"مقولة الكينونة" و"مقولة العلاقة"
يوسف يوسف
ناقد أردني
yousefyousef2006@yahoo.com
في بحثه حول الشعر والسينما، وإن كان بينهما علاقة، أم أنَّهما كينونتان مستقلّتان، يذهب كاتب هذه الدراسة إلى أرجحيّة غلبة (مقولة العلاقة) على الأخرى (مقولة الكينونة)، ويلفت الانتباه إلى قصائد تبدو استفادتها من السينما واضحة تمامًا، ومنها: قصيدة "زيارة" للشاعر يوسف الصايغ، وقصيدة "زرقاء اليمامة" للشاعر عزالدين المناصرة، إذ فيهما تجاوزٌ واضحٌ لإشكاليّة العلاقة بين الجنسين، وذلك من خلال توظيفهما بعض مكوّنات السينما، وتحوُّلهما من قصيدتين قوامهما المفترض الألفاظ، إلى معالجتين رؤيويتين.
عند تناول ثيمة التقارب والتباعد بين الشعر والسينما، تقف أمام الأنظار مقولتان متضادتان إلى حدٍّ بعيد: الأولى (مقولة الكينونة) التي يرى أصحابُها أن لكلٍّ من السينما والشعر (كينونته الخاصة) التي تختلف جذريًا عن الكينونة الأخرى. ومن شأن أصحاب هذه المقولة الدفع باتجاه الافتراق، وعدم التقاء الجنسين أحدهما بالجنس الآخر. وأمّا الثانية فإنها (مقولة العلاقة) التي يُرَجّحُ فيها أصحابُها أمرَ التقارب بين الجنسين، والتفاعل أحدهما مع الجنس الآخر، واستفادتهما من بعضهما بعضًا: الشعر من السينما، والسينما من الشعر. وبصرف النظر عمَّنْ يعتقدُها الواحدُ منا المقولة الأصحّ، فإنه من الواضح الاختلاف في طريقة التعبير، وأنَّ لكلٍّ من الجنسين حقيقته الفنيّة المغايرة، أو وسيلته الخطابية التي يوصل بها رسالته إلى المتلقي، قارئًا كان هذا المتلقي كما هي الحال في الشعر، أو متفرِّجًا كما هي الحال في السينما، وإن كانت العين في الحالتين -حالة القراءة ورؤية المفردات على الورق، وحالة رؤية الصور المتعاقبة على الشاشة- بكل ما فيها ممّا تسمّى (القوة القذفيّة)، هي قبل غيرها مَن تقوم بعملية الكشف عمّا في الرسالة التي يبعثها إليها كلٌّ من الشاعر أو المُخرج وبالطريقة المعروفة للجميع، حتى وإن كان مثل هذا الفعل: رؤية المفردات أو رؤية الصور يحدثُ في مكانين مختلفين: الأوَّل المكان المضيء الذي ينبغي أن نقرأ فيه الكلمات، والثاني المكان المعتم الذي تتم فيه رؤية الفيلم، صالة صغيرة كان المكان، أو قاعة عرض سينمائية واسعة. وعلى الرغم من أنَّ التلقي في حالة الشِّعر يبقى فرديًّا في الغالب، أي على اختلاف عن التلقي الجماعي كما هو في حالة الفيلم، إلا أنَّ القصد هنا ليس البحث عن اختلافات بين الجنسين، وإنما الكشف عن حقيقة كل منهما، وتسليط الأضواء على ما يمكن أن يجعلهما يلتقيان أو يفترقان. فما تسمّى (لغة السينما) تختلفُ عمّا تسمّى (لغة الشعر)، ولربما لهذا السبب: الاختلاف بين اللغتين المستخدمتين في التوصيل، يصعِّبُ الحديث عن زواج نموذجي بينهما، على الرغم مما بينهما من دواعي الالتقاء وأسبابه، دون أن ننسى أننا في الوقت نفسه، يصعُب علينا الحديث عن طلاق قطعي لا رجعة عنه بينهما.
