الأخلاقيّات الجامعيّة ‏

‏ د. عبدالله مطلق العساف

باحث وأكاديمي أردني

 

 

تؤكِّد هذه المقالة أهميّة العامل التربوي وأثره في بناء الشخصيّة الأخلاقيّة عند الطلبة ‏وتنميتها في مرحلة الدراسة الجامعيّة، وفي الوقت نفسه فإنّها تسلِّط الضوء على ‏بعض المظاهر السلوكيّة الأخلاقيّة عند طلبة الجامعة، والتي لا تعكس الأخلاقيّات ‏الجامعيّة بصورتها الصحيحة، وتدعو إلى النَّقد والتَّقييم والمُراجعة، لإعادة تصحيح ‏منظومة القواعد الأخلاقيّة السائدة في جامعاتنا الأردنيّة، وما تفرزه من مظاهر ‏سلوكيّة سلبيّة عند كثير من الطلبة.‏

 

من المعلوم أنَّ ثلاثية الخير والمنفعة والفضيلة هي الموضوع الأقصى للأخلاق ‏الفردية، وهذه الحقول الثلاثة تترجمها مجموعة الأفعال والسلوكيات والتصرفات لدى ‏الأشخاص الأخلاقيين، أو الممارسين للأفعال الخلقية. وتنطوي مقولة الخير بما هي ‏لازمة الأخلاق على مستويين: هما الخيرُ العام ويقصد به تحقيق المنفعة العامة، ‏والخير الخاص ويقصد به المنفعة الخاصة، ومن البديهي أنَّ السؤال المربك بالنسبة ‏للجميع يدور حول أيّهما يُعطى الأولوية بالنسبة للسلوك الإنساني؟ والواقع أنَّ مفهوم ‏المنفعة والفضيلة الأخلاقية يقتضي أن يسلكَ الإنسان مسلكَ التوازن والتوسط بين ‏مقتضى المصلحة العامة والمصلحة الخاصة. إذ إنَّ مثل هذا التوازن من شأنه أن ‏يراعي وظيفتين يستقيم بهما شأن الفرد والمجتمع معًا، وهما حبُّ الذات وتقديرها، ثم ‏الإيثار طلبًا للخير المجتمعي ومراعاة مصلحة الوطن والجميع.‏

بيد أنَّ هذا التوازن يتطلّبُ سندًا أساسيًّا يتمثّلُ بالتربية مثلما يستند من جانب آخر إلى ‏التعليم، من حيث إنَّ المنظومة القيمية الأخلاقية وإن كان أساسها التربية، فإنّها تتغذّى ‏برافد التعليم، فالأخلاق يمكن أن تُعلَّم إلى جانب كونها تنشئة تربوية تنتمي إلى ‏المؤسسة الاجتماعية بشقّيها الأسرة والمجتمع الكبير.‏

على أنَّ الخللَ في منظومة الأخلاق يبقى قائمًا في تلك الهوّة الواسعة بين ما يُدعى ‏بالأخلاق النظرية والأخلاق العملية، إذ إنَّ الأولى تأخذ منحىً مدرسيًّا تعليميًّا تثقيفيًّا، ‏وهو منحي مهم جدًا، ولكنّه لا يفي بالغرض لغاية التهذيب السلوكي الأخلاقي، وتنمية ‏هذا السلوك عند الأشخاص الأخلاقيين، أمّا الثانية، فهي التي تأخذ معنىً سلوكيًّا ‏عمليًّا، تترجمه الأفعال الأخلاقية، وهو مجال الأخلاقيات العمليّة. لا بُدّ إذن من ربط ‏الأخلاق النظرية مع الأخلاق العملية في مضمار التنشئة الأخلاقية لدى الأشخاص، ‏فالأخلاق لا تقوم لها قائمة ما لم تُحدث أثرًا وفعلًا في الواقعِ ينعكس على علاقات ‏المجتمع والأفراد، وينعكس بدوره على الوطن والدولة وكافة القطاعات الأخرى التي ‏تُشكّل في مجموعها "قاعدة بيانات الأخلاقيات العامة".‏

