنتظم وتترسَّخ في ‏الذهن، تبعًا لتطور الحياة ببعدها الزمني وما يتخلّله من محطات وتجارب. ‏

 

ما هي القواسم المشتركة بين الفكر والثقافة؟

أثناء تتبُّع البُعد الزمني منذ عصر التدوين والترجمة، نجد أنَّ هنالك ثلاثة نظم معرفيّة، ‏يُقدِّم كل منها رؤية خاصة للعالم، ويوظف مفاهيم معيّنة وآليات في إنتاج المعرفة، ‏ويُمكن توضيح هذه النظم على النحو التالي:‏

أولًا: النظام البياني، والذي تحمله اللغة العربية، وقد كان يؤسس وحدة المجال التداولي ‏والحقل المعرفي للفكر العربي في عهد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والخلفاء ‏الراشدين والدولة الأموية، ومع الزمن تطوّر هذا النظام من حيث المنهج والمفاهيم، ‏والسبب يعود لنشأة ونموّ العلوم العربية الإسلامية، وبالتحديد النحو واللغة والفقه ‏والكلام والبلاغة، فأسَّس بذلك منهاجًا لإنتاج المعرفة.‏

ثانيًا: النظام العرفاني، وهذا النظام جاء للدائرة العربية من الموروث الثقافي الذي ‏سبق الإسلام.‏

ثالثًا: النظام البرهاني، والذي دخل الثقافة العربية الإسلامية مع الترجمة وبالتحديد من ‏عصر المأمون، ومن المعلوم أنَّ هذا النظام يقوم على رؤية للعالم، مبنية على الترابط ‏السببي ويكرس منهاجًا في إنتاج المعرفة، يقوم على الانتقال من مقدمات يصنعها ‏العقل، إلى نتائج مثبتة منطقيًّا، بحيث تشكل هذه النظم بمجملها مفاهيم البيان والعرفان ‏والبرهان.‏

يقولون إنَّ الثقافة التي تنعم بالقوة الفكرية، تكون قادرة على طرح القضايا الملحّة، ‏بمنهجيّة تستند على دقة التشخيص واختيار أفضل الحلول، وفي محاولة الربط بين ‏متطلبات الحداثة، وعناصر القوة التي يُشكل الاقتصاد أحد أعمدتها، يتجلّى الحديث ‏عن منظومة القيم التي تسهم في التحريض الذاتي على أهمية المواكبة بما تعنيه من ‏إرادة، وقدرة على السير في ركب التطوّر الذي يتطلب في العادة تنسيق الجهود وحشد ‏الطاقات، وكل ذلك من أجل مضاعفة المنجزات التي تعزز مسيرة الدولة الفكرية ‏والحضارية.‏

في الوقت الذي نرى فيه أنَّ قضية التنمية تشغل العلماء والمخططين والمنفذين، فلا بدّ ‏من الإشارة إلى فلسفة (التحديث) الذي يوصف بأنه عملية تباين وتفاضل مستمر في ‏البناء الاجتماعي، بحيث تتحقق معادلة إتقان التخصص، كل في مجال عمله، وهي ‏منهجية عملية تطمح لتنسيق وتكامل الجهود على مختلف المستويات؛ ومن خلالها يتم ‏اعتماد القواعد والمعايير المنظمة لمجموعة القيم والعادات التي توجِّه سلوك طواقم ‏العمل نحو الإتيان بمعادلات خلّاقة من شأنها تجاوز النظريات والتجارب التي عفى ‏عليها الزمن ولم تعُد من أدوات المرحلة.‏

 

الخلاصة

توصف التجربة الفكريّة العربيّة، بأنَّها متجدِّدة وتناضل من أجل الحياة، ووفقًا لما ‏استنتجه ابن خلدون، فإنَّ واقعة التقدُّم هي السمة الظاهرة على هذه التجربة، وقد تجسّد ‏ذلك في التراكم الفني للأفكار والعلوم، وفي التنوّع الثري في المذاهب والمؤسسات ‏والنظم المبدعة، إلى جانب الانفتاح المستمر على كل المظاهر الحضارية الإنسانية ‏القديمة منها والحديثة على حد سواء، والمهم في عملية البحث هو أنَّ (الحقيقة) كانت ‏على الدوام غاية تستدعي ضرورة المثابرة دون كلل؛ وقد شهد الفكر العربي على مر ‏العصور، جهودًا متواصلة، تبلورت من خلال المشاركة والإسهام في إغناء التجارب ‏الفكرية وإثرائها بالبحث الذي تسمو فيه الثقافة، وتزدهر من خلاله أدوات التنمية.‏

أمّا التنمية بشقيها الاقتصادي والاجتماعي، فهي تعتبر قاعدة الانطلاق نحو التجدُّد ‏والازدهار الذي يؤمّن الاستقرار، ومن المؤكد بأنَّ النظم الثقافية والاجتماعية، تعزز ‏متطلبات تنمية الموارد الإنتاجية، ومن هنا تبرز الحكمة في بذل الجهود لرفع مستوى ‏الكفاية الإنتاجية آخذين بعين الاعتبار أنَّ فلسفة بناء المجتمع تؤكد على أن التنمية ‏الاجتماعية تقترن بالتنمية الاقتصادية، وهذا يستدعي التوافق من قبل الجميع على ‏أهمية محاصرة حالة (التراخي) التي تبلورت أثناء مرحلة "الكورونا"، وضرورة ‏التحلّي بالإرادة الصلبة في التغيير نحو الارتقاء بعيش الناس وصون مستقبلهم، وتلك ‏هي أبرز مخرجات الفعل الثقافي الذي يستند على الفكر النيِّر من أجل مسيرة التنمية ‏بكل أبعادها.‏

المهتمون بالتفكير الاستراتيجي يقولون إنَّ الإنسان هو صانع قدره، والناهض ‏المسؤول بأعماله وأفعاله وعندما تتوفر أدوات التصميم نحو المثابرة، فلا بد أن يكون ‏المرء مؤثِّرًا أو متأثِّرًا بالمعطيات الخارجية الطبيعية والاجتماعية والتاريخية، وهذا ‏يؤكد أنَّ حيوية الدور الإنساني تثري واقع أمّته الحضاري، شريطة أن يرتبط هذا ‏الدور بوجود الإرادة التي تعزِّز الدافعيّة وتجدِّد الأمل.‏

‏- - - - - - - - - - - - - - - - ‏

‏(*) عقد المؤتمر في مطلع تموز عام 2009 في جامعة عبدالحميد بن باديس- الجزائر.‏