لا نريد الإيغال هنا في تناول عمل العين وآليّة هذا العمل، لكن الرؤية بها بحسب ما يراه "جاك أومون"، وبصرف النظر عن نوع الوسيط التعبيري: مفردة كان هذا الوسيط أو صورة، تفترض وجود عدة أعضاء متخصصة، تنجم عنها باستمرار ثلاثُ عملياتٍ متميزة ومتتالية: بصرية وكيميائية وعصبية، من شأنها تمهيد الطريق لفهم المعنى(1). ومع هذا المفهوم، والقبول بعدم متابعة هذه العمليات والتفصيل فيها، نرى نمطين من الإدراك: الأوَّل يرتبط بإدراك معنى الصورة، والثاني بإدراك معنى المفردة، الأمرُ الذي يقوِّض مختلف الدعوات لوجوب الانفصال بين الجنسين، خصوصًا وأننا في في بعض الحالات، كحالة الشاعر إبراهيم نصرالله، سنرى صورًا بجانب المفردات التي نراها هي الأخرى بالعين ذاتها. وإذا كانت المفردة هي ما تغذّي إدراك القارئ لفهم المعنى، فإنَّ الصورة هي الأخرى تغذّي إدراك المتفرِّج لتحقيق هذا الفهم، أي أنَّ كلتيهما -كل واحدة منهما بطريقتها- تساهمان في عملية الفهم؛ فهْم الرسالة على هذا النحو أو ذاك.
إننا بالوقوف أمام ما نراها حالة إبراهيم نصرالله الخاصة، إنما نقصد لفت الانتباه إلى أهمية الصورة في شعره، التي هي كما يعرف المهتمون بالشأن السينمائي، ليست سوى جزء بسيط من الواقع المرئي [بصرف النظر إن كانت هذه الصورة في الفيلم أو في القصيدة] على اعتبار أنها وكما نعرف يتم إنتاجها عمدًا بهدف نقل مدركاتٍ ومضامين وتأثراتٍ أوليّة(2). ونصرالله في هذا الاستخدام إنما يقصد الحدَّ من طغيان اللغة، على اعتبار أنها في الجانب الآخر من وجودها، يتم تكريسها للمفهمة والتصنيف بدرجة كبيرة. والأمر الآخر الذي ينبغي الانتباه إليه، وعدم التقليل من شأنه، يرتبط بطبيعة المحرّك الأساسي للإدراك، الذي هو الدماغ في عمليات استقبال كلا الجنسين، إذ بفضل ما يقوم به من نشاط، يدرك المتفرج ما في الصورة من معنى، ومثله قارئ القصيدة الذي يدرك ما في المفردة من معنى.
هنا قد يشير القارئ إلى (الصور الشعرية) على اعتبار أنها أحد أهم مقوّمات القصيدة، وإلى أنها في زمان ظهورها قد سبقت نظيرتها (الصور المرئيّة) التي اعتاد النقاد الإشارة إليها إذا ما تناول أحدهم علاقة الشعر بالسينما. وسوى هؤلاء أيضًا ممَّن يؤمنون هم الآخرون بـ(مقولة الكينونة) قد يقولون: إنَّ الشعر (الوصفي التصويري) في الأدب، ظهر إلى الوجود قبل اختراع السينما بما لا يقل عن القرن من الزمان. وهذا القول -كما نعرف- فيه القدر الوافي من الصحة، بل وإنه ممّا يُمكن إضافته في هذا المجال القول: إنَّ إنسان العصر الحجري القديم كان قد أنتج صورًا ثابتة، وأخرى غيرها تمثيلية، شاهدنا الكثير منها فوق جدران الكهوف والمغاور. لكن ممّا يجدر ذكره في أعقاب هذا أنَّ اختراع الصور المتحركة في ذاتها، المزوَّدة بقدرة خاصة على التغيير (الحركة) ترك تغييرًا أساسيًا في إطار علاقة الصور بمشاهديها في مختلف انحاء العالم(3). ولعله لا يغيب عن الأذهان، الحديث عن (حضارة الصورة) الذي ظهر منذ ستينات القرن العشرين مع توسع انتشار السينما. إنه الإحساس بظهور نوع جديد من أنواع التواصل، يعتمد المرسلُ فيه على الصورة، التي لم يعُد من الممكن صرف النظر عمّا يمكن أن تقدمه للنص الأدبي.