نسوق هذه المقدمة لندلّلَ على العامل التربوي، وأثره في بناء الشخصية الأخلاقية ‏وتنميتها في مرحلة الدراسة الجامعية، فالأصل أن يدخل الطالب الجامعة، وهو مُزوّد ‏بمهارات معرفية وعلمية مناسبة، وبموازاة هذه المهارات يُفترض أن تكون قواعده ‏الأخلاقية الناظمة لسلوكه قد أخذت بالنضج، وبالتالي لم يعد يكتفي باكتساب المعارف ‏الأخلاقية، وقواعد العملية الأخلاقية فحسب، ولكن أيضًا في أن تتكوّنَ لديه القدرة ‏على خلق روح المبادرة نحو تنمية السلوكيات الأخلاقية، وترجمتها في أفعاله وأقواله ‏ضمن بيئته الجامعية، وأن يجعل من نفسه أنموذجًا إرشاديًا للطلبة الآخرين، وأعني ‏بالمبادرة والمبادأة أن تتشكّل لديه مجموعة من الأهداف التي يمكن أن تترجم إلى ‏مبادرات طلابية جماعية تتضمن أعمالًا وأنشطة لا منهجية مختلفة، تُساهم في تنمية ‏الحياة الجامعية وتنشيطها، وتعكس في مُخرجاتها ما يمكن أن يُسمّى "القدرة العلمية ‏الأخلاقية".‏

إنّنا في الوقت الذي نؤكّدُ فيه على هذه المبادئ الأخلاقية السابقة، فإنّه لا بُدّ لنا من ‏تسليط الضوء على بعض المظاهر السلوكية الأخلاقية عند طلبة الجامعة، والتي لا ‏تعكس الأخلاقيات الجامعية بصورتها الصحيحة، والهدف هو أن نمنح أنفسنا وعقولنا ‏وضمائرنا الوطنية والاجتماعية فرصةَ النقد والتقييم والمراجعة، لإعادة تصحيح ‏منظومة قواعدنا الأخلاقية السائدة، وما تفرزه من مظاهر سلوكية سلبية عند كثير من ‏الطلبة، وفي هذا الخصوص يمكن أن نركّزَ على ثلاثة مظاهر لافتة.‏

الأوَّل: التجمّع في شوارع الجامعة، بصورة فئوية أو شللية وحتى جهوية أو مناطقية ‏أو عشائرية، وإصدار تصرفات غير لائقة، مترافقةً مع أفعال وحركات وألفاظ ‏شائنة.‏

الثاني: افتعال المشاجرات والمنازعات البينية، على أساس المماثلةِ للمظهر الأول.‏

الثالث: التعامل مع مرافق الجامعة بنزعة عدائية وانتقامية.‏

أمّا "العنف الجامعي" فإنه ولغاية فترة قريبة مضت، كاد يصبح ظاهرة في ‏الجامعات الأردنية، وهو المظهر الذي نفرد له عنوانًا فرعيًا لمناقشته ضمن هذا ‏المقال.‏

وعند تحليل هذه المظاهر يمكن تفسيرها في مُستويين: مستوى، يؤكد على الدوافع ‏السلوكية- النفسية، من قبيل إظهار الذات ولفت الأنظار وتأكيد حضور الشخصية، ‏وهذه ترتبط بدورها بعوامل اجتماعية وثقافية، ما ينعكس على ضمور الحسّ ‏الأخلاقي، ومستوى يبيّن عامل الفشل الدراسي، وانعكاسه على الشخصية السلوكية ‏للطالب.‏

في كلّ الأحوال، يمكنُ القولُ: إنَّ من أنشط الأسباب لتجليات هذه المظاهر، تكمن في ‏ضعف عامل الأخلاقيات التربوية، التي من شأنها أن تنمّي ثقافة أخلاقية سلوكية ‏واعية ومسؤولة لدى الطلاب، تُعزّز روح المبادرة عندهم للانخراط في الشأن العام.‏

 

نظرة في العنف الجامعي- أسباب وحلول ‏

منذ حوالي عقد ونصف من الزمن، بدأت تبرز من حين لآخر وفي مناسبات كثيرة، ‏وأحيانًا من دون مقدمات أو مناسبات مظاهر سلبية في الجامعات الأردنية التي تُعدّ ‏في فلسفتها محاضن أكاديميّة وتربويّة ومعرفيّة لجيل الشباب، تميّزت بتكرار حوادث ‏العنف والشجار الطلابي داخل أسوار الجامعات، وبدا أحيانًا أنَّ العنف يميل إلى ‏السلوك الممنهج أكثر من كونه انفعالات لحظيّة نتيجة مواقف طارئة وعرضيّة ‏تحصل بين الطلبة، ثم ما تلبث أن تتحوّل إلى سلوك يتّسم بالعنف المادي والمعنوي ‏واللفظي.‏

