د. خلدون امنيعم
شاعر وناقد أردني
تندرجُ المواطَنة بحكم تأنيثها، لغويًّا، ضمن لائحة المحكوم بالإقصاء والتّهميش والنّفي أحيانًا، ذلكَ أنّ آلياتِ التّمثيلِ الرّمزيّ التي تختزنها اللّغة تفتحُ للمفهومِ -وليس هذا منطقَها- بابَ التّداول الاجتماعيّ في غفلة العقل؛ ليكونَ التّذكير أصلًا والتّأنيث فرعًا، ما يجعل اللّغة تعمل وفق المخيال الاجتماعي وترميزاته، وليسَ ضمن أطر المنطق اللّغوي وحسِّه؛ ليولدَ مفهومُ "المواطَنة" منطويًا على أُولى جروحاتِه اللّغويّة والثّقافيّة.
لكنَّ اللّغةَ ذاتها، في غمرة امتثالِها للجرح، تمتلكُ القدرةَ في الاحتيال على الجرح عبرَ صرختِها الخاصّة، ونافذتُها الشّعرُ، بوصفِه الفاعل الرّمزيّ في ذهنيّة مُنتج اللّغة، محدثةً بمنطق اللّغة لا منطقيّة الدّلالة في التّداول الاجتماعيّ والثّقافيّ والرّمزيّ، ليكونَ المستثنى هو ذاتُه المستثنى منه، بخاصيّة الإدهاش اللّغويّ المفارق، في بكائيّة البردوني:
"هذهِ كلُّها بِلادي، وَفيها كُلُّ شيءٍ، إلّا أنا وَبِلادي"
إنّها صرخة المفهوم الأكثر حدَّةً وألمًا، صرخة المهمّش والمنفيّ والمقصيّ للذّات (المواطن) والمعنى (المواطَنَة)، فما قيمة الذّات دون معناها، وما قيمة الوطن دون مواطنيه، تلك الصّرخة الكاشفة لمفهومٍ وُلِدَ جريحًا، وما يزالُ قيدَ التّعليق، وكأنّه عبءٌ أخلاقيّ وسياسيّ في الفضاء العربي.
وفي فضاءِ آخر، فإنّ الإطلالة على مفهوم المواطنة في فضاءاتٍ ثقافيّة واجتماعيّة وسياسيّة مغايرة تكشف عن كونه مَرَّ بمخاضاتٍ عسيرة عبرَ عصرَي النّهضة والتّنوير، وفعاليّة حاسمة للثّورات الإنجليزيّة والأميركيّة والفرنسيّة المتلاحقة، التي شكّلت قوادح حقيقيّة لاستنباته، تزامنًا مع المهادات النّظريّة، التي شكّلت أدبيّاتِ المفهوم الرّئيسة من "ميكافيلي" إلى "هوبز" و"جون لوك" و"روسو" و"كانط"، وبروز نظريّة العقد الاجتماعي ودولة التّعاقد، ليكونَ الإنسانُ هوَ الغايةُ في صيغِ التّحديثِ السّياسيّ، وفقَ مبادئِ الحريّةِ والمُساواةِ والاستقلاليّةِ، في اسْتبدالٍ جذريٍّ لمفهومِ الرّعيّةِ مقابلَ مفهومِ المُواطَنةِ، في نفي واضح لاعتبارات الجنس والعرق والمعتقد والثقافة والمكانة الاجتماعية، وصولًا لدولةٍ مدنيّةٍ ديمقراطيّةٍ -هو أساسًا لصيقٌ بها- ضامنةٍ لحقوق الإنسان وكرامته.
في المقابل، تزخرُ المدوّنات العربيّة الرّسميّة في دساتيرها ومواثيقها بالمفهوم وأدبيّاته، فتبهتُكَ قيمُ المواطنة وأهدافُها، من مثل: سيادة القانون والفصل بين السّلطات (الفصل: لا التّشاركيّة)، والشّفافية، والمسؤوليّة، والمساءَلة، والمساواة، والتّسامح، والوسطيّة، والتّعدديّة، واحترام التنوّع، والمشاركة السّياسيّة، والالتزام بالديمقراطيّة، والتّحرُّر من التّعصّب والتّمييز، وتعزيز مبادئ حقوق الإنسان، والإيمان بالحوار وتقبُّل الآخر (تقبُّل الآخر: على افتراض الأنا المركزيّة والآخر هامشيّ يدور في فلكه)، والحقوق القانونيّة والدّستوريّة والسّياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والاجتماعيّة؛ لتتشكّل الصّدمة المفارِقة بينَ النّص وتطبيقاته، والنّظريّة وامتداداتها الواقعيّة، وهنا مكمنُ الجرح والصَّرخة.