إنَّ حال الشعر بعد ظهور مصطلحات الحداثة والتجديد، وكذلك بعدما اكتشف الشعراء أهمية الصور المرئية وإمكانية الاستفادة منها في إنجازاتهم، لا بدَّ أن يطرأ عليها التغيير، وكذلك التبدُّل في تقنيات الكتابة، الأمر الذي أعطى الغلبة لـ(مقولة العلاقة)، حتى وإن كنّا لا نرى مثل هذه العلاقة إلا عند عدد قليل من الشعراء، وبدرجات تتفاوتُ الدالات إليها بين شاعر وآخر. ولعلّنا في هذا التصوُّر والميل إلى ترجيح غلبة (مقولة العلاقة)، نلتقي مع مَن يرى أنَّ الشعر من حيث كونه عملية إبداع وصناعة يقوم بها فردٌ بعينه، ينبغي عليه في قوامه ولكي يكون شعرًا جيدًا، أن يدرِّبنا على النظر بصورة أفضل، على الرغم من أنَّ الكلمات التي فيه، تبقى عمياءَ بحسب ما يذهب إليه "ريجيس دوبرى"(4) وهو ما كان قد أشار إليه "أوكتافيو باث" بالقول:
"بين ما (أراه) وما (أقوله)
بين ما (أقوله) وما (أصمتُ) عنه
بين ما (أصمتُ) عنه وما (أحلمُ) به
بين ما (أحلم) به وما (أنساهُ) يكون الشِّعر"(5).
في كتابه (الوعي والفن) يوجب "غيورغي غاتشف" النظر إلى النص الأدبي على أساس ما لحق به من التطوُّر، بشرط أن يكون الحديث عن هذا الجانب منطقيًّا. وهنا وبالنظر إلى المقترب في هذه الدراسة، ينبغي الانتباه إلى تاريخيّة الصورة في الشعر، وتاريخيّة علاقة الشعر بالسينما، كليهما وليس إلى أحدهما دون النظر إلى الآخر. بهذا المعنى ينبغي أن تكون بنية المجتمع في كل لحظة، مفتاحًا لمنهج فهم الطبيعة وعلاقة الانسان بها، وفهم كل ثمرة من ثمار النشاط الإنساني، ومن بين ذلك بنية الصورة ذاتها(6). وهذه الصورة عند إبراهيم نصرالله لا شك سبقتها تجارب، لا ننكر هذا، كما وأنها تصاحبها تجارب أخرى لهذا الشاعر أو ذاك. لكن ليس هذا هو المهم، فالأساس معرفة موقعها من حركة تطوُّر الإنسان، وما أنجز خلال حياته من المتغيرات، وأضاف من الممكنات الفنية الجمالية، بما في ذلك (الصور المرئية). إنه التطور في الوعي ما كان "غاتشف" يقصده بالحديث عن ثمار النشاط الإنساني: إنَّ الإنسان الذي عاش في ظروف المجتمع البدائي لم يكن يفهم إلا علاقات القربى البدائية والأكثر صلة به. وتبعًا لهذا الواقع كما كان يفهمه، كان يطلق أحكامه على الطبيعة والمجتمع وكل شيء في العالم. إنه التفسير على وفق علاقات القربى وليس أبعد من هذا(7). وهكذا وبعد أن ظهرت السينما في نهايات القرن التاسع عشر، أصبح تفسير القصيدة يتم من خلال النظر إلى ما حولها من الموجودات والأشياء، لاحتمالات تأثر الشاعر بها وعلى منوال تأثر الإنسان بالطبيعة التي حوله في الكثير ممّا أنتج وأنجز.
بيد أنَّ القول بأرجحيّة غلبة (مقولة العلاقة) لا يقوِّضُ الأساس الذي يقوم عليه الشعر مثلًا، ولا الأساس الذي تقوم عليه السينما كذلك. وهو أيضًا لا يخرجه من الإطار الذي نعتبره فيه متوالية لغويّة، شأنه في التعبير فيها ليس هو شأن النثر ولا شأن السينما هي الأخرى، والخلاصة فإنَّ ما وصل إليه إبراهيم نصرالله لا ينأى عن إطاره التاريخي الذي نما وتطوَّر فيه ولا عن إطاره الاجتماعي كذلك. وإذا ما كان الشعرُ غالبًا ما يبحثُ عن أدواتٍ ووسائلَ للتمويه والمواربة، فإنَّ السينما بعكسه تمامًا، ترفض القيام بمثل هذا السلوك، بل وإنها تحاول الابتعاد عنهما قدر المستطاع، بحكم طبيعتها، وإن بقي ما بين الجنسين من المجاورة وإمكانات التلاقح أقوى من تلك التي يمكن أن تدعو إلى التنافر والتباعد، وابتعاد هذا الجنس منهما عن الجنس الآخر.