والواقع أنَّ مظاهر العنف هذه أقلقت الجميع سواء على مستوى الإدارات الأكاديمية أم ‏على مستوى المؤسسات الرسمية، أم على المستوى الاجتماعي، وكذلك على مستوى ‏مراكز البحث والدراسات المختلفة، بل إنَّها أصبحت أحيانًا قضيّة رأي عام وطني ‏بالنظر إلى تداعياتها الخطيرة على الشباب والمجتمع والمؤسسات الأكاديمية على حدّ ‏سواء. حيث إنَّ القلق كان ينصبُّ أساسًا حول سؤال خطير: ماذا لو أصبح العنف ‏الطلابي في الجامعات مظهرًا ثقافيًا مترسخًا؟ أي أن يُصبح جزءًا من ثقافة الشباب، ‏وبالتالي يتحكّم في سلوكهم وأفعالهم وتعاطيهم مع الأمور التي يواجهونها في أروقة ‏الجامعات. ‏

إلّا أنَّ ما بدا مُفزعًا على الصعيد الوطني آنذاك هو مسألتان؛ الأولى: مسألة خطورة ‏أن يتحول العنف من مسلك تقليدي لدى فئة من الشباب المندفع والمتهوِّر، إلى ثقافة ‏تطرُّف تتسرَّب إلى عقول الطلبة، ويتمّ تبنّيها كجزء من منظومة فكرية وعملية، ‏سرعان ما تتجذّر في تفكيرهم، وتصبح أحد مُوجِّهات سلوكهم، وتعاطيهم مع الآخر ‏لمجرَّد الاختلاف أو الخلاف البسيط معه.‏

الثانية: أن تتحوّل الجامعات إلى حواضن لهذا الفكر المتطرِّف، وبالتالي تنحرف كليًّا ‏عن أهدافها وفلسفتها، في أن تكون حاضنة للمعرفة والعلم والإبداع والوعي والثقافة ‏والتفاعل البنّاء والإيجابي، ومدّ الوطن والمجتمع بالكفاءات والطاقات التي تساهم في ‏تنميته ورقيِّه وتقدُّمه وازدهاره.‏

أحسبُ أنّنا مع تكرار هذه المظاهر العنفية المتطرفة، لم نصل إلى مرحلة هذا الخوف ‏الذي أشرنا إليه، وما يعزّز هذا الاعتقاد، هو أنَّ الدراسات والاستطلاعات التي بحثت ‏هذه الظاهرة تكاد تُجمع على حقيقة واضحة، وهي أنَّ هذا السلوك يبقى حتى الآن ‏محدودًا بفئات قليلة معيَّنة من طلبة الجامعات، ولم يصل بعد إلى ظاهرة عامة. ‏

بيد أنَّ هذه الحقيقة لا تؤدّي بنا إلى أن نطمئنَّ طمأنينة كاذبة إلى أنَّ الأمور لن ‏تتجاوز هذا الحدّ أو هذا النفر القليل من الطلبة؛ لأنَّ طلبتنا يتعرّضون إلى حواضن ‏وبيئات كثيرة داخل أسوار الجامعة وخارجها، بعضها اجتماعي وبعضها سياسي، ‏وبعضها ثقافي، وبعضها مناطقي، وآخر جهوي، وآخر قبلي، وفي ظلّ تنامي بعض ‏خطابات تغلُّب الهويّات الفرعيّة، يمكن أن يشكّل ذلك بيئة خصبة للشباب، الذين لم ‏تتبلور شخصيّاتهم بدرجة كافية، وتنقصهم التجربة، فينخرطون في ثقافة العنف ‏والتطرُّف بشتّى صوره الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية.‏

الواضح أنَّ فئة الذين يلتحقون بالجامعات، ويعيشون تجربة الحياة الجامعية، بدلًا من ‏مبادرتهم إلى اغتنام هذه الفرصة للانفتاح والتواصل والحوار مع الطلبة من مختلف ‏مشاربهم وبيئاتهم الثقافية والقيمية، ويستفيدون من هذه الفرصة لإغناء تجربتهم ‏المعرفية والثقافية، وبالتالي تعديل سلوكهم نحو مزيد من الإيجابية والوعي، فإنَّهم ‏على العكس من ذلك ينغلقون على ذاتهم، ويكرّسون وعيهم الفئوي والمناطقي ‏والعشائري، بصورة أشبه ما تكون بموقف سلبي يخشى الانفتاح على الآخرين، ‏ويحاول تضخيم ذاته الجهوية والمناطقية، أو عصبيته العشائرية على حساب ثقافة ‏المواطنة والإنسانية والأخلاقية، حتى أنَّ الكثير من هؤلاء بدلًا من نقله للقيم الإيجابية ‏الأصلية لبيئته الاجتماعية التي جاء منها من خلال تواصله مع المجتمع الجامعي، ‏فإنه يسعى إلى ممارسة القيم السلبية، وهذا يعكس قلّة الوعي الوطني والاجتماعي عند ‏هؤلاء.‏

