(محاولة لتنمية البُعد التواصلي للعقل الإنساني)
د. حسام الدين فياض
كاتب وأكاديمي سوري
يعبِّر "العقل الأداتي" عن "العقلانية الأداتيّة" التي لعبت دورًا مهمًّا في تكوين معالم المجتمع الرأسمالي الغربي؛ باعتبارها عقلانيّة تخضع للحساب الواعي الذي يدرس كيفيّة الوصول إلى أهداف بحدّ ذاتها غير خاضعة لطابع قِيَمي، بل لطابع عملي، ويتشخّص هذا النوع من العقلانيّة في تعامُل الإنسان مع الطبيعة، وتتجسّد في العلم والصناعة والتكنولوجيا الحديثة، ويقترح "هابرماس" مفهوم "العقل التواصلي" كدرب للخروج من فلسفة الذات التي تدعم العقل الأداتي، حيث ترمي التواصلية إلى بناء مختلف للذات عبر عقل تواصلي، يتجاوز الذات الضيّقة، ويشكِّل نسيجًا من الذوات المتواصلة.
ظهر مفهوم العقل الأداتي في العديد من مؤلفات الفلاسفة والمفكرين السابقين على "يورغن هابرماس" أهمهم "هوركهايمر" و"أدورنو" في كتابهما (جدل التنوير) عام 1972، وكتاب "هوركهايمر" (أفول العقل) عام 1947، وكتاب "هربرت ماركيوز" (الإنسان ذو البعد الواحد) عام 1960. يتصف العقل الأداتي لدى هؤلاء بأنه منطق في التفكير وأسلوب في رؤية العالم، أي أنَّ العالم الاجتماعي أصبح له طبيعة ثانية كالطبيعة غير قابل للتغيير ومستقلًا عن أفعالنا.
ويرى "هوركهايمر" أنَّ العقل الأداتي هو العقل المهيمن في المجتمعات الرأسمالية الحديثة، التي فقد فيها العقل دوره كمملكة فكرية وتمَّ تقليصه إلى مجرَّد أداة لتوفير الوسائل، وأدّى ذلك إلى فقدان العقل للقدرة على إدراك الحقائق في ذاتها حيث أصبح كل شيء مجرَّد وسيلة(1).
إنَّ مصطلح الأداتيّة عند روّاد مدرسة فرانكفورت الأوائل بما فيهم "هابرماس" يحمل مضمونين؛ الأول: يمثل أسلوبًا لرؤية العالم، أمّا الثاني: فيمثل أسلوبًا لرؤية المعرفة النظرية(2).
ويذهب "هابرماس" في كتابه "التقنية والأيديولوجيا" إلى أنَّ العقل الأداتي يعبِّر عن العقلانية الأداتية التي لعبت دورًا مهمًّا في تكوين معالم المجتمع الرأسمالي الغربي باعتبارها عقلانية تخضع للحساب الواعي، الذي يدرس كيفية الوصول إلى أهداف بحد ذاتها غير خاضعة لطابع قيمي بل لطابع عملي، ويتشخّص هذا النوع من العقلانية في تعامل الإنسان مع الطبيعة وتتجسّد في العلم والصناعة والتكنولوجيا الحديثة(3).
كما يؤكد "هابرماس" أنَّ مفهوم العقل الأداتي عند "ماركيوز" الذي يتفق مع مفهوم العقل التقني أو الأداتي هو ذاته أيديولوجيا، فالتقنية هي السيطرة ذاتها على الطبيعة والإنسان، لذا نجد أن التقنية مشروع تاريخي اجتماعي تنعكس فيه ما يريده المجتمع والمصالح المسيطرة أن تفعله بالناس والأشياء(4).
ويعتقد "هابرماس" أنَّ العلم والتقنية قد تعاظما إلى درجة أصبحا معها أهم قوى إنتاجية، ويسعى "هابرماس" إلى تحليل عوامل عدم التلاؤم بين نتائج عقلانية عالية التوتر وبين أهداف لا رؤية فيها وأنساق قيمية مختلفة جامدة وأيديولوجية ضعيفة، ويحاول البحث عن كيفيّة إرجاع سلطة التصرف التقني إلى إجماع المواطنين(5).