وفي الضدِّ من هذا النزوع إلى التقارب، قد يقول بعضهم إنَّ الشعر في طبيعته أكثر ميلًا إلى النخبوية والغموض، وأنه ممّا لا تفهمه العامة من الناس في الغالب، فيما السينما بعكسه: جماهيريّة وفي مقدور العامة من الناس فهمها على نحو جيد. لكن المهم القول هنا إنَّ الصور المتحركة التي ابتكرتها السينما، أصبحت إحدى أهم العلامات الدالة على مشاركتها الفاعلة في عملية (صوْغ ذائقة الشاعر الجمالية، بدالة قيام عدد من الشعراء الطامحين إلى تخصيب نصوصهم الشعرية، بتحويل أدواتهم اللفظية بما فيها من التجريد من حالة المفهمة والتصنيف المشار إليها آنفًا، إلى حالة أخرى غيرها صوريّة، الأمر الذي كان من شأنه ظهور مصطلحات نتبين من خلالها فاعلية التداخل بين الجنسين، والمديات التي وصل إليها هذا التداخل والتلاقح، وهي مديات واسعة ومترامية ومنها للتوضيح: الشاعر السينمائي، القصيدة السينمائية، الفيلم الشاعري، المخرج الشاعر، الشاعر المخرج، وسواها مما يطرح ثيمة حتمية العلاقة والالتقاء، ومما يمكن أن يصاحبها من التطور في بناء القصيدة مع الزمن. فالشاعر السينمائي مثلًا هو ذلك الشاعر الذي في شعره نزعة قوية إلى السينما، والفيلم الشاعري هو ذلك الفيلم الذي يذهب المخرج فيه باتجاه الشعر فيختار طريقته في التعبير: التكثيف والحلم وسواهما ممّا في الشعر الناجح، وهكذا إلى غير ذلك ممّا سيأتي لاحقًا هنا وهناك في متن الدراسة.
وهذه المصطلحات لئلا يغيب عن الأذهان، استقرَّت في المجالات التي يتم التعامل معها فيها، وأصبحت لها حدودها المتعارف عليها بين النقاد، ومثل ذلك أصبحت لها ملامحها المميزة، التي بقدْر المحافظة عليها وترسيخها، يصبح الحديث حول (مقولة العلاقة) جديًّا ومُلهمًا لكلٍّ من الشعر والشعراء والسينما والسينمائيين على حدٍّ سواء، بدالّة قول الناقد اليوم وفي يقين وبغير خشية من خلل في الاستخدام: المضمون الشعري في السينما، ليس هو التجسيد الشعري الذي فيها. فالأوَّل: المضمون الشعري، إنَّما يعني التصوير الانطباعي، ومثله الإخراج الانطباعي، فيما الثاني الذي هو التجسيد الشعري يرتبط بقوام الفيلم، أي بشكله وبطريقة إخراجه ذاتها، أي بجسد الفيلم في تعبير آخر.
ولمّا كانت التجربة الشعرية في ماهيّتها والتطبيقات إليها تجربة في مادة الشعر البنائيّة التي هي الألفاظ، فقد صار من اللازم عليها إذا ما أراد صاحبها الارتقاء بها، بعْثَ صور إيحائية يعيدُ الشاعر -كما يقول السعيد الورقي- من خلالها إلى الكلمات، قوة معاينتها التصويرية الفطرية الموجودة في اللغة أساسًا(8). وما نودُّ تأكيده هنا، وهذه هي العتبة التي علينا عبورها، أنَّ مثل هذا القول فيه ما يؤكد صوابه، وذلك لأنَّ استخدام المفردات في القصيدة على وفق ما هو متعارف عليه من المعاني في التفسير المعجمي كما يرى "جان كوهن"، لا يُنتجُ الشعريّة، وإنَّما ينتجها خروجُ الشاعر بالمفردات من طبيعتها الراسخة، إلى طبيعة أخرى جديدة(9).