إنَّ جزءًا من طبيعة المشكلة وأسبابها يعود إلى هذه العصبيّة الضيِّقة، التي تنظر إلى ‏نفسها بأنَّها دائمًا على حقّ، ما ينعكس على سلوكها وتصرُّفاتها، ويخلط هؤلاء الطلبة ‏غالبًا عن غير قصد أو غير وعي منهم بين العصبيّة والولاء، على ما بينهما من ‏فروق دقيقة، فالعصبيّة تصوُّر ثقافي قيمي مبني على رابطة القرابة أو الجهويّة أو ‏المناطقيّة، تجعل الفرد الذي يمارسها ينظر إلى كلِّ شيء من معيار هذه الرابطة، ولا ‏يتعدّى ذلك، أمَّا الولاء فهو شعور عميق داخل الإنسان بالانتماء إلى حالة وطنية/ ‏مواطنيّة عامة، وإلى شعور إنساني واسع، بحيث يمتلك الإنسان خلالها وعيًا تشاركيًا ‏مع الآخرين، أي أنَّه يشعر أنَّ هؤلاء شركاء معه في الآمال والأهداف والمصالح ‏العليا، فهي تقوم على التواصل والنديّة والمصلحة المشتركة، أي أنَّها رابطة تعزِّز ‏الانتماء الإيجابي بأوسع صوره، وترفض التعصّب للذات الضيِّقة. وعليه فإنَّ ثقافة ‏التعصُّب قد تؤدّي إلى الرفض للجميع الذين يشاركونه رابطة المواطنة والوطنية، ‏وفي ظروف معيّنة قد تتحوَّل إلى ثقافة تتعدّى الرفض إلى تبرير العنف ضدّ ‏الآخرين.‏

أمّا السبب الآخر وراء مظاهر العنف هذه فيعود إلى تقصير مؤسسة الجامعة تجاه ‏رسم ما يمكن تسميته "استراتيجيات ناجعة"، تغيِّر من فلسفة التعليم الجامعي إلى حدّ ‏كبير، إنَّ مشكلة اكتظاظ الجامعات بعشرات الآلاف من الطلبة، وتكدّسهم في قاعات ‏المحاضرات أو في طرقات الجامعة، توفِّر فرصة الاحتكاك المباشر المؤدّي إلى ‏الحساسيات والمشاجرات اللفظية والمادية فالعنف المتكرر. وبالتالي فإنَّ البيئة ‏الجامعية هي مجتمع متكامل، ويجب أن تغيّر الجامعة في بعض أهدافها الأكاديمية، ‏فالطلبة يقضون ساعات في الجامعات، ما يعني أنَّ أوقات الفراغ تكون كبيرة، ‏وبالمقابل فإنَّ برامج النشاطات اللامنهجية تبقى دون المستوى المطلوب، وهي ‏ضرورية لانخراط الطلاب فيها، وبالتالي الاستفادة الثقافية والسلوكية من هذه ‏النشاطات، التي من شأنها صقل شخصية الطالب الاجتماعية والأخلاقية، وتعديل ‏سلوكه نحو الإيجابية والتفاعلية النشطة.‏

وأعتقد أنَّ مهمة كبرى تقع على عاتق عمادات شؤون الطلبة في الجامعات، بحيث ‏تبادر إلى إقامة مواسم فصليّة من النشاطات والفعاليات الثقافية والاجتماعية، "الفنون ‏من مسرح وموسيقى، ومبادرات شبابية، ومبادارت إبداعية، وورشات مهارات ‏الحياة..." بحيث تجتذب هؤلاء الطلبة إلى ما هو مثمر ومفيد. كما أنَّ العمادات ‏والأقسام الأكاديمية يمكنها لعب دور كبير، في إقامة فعاليات وأنشطة تشمل ‏محاضرات وندوات وأنشطة تطوعيّة تجلب اهتمام الطلبة، وتغلب حماسهم الإيجابي ‏نحو المشاركة، والابتعاد عن القيم السلبية التي يتحركون فيها.‏