يقصد هابرماس بالعقل الأداتي أنه يمثل العقل الغائي، فهو إمّا أن يكون أداتيًّا أو اختبارًا عقلانيًا أو مركّب منهما(6). ويهتدي العقل الأداتي بالقواعد التقنية التي تقوم على معرفة تجريبية ويحقق هذا العقل أهداف محددة في ظل شروط واضحة. فيؤكد "هابرماس" أنَّ مفهوم العقل الأداتي يعتبر أكبر دليل على ظاهرة التمركز حول العقل العلمي- التقني، ويبين كيف أنَّ حركة التطور العلمي في عصر الأنوار أدَّت إلى ظهور هذا العقل، ويوضح الأسس التي أدَّت إلى ظهور العقل الأداتي منها الآليات التي وضعها وأرساها النظام الحديث أو بالأحرى المجتمع الحديث(7).
حاول "هابرماس" أن يستخلص السمات العامة للعقل الأداتي ويبيِّن الطريقة الاختزالية التي يمارسها بحق الطبيعة والإنسان، فالعقل الأداتي ينظر إلى الطبيعة والواقع من منظور التماثل ولا يهتم بالخصوصية، كما يحاول العقل الأداتي تفتيت الواقع إلى أجزاء غير مترابطة وينظر إلى الإنسان باعتباره مجرَّد جزء يشبه الأجزاء الطبيعية المادية؛ فالإنسان بالنسبة للعقل الأداتي شيء ثابت وكمّي.
يقصد "هابرماس" من وراء نقده للعقل الأداتي هدم معطيات هذا العقل، وذلك من خلال القضاء على مركزه الفلسفي الوضعي الذي أبرز هذه الرؤية للعقل، ولم يقبل بالنقد العقلاني الذاتي للعقل المتمركز على ذاته، لأنَّ الوسيلة "نقده" هي الذات التي سرعان ما تتمركز على ذاتها، والحل الذي يقترحه هابرماس هو العقل التواصلي الذي يقوم على تنشيط التواصل وقيمة الإنسان والمجتمع، فالعقل التواصلي هو المَخرَج من هيمنة العقل الأداتي(8).
ويؤكد "هابرماس" أنَّ العقل الأداتي مفهوم إجرائي للعقلانية لأنه لا يقتصر على دمج البُعد العلمي والأخلاقي، بل أيضًا البُعد الجمالي التعبيري. ليتبيَّن أنه قد تخلّص من مفهوم يُقدِّم العقلانية الغائية المفصلة على البُعد المعرفي والأداتي، هذا المفهوم هو الشارح لطاقة العقل الرّاسِية في أساس صدق القول.
يُنظر إلى العقل المتركز على الذات (العقل الأداتي) على أنه نتاج انشطار واغتصاب، أي نتاج سيرورة اجتماعية، فقد وصفها "أدورنو" و"هوركهايمر" و"فوكو" بأنها سيرورة الذاتية بوصفها تتجاوز قواها وتتشيَّأ(9). فكان من الواجب تحرير طاقة العقل داخل التواصل.
لذا يقترح "هابرماس" مفهوم "العقل التواصلي" كدرب للخروج من فلسفة الذات، من خلال "نظرية الفعل التواصلي"، التي تُعدُّ قراءة جديدة للفلسفة الأوروبية، تظهر فيها الحداثة بناءً على تحليل "هابرماس" كتحقيق لنظرية الفعل التواصلي، لأنها تفهم التواصلية خارج ذاكرتها الاصطلاحية وتاريخها المفهومي. حيث ترمي التواصلية إلى بناء مختلف للذات عبر عقل تواصلي، يتجاوز الذات الضيقة، ويشكل نسيجًا من الذوات المتواصلة. ويستمد العقل التواصلي إمكاناته من العالم المعاش، ويؤسس عقلانية تقوم على التلاحم الذاتي، يكون فيها العقل مصدر كل القرارات. هذا العقل التواصلي مدعو -بحسب "هابرماس"- إلى تجاوز عقل متمركز على الذات، ووظيفته التغلب على مفارقات وتسويات نقد للعقل ذاتي المرجع، وكذلك التخلص من كل إشكالية العقلاني(10). "ويتطلب الفعل التواصلي، كما تدل تسميته، تحطيم دوائر الانغلاق سواء من العبارة أو رموزها الواقعية أو ممثليها المنفذين"(11)، بوصفه نموذج الفاعلية الموجهة نحو التفاهم. وما هو أساسي في نموذج التفاهم هذا الاتجاه الأدائي الذي يتبناه المشتركون في التواصل، إذ ينسّقون مشاريعهم بالاتفاق فيما بينهم على أمر ما موجود في العالم. ويعوّل "هابرماس" على التوافق الفكري بين الفاعلين، لأنَّ الفعل التواصلي يتطلب وعيًا وإرادة لتحقيقه بين "أنا" و"آخر"، حيث أنا عندما أقوم بالكلام، والآخر الذي يتخذ موقفًا إزاء كلامي، نعقد كلانا، الواحد مع الآخر، علاقة بين شخصيتين، في تبادل يتوسطه اللسان، يتيح للذات أن يكون لها مقابل ذاتها. إننا متحاورين أحرار في جمهورية وديمقراطية(12).