وإلى ما نذهب إليه من القول بأرجحيّة غلبة (مقولة العلاقة) على الأخرى (مقولة الكينونة)، نلفت الانتباه إلى تلك القصائد التي تبدو استفادتها من السينما واضحة تمامًا، ونوردها هنا في مجرى دراسة التطوُّر في الشعر، ومنها: قصيدة "زيارة" للشاعر يوسف الصايغ، وقصيدة "زرقاء اليمامة" للشاعر عزالدين المناصرة، إذ فيهما وكما سيكتشف القارئ هو الآخر، تجاوزٌ واضحٌ لإشكالية العلاقة بين الجنسين، وذلك من خلال توظيفهما بعض مكوّنات السينما، وتحوُّلهما من قصيدتين قوامهما المفترض الألفاظ، إلى معالجتين رؤيويتين.
• قصيدة "زيارة"
(جرسُ البابِ) (يُقرَعْ)
(ينهضُ) من نومه
(يتطلعُ) (من فتحةِ الستارة)
(يرجعُ) مرتبكًا
(يتردَّدْ)
(ينظرُ) ثانيةً
(يتفرَّسُ)
(يجلسُ) (فوق الأريكةِ)
(يسمعُ صوت خطىً) في (ممرِّ الحديقةِ)
(ينهضُ) مرتبكًا
(طرقتانِ على البابِ)
(ثالثةٌ)
--------
(يضحكُ) من نفسهِ
(ثانية ((يغلقُ الباب)
ثم (يجلسُ) (فوق الأريكةِ)(10).
• قصيدة "زرقاء اليمامة"
(تتدلى أشجارُ التينِ) (على الحيطان الشرقيةِ)
(نتلقّى الدرسَ الثاني)
(تحت الشمسِ الصاحية) النيْسانيةْ
(نكبرُ) (نهجرُ) (ساحة ظلِّ الحانوتْ)
(نحلمُ) بـ(الشرنقةِ المنسوجةِ من أوراق التوتْ)
(لكن يا جفرا الكنعانية)
(قلتِ لنا) إنَّ (الأشجارَ تسيرْ
على الطرقاتِ)
(كجيشٍ محتشدٍ تحتَ الأمطارْ)
(أقرأهُ سطرًا سطرًا) رغم (التمويه)
لكن يا (زرقاء العينينِ) ويا (نجمةَ عتمتنا الحمراءْ)
(كُنّا نلهثُ) في (صحراءِ التيه)
(كيتامى منكسرين) على (مائدة الأعمامْ)
ولهذا ما صدّقكِ سواي (لهذا كنتُ الناجي)
(تخبّأتُ في عبِّ داليةٍ) ثم (شاهدتُ من فتحةٍ ضيّقةٍ)
(سكاكينهم).. و(الظلالْ)
ثم (شاهدتُ) ما لا يُقالْ
(كان الجيشُ السفاحُ مع الفجرْ)
(ينحرُ سكان القرية) في عيدِ النحرْ
(يُلقي تفاحَ الأرحامِ) بقاع النهرْ
===
(رفَّتْ عيني اليسرى).. (شبَّتْ نارْ)
(ورأيتكِ في الصورةِ) (تحت التوتة في ظلِّ الدارْ)
(إلفكِ مدَّ جناحيهِ)، (توارى)، (غابْ)
(ينقشُ أشعار الحزنِ) على تفاحة
(يأتي العفنُ) المزمنُ يا تفاحةْ
(يمحو) من ذاكرتي (صور الأحبابْ)
في اليوم التالي يا زرقاءْ
(قلعوا) (عين الزرقاءِ الفلّاحة)
في اليوم التالي يا زرقاءْ
(خلعوا التينَ الأخضرَ) (من قلب الساحةْ)
في اليوم التالي يا زرقاء...إلخ)(11).
وفي هذا المقام تهمّنا الإشارة إلى أنَّ كلا الشاعرين يقدِّمان للمتلقي مُدرَكات صوريّة محدَّدة: الأوَّل الشاعر يوسف الصايغ الذي يتمثَّل مركز الثقل الدلالي في قصيدته برجُل يلاحقه الحسُّ بالمطاردة، فتتحوَّل حياته إلى جحيم حقيقي ترسمُ الصور ملامحه على نحو واضح، والثاني الشاعر عزالدين المناصرة الذي يتمثَّل مركز الثقل الدلالي في قصيدته بواحدة من مجازر الصهاينة في قتلهم الفلسطينيين، تقدِّمها كما هي في الواقع صور منتقاة. وإلى ما وضعناها من المفردات بين أقواس، وبالذات منها تلك التي تشير إلى أفعال وقعت، وكذلك إلى الأخرى التي ترتبط بالمكان وفيزيائيّته- اهتمام السينما الكبير، وهي ممّا تظهر لنا فيها مُدرَكات صوريّة، يصبحُ في مقدور القارئ اكتشاف ما في القصيدتين من السردية العالية، ومثل ذلك معرفة ما فيهما من أثر السينما من حيث كونها كما سبق القول: متوالية صوريّة فيها صراع وشخصيّات.
