مزهريّة

 

قصة: بيان أسعد مصطفى

كاتبة أردنية

 

 

ارتأت أمي أنَّ حمْلَ حقيبة كبيرة مليئة بكل ما يمكن أن تحتاجه المرأة وهي في الخارج على ‏ظهرها، بدلًا من حقيبة صغيرة تلائم كل شيء؛ هي صورة غير مماثلة للمرأة التي نراها كل ‏يوم، ومن هنا يتغيَّر سياق المجتمع بالكامل، إذ إنَّ المرأة كما عوَّدتني نظريَّتها هي أساس ‏المجتمع؛ بحزنها ينكسر شيء ما، بفرحها تطلع زهرة في مكان جميل. ومن هنا فإني كل يوم ‏أرى أمي زهرة جميلة يانعة، كبرت على ذكريات طفولتي حين كانت تحبو وأنا على ظهرها، ‏وتغني لي أغانٍ نؤلفها معًا، أمي التي لم تعرف إلى الآن أنني في إحدى أيام الدراسة كنتُ أحمل ‏حقيبتي المدرسيّة على ظهري كالمعتاد واضعًا فيها مزهريّة. ‏

كنتُ في المرحلة الإعدادية وكانت الحقيبة ثقيلة للغاية حتى صرتُ أحملها مرّة على ظهري ومرّة ‏في يدي، فتحها صديقي ونظر إليّ بتعجب، ثم استفسر عن أمرها خاصة أنني لم أحمل بجانبها ‏الكتب، فابتسمتُ وأخبرته بالأمر ولم أتفاجأ من جوابه. وشاءت الصدفة أن يغيب معظم المعلمين ‏في ذلك اليوم والباقي لم يفتشوا عن كتبي، ولكنهم لم يغفلوا عن المزهرية الجميلة التي قد ‏وضعتها قرب النافذة، الجميع هنّأني على هذه اللفتة الجميلة والتغيير الجميل، صرت أنظر للجميع ‏وأتأكد أنَّ ملامحهم جميعًا قد تغيّرت فعلًا وخاصة زميلي الرسّام، فقد كانت عيناه تلمعان ‏وابتسامته بقيت لوقت طويل جدًا. ‏

انتبهتُ لهذا الأمر الغريب الذي لم أعرف أحدًا يعاني منه، وهو أنني عندما أقرأ رواية مثلًا أو ‏أشاهد فيلمًا تظلّ الشخصيات معي في الغرفة نفسها، وتشاركني اللحظات، تظل ظلالها معي، ‏تحمّلني مشاكلها وحبها وملامحها، تبقى لوقت أطول من اعتقادي بوجودي، مع أنني أحمل ‏تفاصيل كثيرة في حياتي، تفاصيل مملّة وأخرى ممتعة إلى حد كبير. حين أجلس على طاولتي ‏تجلس معي وأصير أسمع حواراتها وأحاول موازنة العقل مع العاطفة لأتفاعل معها، وحين ‏أخرج أسحبها معي كموسيقى أغنية نسيت كلماتها ولكنها تظلّ ترنّ في أذني، وتظلّ تذكِّرني بها. ‏

مرّة كنتُ أسير في الغابة ومعي مصباح ضوؤه خافت ربما بسبب الضباب، حينها شعرتُ أنَّ ‏هناك مَن ينتظرني في الطريق، أو أنّ هناك أحدًا خلفي ولكني لا أراه، لا أعلم ربّما كلّما أدرتُ ‏وجهي اختفى، أو ربّما كالعادة أحد ما قد تعلّق بعيني وأنا أنظر إلى شاشة التلفاز، تابعتُ سيري ‏وحدي في الغابة، نعم وحدي، كل حين أذّكر نفسي بذلك، فجأة رأيتُ وجه أمي بين الأشجار. ‏

سرتُ إلى الحديقة بعد أن انتهيتُ من قراءة ثلاثة كتب، جلستُ على مقعدي المفضَّل في آخر ‏الحديقة البعيد عن الضجيج والذي لا يفضِّل أن يجلس عليه أحد، ثم وأنا شارد بقليل من الضباب ‏أمام عينيّ رأيتُ بابًا كبيرًا جدًا لا حدود له يُفتح، ثم رأيتُ وجوهًا أعرفها داخله، تذكّرتُها من ‏الكتب حتمًا، نهضتُ أريد أن أدخل إلى ذلك الباب، لكني اصطدمت بالعمود أمامي. ‏