بذلك يسعى مفهوم العقل التواصلي -بحسب "هابرماس"- إلى محاولة تنمية البُعد الموضوعي الإنساني للعقل، بمعنى أنَّ هذا العقل التواصلي لديه فاعلية تتجاوز العقل الشمولي المنغلق الذي يدَّعي أنه يتضمّن كل شيء، والعقل الأداتي الوضعي يفتِّت ويجزِّئ الواقع ويحوِّل كل شيء إلى موضوع جزئي حتى العقل نفسه. "أي نقد الفكر المنظَّم الذي ينمّيه عقل مرتكز على الذات على صورة محدّدة؛ أي صورة نقد التمركز على العقل في الغرب"(13).
ومن الجدير بالذِّكر، أنَّ "هابرماس" طرح مجمل أفكاره عن العقل التواصلي في كتابه "نظرية الفعل التواصلي" الذي يشكل بوجه من الوجوه إسهامًا حقيقيًا فيما يسميه "نظرية التواصل"، حيث سعى من خلالها إلى إعادة طرح إشكالية العقلانية الحديثة بإسقاطاته المتعددة، وهذا ما عبَّر عنه في التمهيد الخاص بالجزء الأول حين قال: "على الرغم مما يوحي به العنوان فأنا واعٍ من أنني لم أقدِّم نظرية مكتملة، ومن خلال هذين الجزأين، مع ذلك سأسعى إلى تثبيت العنصر النظري الضروري لكل فلسفة ملزمة ببلورة فهم خاص بها يتجاوز الفهم الميتافيزيقي إذا ما رغبت في إقامة روابط تعاون مع العلوم الاجتماعية بالاستناد إلى قاعدة تقسيم العمل، فإنَّ الرهان بالنسبة لي يتلخص في تأسيس مشروع قد يتفرّع في اتجاهات متعددة إذا ما قبلنا النظر إليه نظرة واعدة"(14).
بذلك أصبح مفهوم العقل عند "هابرماس" يُسقط من حسابه أيّ مسألة جوهرية، بمعنى آخر، أنَّ العقل عنده لم يعُد جوهرًا، سواء أكان هذا موضوعًا أو ذاتيًا، بل صار معمولًا به نتيجة لتأثيرات الاتجاهات التحليلية عليه، ورأى أنه من الحكمة البحث فيما هو عقلاني عوضًا عن البحث في مفهوم العقل، وعليه ينتقل الاهتمام المركزي إلى العقلانية بدل من التركيز على العقل في شكله المجرَّد(15). فالطرح التواصلي لمفهوم العقل، لا يريد الامتثال للعقول التي تدّعي تقديم حلول فورية لإشكاليات مركَّبة في البيئة الاجتماعية والثقافية والدينية والسياسية، إنه يريد لهذا العقل أن يكون متواصلًا مع غيره. فيؤكد "هابرماس" أنَّ العقل التواصلي يتجاوز العقلانية الغربية التي أعطت أولوية مطلقة للعقل الأداتي الذي يسعى إلى تحقيق مصالح وغايات معيّنة، بالمقابل نجد أنَّ العقل التواصلي يبنى على الفعل الخلاق الذي تقوم دعائمه على الاتفاق بعيدًا عن الضغوط والتعسُّف، لأنَّ هدفه بلورة إجماع يعبِّر عن المساواة داخل فضاء عام ينتزع فيه الفرد جانبًا من ذاتيّته ويدمجها في المجهود الجماعي الذي يقوم بالتفاهم والتواصل العقلي(16).