أمّا الناقدة بشرى البستاني، وفي مجرى حديثها عن التداخل بين الشعر والسينما، فإنها تتناول ما أسمته (الاهتزاز) في نظرية الأجناس الذي حتمَّ حدوثَ مثل هذا التداخل، وكذلك هجرة مفهوم الشعرية من حيث كونها تشكيلًا لغويًّا إلى مختلف الفنون الإبداعية الأخرى، وقد ذهبت البستاني في تفسيرها لعلاقة الشعر بالسينما إلى الاعتقاد بأنَّ الشاعر وبسبب تأثير الواقع عليه، وكذلك بسبب بحثه عن مخصِّباتٍ لفنِّه الشعريّ، راح يبحثُ عن ذلك الشكل الشعري القادر على استيعاب تجربة العذاب الكبرى التي يخوضها ضدَّ قوى عاتية تشتغلُ على أهداف محدَّدة ومرسومة، فوجده في الاستعارة الممكنة من السينما(12).
وأمّا الناقد السينمائي "باركر تيلر" الذي يُعتبر أحد أبرز المهتمين بدراسة العلاقة بين الشعر والسينما، فكان هو الآخر قد توقف أمام تمفصل بعض تقنيات الشعر في السينما، ومثل ذلك أمام تمفصل بعض تقنيات السينما في الشعر. وكان ممّا اكتشفه عند التقاء هذه التقنيات ببعضها بعضًا، إنتاج إبداع فني متميز. صحيح أنَّ مثل هذا الرأي في زمانه (خلال عقدي الأربيعنات والخمسينات من القرن الماضي) قد جاء في مجرى محاولات إيجاد سينما طليعيّة في الولايات المتحدة، إلا أنه ومع أقوالٍ أخرى لنقاد وسينمائيين سوى "باركر"، كان قد مهَّد الطريق لظهور تلك المصطلحات التي سبق ذكرها، الأمر الذي يعني أنَّ بدايات هذه العلاقة ظهرت منذ زمن بعيد، وليست ابنة هذه الأيام التي يكثر تداولها فيها، بل وإنَّ تلك العلاقة بين الشعر والسينما ما كانت لتحدث لو لم يكن الشعر أداةً مرئيّةً هو الآخر. وإلى هذا الرأي نستطيع القول كذلك أن الشعر ينضوي بشكل أوتوماتيكي في الواقع تحت صنفين هما: الشعر الذي هو أداة مرئيّة، والشعر الذي هو أداة لفظيّة(13).
• الهوامش
(1) للمزيد: جاك أومون، الصورة، ترجمة ريتا الخوري، المنظمة العربية للترجمة، بيروت، 2013.
(2) الصورة، المصدر نفسه، ص131.
(3) الصورة، نفسه، ص323.
(4) ريجيس دوبري، حياة الصورة وموتها، ترجمة د.فريد زاهي، دار المأمون للترجمة والنشر، بغداد، ص56.
(5) عن عزالدين المناصرة، الأعمال الشعرية 1962-1992، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت 1994، من المقدمة.
(6) غيورغي غاتشف، الوعي والفن، ترجمة د.نوفل نيوف، سلسلة عالم المعرفة 149، الكويت، 1990، ص13.
(7) الوعي والفن، المصدر السابق، ص17.
(8) السيد الورقي، لغة الشعر الحديث، دار النهضة للطباعة، بيروت، 1984، ص64.
(9) جان كوهن، بنية اللغة الشعرية، ترجمة محمد الولي ومحمد العمري، دار توبقال، المغرب، 1976، ص129.
(10) عن فاتن عبدالجبار، الإخراج الشعري، مجلة الأقلام البغدادية، 2/2001.
(11) عزالدين المناصرة الأعمال الشعرية، المصدر السابق، ص48.
(12) د.بشرى البستاني، جماليات السينما في الشعر الحديث، موقع مؤسسة النور الإلكتروني 11-4-2015.
(13) الشعر والفيلم (ندوة)، ترجمة فلاح رحيم، مجلة الأقلام البغدادية، 4/1988.