ومن جانبٍ آخر فيبدو أنَّ الجامعات ومع التحوُّلات الكبرى التي يشهدها العالم الرقمي ‏عبر وسائل التواصل الاجتماعي والسيولة الهائلة للأخبار والمعلومات والتشاركية في ‏الحوارات والنقاشات وتبادل الآراء، عليها مهمّة ومسؤولية استحداث "منابر حرّة" ‏داخل حرمها وضمن مسؤوليّتها، تعزز الحوارات والنقاشات الديمقراطية والنقدية، ‏وتكون بمثابة منصة تواصل اجتماعي، يُتاح من خلالها للطلبة فرصة أن يعبروا عن ‏آرائهم ومواقفهم بحرية وعقلانية والتزام، لتكريس ديمقراطية الحوار، وقبول الرأي ‏والرأي الآخر. ‏

كما نقترح تخصيص وقت من بعض المحاضرات في الأسبوعين الأوّلين من بداية ‏كل فصل دراسي للحوار في سلوكيات وأخلاقيات الطالب الجامعي. وكذلك تشجيع ‏الطلاب على الانخراط في قضايا الشأن العام الوطنيّ.‏

أمّا دور المجتمع فلا يقلُّ أهمية في هذا المسار التصحيحي، فهؤلاء النفر من الطلبة ‏يفدون إلى الجامعة من أسر وعائلات اجتماعية، ودورها جوهري في التوجيه ‏والرقابة المجتمعية، لتذكير أبنائهم برسالتهم التي من أجلها دخلوا الجامعة، فالمجتمع ‏الكبير والصغير، له دور مهمّ في تعزيز قيم التعصب والتطرف، أو في عكس قيم ‏الوطنية والمواطنة عند هؤلاء الطلبة، وبالتالي لا يمكن إلّا أن تكون هذه المهمة ‏اجتماعية بالدرجة الأولى؛ لأنَّ المجتمع هو الحاضنة الكبرى للأفكار، سواء كانت ‏إيجابية أم سلبية.‏

أمّا على الصعيد الرسمي، سواء تعلّق الأمر بالحكومة أم بالمؤسسات الرسمية ‏الأخرى ذات الصلة، فإنَّ مهمة التصّدي لهذه المظاهر في الجامعات بالمقاربات ‏الأمنية، أو سياسة العقوبات الأكاديمية أو القضائية، فهذه على أهميتها وضرورتها، ‏لا تشكّل الحلّ الأمثل على المدى البعيد، بل لا بُدّ من تبنّي وإطلاق المشروع الوطني ‏الحقيقي في الإصلاح السياسي والاجتماعي الشامل. ‏

إنَّ أهمّ عنصرين تقوم عليهما الدولة المدنية الحديثة، هما الديمقراطية والمشاركة، ‏فكلما ازدادت مساحة الديمقراطية ومن ضمنها الحريات العامة للأفراد والأحزاب ‏ومؤسسات المجتمع المدني، نما الوعي الوطني لدى الجميع بأهمية الوطنية الجامعة لا ‏المفرّقة، واتّسعت مساحة الحوار والنقاش والتواصل بين أبناء الوطن الواحد، وأصبح ‏السلوك الديمقراطي هو الموجِّه للناس في حلِّ مشاكلهم واختلافاتهم، وقبول الرأي ‏والرأي الآخر، أمّا المشاركة فمن شأنها أن تعزز شعور المواطن بالمسؤولية الفردية ‏والجماعية؛ لكونه يشعر بأنّه شريك حقيقي في القرارات والسياسات في بلده أو ‏وطنه، وتجعله قريبًا من الجميع مهما كانت اتجاهاتهم مختلفة ومتباينة. ‏

إنَّ الديمقراطية والمشاركة، هما العنصران اللذان يمكن من خلالهما تسوية كافة ‏الخلافات والاختلافات داخل المجتمع الواحد والوطن الواحد، فمشكلة العنف في ‏جامعاتنا ليست مشكلة مُستعصية على الحلّ، ولكن ما ينقصنا هو الاستراتيجيات ‏الوطنية العملية والنظرية، إنَّها مشكلة إدارة وطنية وقرارات سياسية أولًا وأخيرًا. ‏