وفي النهاية، يمكننا القول إنَّ "هابرماس" من خلال كل أعماله وكتاباته، يريد أن يؤكِّد ما يسمّيه "العقل التواصلي" كصيغة تركيبية لقضية الحداثة الغربية والعقلانية سواء في تعبيرها الأنواري أو مظاهرها النقدية. فالعقل التواصلي هو الذي ينظم النشاط الاتصالي ويبين أن الحديث عن هذا العقل يستلزم الحديث عن الأسس التي يتكون عليها هذا العقل، فالنشاط الاتصالي يسعى إلى وضع شروط لمجتمع ممكن. لذلك نجد "هابرماس" قد بدأ بتوجيه سهام النقد للعقل الغربي المتركز حول الذات والانتقال منه إلى عقل آخر هو العقل التواصلي، ممّا دعا به إلى الخروج من فلسفة الذات التي تفرض فهم المعرفة بوصفها معرفة تخص أمرًا موجودًا في العالم الموضوعي، عن طريق مخرج مهم وهو ما يسميه العقل التواصلي، لأنَّ العقلانية الأداتية أصبحت تقيس نفسها بأسلوب الذات المنعزلة وهي تتوجّه وفقًا لمضمون أفكارها وعباراتها(17).
كما سعى "هابرماس" إلى إظهار كيفية تحوُّل مجالات البحث من العقلانية الأداتية إلى العقلانية التواصلية، هذه العقلانية التواصلية تظهر من العلاقة التي يقيمها الناس القادرين على الكلام وعلى الفاعلية عندما يتفقون على شيء معين(18)، وتظهر أيضًا من خلال تنظم عملية التفاعل بين أفراد المجتمع وصياغة فهم الجماعة لذاتها، في المجال الأخلاقي والسياسي الذي ينظم الشرائع والمعايير المعمول بها، حيث تعتمد هذه الكيفية على البُعد التواصلي اللغوي والتفاهم العقلاني الهادف، الذي يؤدي بالأطراف المشاركة بالعملية التواصلية إلى محاولة تحقيق نوع من الاتفاق والإجماع المتبادل حول القضايا المطروحة للحوار، وفقًا لشروط وقواعد أخلاقية تنفي قهر الذوات أو السيطرة عليها أو خداعها؛ ممّا يتيح لهم الفرص بالتساوي للمشاركة في الحوار والنقاش وصنع القرار، كما أنَّ الإجماع لن يتم الوصول إليه إلا عن طريق قوة الأطروحة الأفضل. ممّا يؤسس إلى مفهوم العقل التواصلي.
• الهوامش:
(1) M. Hokhiemer: The Eclipse of Reason, New York, Continuum, 1974, p.(7)
(2) إيان كريب: النظرية الاجتماعية من بارسونز إلى هابرماس، ترجمة محمد حسين غلوم- محمد عصفور، سلسلة عالم المعرفة، الكويت، عدد 244، يناير 1999، ص315.
(3) حسن مصدق: يورغن هابرماس ومدرسة فرانكفورت (النظرية النقدية التواصلية)، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص133.
(4) يورغن هابرماس: العلم والتقنية (كأيديولوجيا)، ترجمة حسن صقر، منشورات الجمل، ألمانيا، كولونيا، ط1، 2003، ص45.
(5) Habermas: Communication and The Evolution of Society, London, Hienemann Educational Books,1979, p.(170).
(6) Ibid, p.(171).
(7) أبوالنور حمدي أبوالنور حسن: يورجين هابرماس "الأخلاق والتواصل"، دار التنوير، بيروت، 2009، ص134.
(8) عبدالله إبراهيم: المركزية الغربية- إشكالية التكون والتمركز حول الذات، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 1997، ص(482- 485).
(9) هابرماس: القول الفلسفي للحداثة، ترجمة فاطمة الجيوشي، دراسات فلسفية (17)، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق، 1995، ص483.
(10) عمر كوش: مناحي الفلسفة ومشادات الخطاب، المركز العالمي للدراسات والأبحاث، بنغازي، ط1، 2008، ص(59-60).
(11) مطاع الصفدي: مغامرة الاختلاف والحداثة - التداولي/ التواصلي، مركز الإنماء العربي، مجلة الفكر العربي المعاصر، بيروت، عدد (46)، 1987، ص11.
(12) عمر كوش، مرجع سبق ذكره، ص60.
(13) هابرماس: القول الفلسفي للحداثة، مرجع سبق ذكره، ص476.
(14) Habermas: The Theory of Communicative Action, Translated By: Thomas McCarthy, Boston, Beacon Press, V:(1), 1984, p.(9).
(15) عمر مهيبل: إشكالية التواصل في الفلسفة الغربية، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، ط1، 2005، ص361.
(16) Habermas: The Theory of Communicative Action, v(1), op.cit, p.(10).
(17) هبرماس: القول الفلسفي للحداثة، مرجع سبق ذكره، ص482.
(18) Habermas: The Theory of Communicative Action, v(2), op.cit, p.(395).