بقيتُ على هذه الخطة كل يوم، حتى بعد أن أنهيتُ دراستي وأصبحتُ مؤهّلًا للحرية، كنتُ أذهب ‏كل يوم في وقت محدَّد لأجلس على هذا المقعد بمفردي، وعندما أنتهي تلاحقني وجوه وينفتح ‏الباب السرّي الكبير الذي لا حدود له أمامي، لكن هذه المرّة رأيتُ أمي تفتح الباب على اتساعه ‏وأحد ما لم أدقق في ملامح وجهه يقترب منها. ‏

لم أذهب بعدها إلى الحديقة خوفًا من أن أرى شيئًا آخر لا أفضِّله، وخوفًا من أكون ربما قد ‏تسللتُ إليّ من إحدى الكتب أو الأفلام، ربما كل هذا من دواعي التأثر بها، ثم عندما رأيتُ أمي ‏وكانت تسألني عن شيء كنتُ شاردًا في ما قد رأيتُه في الباب، متطلعًا أن تفسِّر لي، ولكنها كانت ‏تنتظر مني إجابة عن سؤالها. أعادت السؤال مرّة أخرى ثم أجبتُها. "لا بدّ أن أبتعد قليلًا عن ‏الكتب أو الناس ممممم؟!". أمي الجميلة الحساسة المختلفة تسلّمني صفة وراثيّة غريبة، صرتُ ‏حالمًا جدًا إلى أبعد حد، كل الصور المؤثرة تعلق في رأسي وأبني عليها قصصًا كثيرة، والآن ‏صرتُ أتخيَّل بشكل كبير، أرى ذلك جميلًا وتراه أمي رائعًا ويجلب لها التعاسة، لأنها تضع ‏جدرانًا تحيط بها لئلا يصل إليها أحد بحسب قولها، لأنها لا تعرف إلّا أنْ تفعل ذلك وهكذا تكون ‏سعيدة. ‏

صرتُ أجوب في عالمها معها، وأنجذب إلى رؤية الباب الذي في الحديقة مرّة أخرى، ذهبتُ إليه ‏وشاهدتُه ينفتح ووجدتُني فيه أرسم لوحة جميلة، نعم لطالما تمنيتُ أن أكون رسامًا ولكني لم أخلق ‏ومعي هذه الموهبة، وحينها تأكدتُ بأنَّ هذا الباب رائع جدًا، وتماثلتُ مع رأي أمي. ‏

وأنا في طريقي إلى البيت انتبهتُ لوجود كاهنة تسير على غير وجهة محدَّدة، كان وجهها يشير ‏إلى ذلك، وتأكدتُ عندما سألتها، كنتُ أرغب أن ألتقي بها حتى لو تأتيني صدفة لأعرف شيئًا عن ‏المستقبل، المستقبل الذي أصبحتُ أحاكيه من خلال ذلك الباب، فأخبرتني أنها ستبدأ، نظرت إليّ ‏وأخبرتني بشيء غريب لم أصدقه؛ بأنّني سأكسر شيئًا ما في المستقبل القريب، شيئًا ثمينًا بالنسبة ‏إليّ، هذا أهم شيء قالته، أمّا الباقي فأعرفه جيدًا. أنا جاهل الآن على الرغم من عبقريّتي التي ‏يلتفت إليها الجميع، لم أكن أريد أن ألجأ إلى مثل هذه الأشياء، ولكنّي على الأقل أمضيتُ نصف ‏ساعة في التفكير مع أحد بمستقبلي المجهول، أفكر الآن بالمزهرية وحدها، هل أصدِّق الكاهنة؟ ‏

عدتُ إلى أمي وتأمّلتُ وجهها الجميل، ثم قرّرتُ أن أدعوها لترى الباب في الحديقة بعينيها، ‏كانت أمي تشجع بي هذا الجانب، لطالما جعلتني في طفولتي أتخيّل غيمة ماطرة في السماء ‏الصافية وتسألني عن الثمار التي تحملها الشجرة التي بسقف الغرفة، وعن ألوان العصافير التي ‏تأكل البذور أمام سريرنا، بالتأكيد سوف تذهب معي لترى الباب في الحديقة، أخبرتُها بالأمر، ‏وانتظرتُ ردَّها، تركَتْ كل شيء ورافقتني، عندما وصلنا أخبرتُها أنّ عليها ربّما أن تجلس على ‏الكرسي لنتمكّن من رؤية الباب، (تربَّطت) يدا أمي كما تصف عندما تتوتر من شيء، قلتُ لها أن ‏تنطق كلمة تحبّها في سرّها لتشعر بالارتياح، ارتاحت، انتظرنا أن نرى الباب الذي لا حدود له، ‏فإذا به يُفتح على اتساعه... رأينا أشياء كثيرة... لكنْ انكسرت المزهريّة.‏