وأعتقدُ أنّ مصطفى وهبي التل، بمخيّلته الشّعريّة الصّافية، وأصالة رؤيتِه الإنسانيّة، سبق هذه الطّروحات والمدوّنات، مؤصِّلًا مفهومَ المواطنة الجريحة بالتّأنيث والمفارقات، بالنّص على كونِها تجسيدًا لوطنٍ، الجميعُ فيه سواسيةٌ: "لا عبدٌ ولا أمَةٌ، ولا أرقّاءَ في أزياءِ أحرار"، في تبرئةٍ فصيحة قويمة تُخضع المفهومَ لسلطة المنطق اللّغوي، في استباقٍ مبكّر لبكائيّة البردوني الوطنيّة والإنسانيّة، التي ما تزال تسري في المآقي العربيّة.
لكنّ الأسئلة ملحّة في وجعها، ومنها: هل نحن بحاجةٍ لتجذير المفهوم واستعماله كلّ هذا الأمد وفق تجارب أخرى مغايرة، أمْ يمكن للمُثاقفة والأقْلمة استدراجُه والاشتغالُ عليه في هذا المناخ العالمي والعولمي، الذي يستحيل الانفصال عنه من جهة، ولا يعقل الدّوران في هامشه من جهة أخرى؟ وهل مردُّ جراحات المفهوم في المشهد العربيّ، ثقافيًّا واجتماعيًّا وسياسيًّا، أنّه لم يعبرْ بوّابات الاشتغال والاختمار والتّجريب عبر عقود، ليتعافى، ويصلح للمارسة والتّداول العمليّ؟ أمْ أنّ أسئلة الهُويّات الفرعيّة تتنافى مع وجوده وضرورته؟
أحدُ الأبواب التي يجب أن تُطرقَ للإجابة، وهي كثيرةٌ، ويتمّ التّعامي عنها أو التّستّر عليها أو تجاهلها، باب الهُويّات الفرعيّة، التي تصبح ديناميّة محرّكة وعنصرَ غنًى في مجتمعات المواطنةِ والمدنيّة، مُشكِّلةً لوحتَها القائمة على وعي التّنوُّع وضرورته؛ لِتتّسع مساحةُ المشترك بينَ مواطنيها إلى حدود المطلق، لا أصلًا في الشّرذمة والتّخالف والتّناحر، فلا معنى للهُويّات دون حيازتها الحدّ الأدنى من شروط الكرامة الإنسانيّة، بل إنّ افتقادها لشرط المشترك الإنساني والوطنيّ يجعلها في مشهد صراعيّ وتناحريّ، وهو ما يبرز في المجتمعات القاصِرة والدّول الأمنيّة، فتكون الهُويّات، بذلك، مُقدَّمةً على الحريّات المدنيّة والدّيمقراطيّة، وينسحب مفهومُ المواطنة لمصلحة مفردات الانتماء؛ ولعلّ هذا عائد، كما يرى فتحي المسكيني، إلى أنّ الثّقافة التي ننتمي إليها منذ أكثر من قرن تعاني انفصامًا مريعًا، يتجوهرُ بصراع تيارَين: "علماني يستعمل الحريّة ضدّ الهويّة، وسلفي يستعمل الهويّة ضدَّ الحريّة في دول، لم تصنع عبرَ عقود غير جهاز الهويّة الصّراعي الكفيل بإنتاج هذا الفصام". وصراع كهذا، كفيل بوأد فكرة المواطَنة، ما يعني هدم مقوّمات الأمل بمجتمع مدنيّ، وتعطيل الدّيمقراطية إلى أمد غير معلوم.
وأمّا الربيع العربي، فإنَّ من مفارقاتِه الجارحةِ والكاشفةِ لأوجهه، أنّه تكلّف عناءَ الإجابة عن أسئلة الآخر، ولم يجبْ عن أبرز أسئلته: سؤالِ المواطَنة، ما استحالَ في أحد مآلاته إلى خريفٍ مُرّ، وللخريف، كما للمواطنةِ، صرختُهُ، صرخةُ الدّراويش في الفضاءِ العربيّ: "وحياتُنا هيَ أنْ نكونَ كما نريدُ. نريدُ أنْ نحيا قليلًا لا لِشيءٍ... بَلْ لِنحتَرِمَ القِيامةَ بعدَ هذا الموت".