ديما الرجبي
كاتبة أردنية
على الرّغم من أهميّة كتاب "تاريخ بيزنطية" بما يقدِّمه من تفاصيل التقلُّبات العسكريّة التي شهدتها الإمبراطوريّة البيزنطيّة، إلا أنَّ كاتبة هذا المقال تتساءل حول مدى صحّة ما كُتب بأيدي الغرب عن تاريخنا المشترك كمسلمين وعرب مع البيزنطيين؟! وهو ما يدفعها للسؤال عن الأقلام العربيّة التي يجب أن تسطر التاريخ المشترك بماء حِبرِها ليتسنّى للأجيال القادمة معرفة الحقائق، وتدعو أصحاب الاختصاص إلى إجراء تنقيح لهذا الكتاب الذي اختصر ألف صفحة من تاريخ المسيحيّة في العصر الوسيط في مئة صفحة.
يُعتبرُ كتاب "تاريخ بيزنطية"(*) أَحدَ أَهمِّ كتبِ التاريخِ الذي دوَّنَ تفاصيلَ رحلةٍ عاصفةٍ بالتقلُّباتِ العسكريةِ شهدتْها الإِمبراطوريةُ البيزنطيةُ، والتي تقاطعَ تاريخُها مع تاريخِ العربِ المسلمين بحكمِ تَجاوُرِ الشعبينِ لقرونٍ طويلةٍ، يبدأُ السردُ التاريخيُّ منذُ فترةِ تأسيسِ الإِمبراطورية وحتى سقوطها على يدِ السلطانِ العثمانيِّ محمَّد الفاتح.
تعلَّمَ المسلمونَ والبيزنطيونَ أنَّ يتعايشوا معًا بحكمِ الجوارِ الذي جعلَ من وجودِهم المشتركِ واقعًا لا بدَّ من التعاملِ معه، ولذلك نجدُ أنَّ تاريخَ الإِمبراطوريةِ البيزنطيةِ بكلِّ أَعمالِ قياصرةِ الرومِ وحروبِهم وثقافتِهم واقتصادِهم يتقاطعُ بشكلٍ مباشرٍ مع الحضارةِ الإِسلاميةِ التي ساهمتْ بوجودِ بيزنطةَ كما ساهمتْ في سقوطِها... في هذا الموجزِ سنجدُ تبسيطًا لكلِّ الصراعاتِ السياسيةِ والتجاريةِ التي ساعدتْ على وجودِ ونموِّ الإِمبراطوريةِ البيزنطيةِ التي تمثِّلُ أساسَ الحضارةِ الغربيةِ الحديثةِ، ممَّا سيشكلُ صورةً واضحةَ المعالمِ للتاريخِ الذي صنعَ حاضرَ دولِ الغربِ المعاصرِ.
إذا أردنا أن نتعرَّف على تاريخ بيزنطة كما سطره "جان كلود" Jean claude cheynet سنستهلّ الحديث عن تاريخ تأسيس الإمبراطورية البيزنطية ومن ثم ننتقل مع فصول الكتاب إلى محطات ومفارقات سياسية مهمة أدّت إلى سقوطها كما سردها الكاتب.
أَسَّسَ "قسطنطينُ" الأوّلُ الدولةَ البيزنطيةَ عام (330م)، ومنحَها اسمَه فأصبحتْ بيزنطةَ تُعرَفُ "بالقسطنطينيّة" وهي مدينةٌ مطلّةٌ على البسفورِ تعرفُ بموقعِها الاستراتيجيِّ، عملَ "قسطنطين" على تشريعِ نظامِ الحُكمِ الواحدِ الذي يتعارضُ مع نظامِ الحُكمِ الرُّباعيِّ الذي أَقامَه "ديوكليتيان" وهو المقسّمُ بينَ أَربعةِ حكَّامٍ لكلٍّ منهم جهةٌ يحكمُها، وللتَّخلُّصِ من هذا الحكمِ نشبتْ حربٌ أَسفرتْ عن إِزاحةِ "قسطنطين" لأَحدِ الحُكّامِ الأربعةِ وهو "أوغسطس"، واستطاعَ احتلالَ روما بعدَ معركةِ "جسرِ ملفيوس" الذي راودتْه رؤيا قبلَ غزوِها ساهمتْ في دخولِه للدينِ المسيحيِّ الذي أَصبحَ الدِّينَ الرَّسميَّ للدولةِ.
أَعلنَ قسطنطينُ الحكمَ الوراثيَّ للأبناءِ والخلفاءِ وجعلَ للدولةِ عاصمةً ثابتةً بإدارةٍ مركزيةٍ وأصبحَ لقبُ الإِمبراطورِ هو (القيصرُ) والذي اعتُمِدَ للتوريثِ في نظامِ الحُكمِ، وكانتِ الوظيفةُ المقدّسةُ للإِمبراطورِ مستمدّةً من التعاليمِ المسيحيةِ الشرقيةِ؛ لذلكَ لُقِّبَ "قسطنطين" وخلفاؤُه بالحبرِ الأَعظمِ وهو الذي يستمدُ سلطتَه من الإِله الواحدِ ويُنتَخبُ من الإلهِ أَيضًا، وهذا الانتخابُ لا شأنَ له بالكنيسةِ، بل هو انتخابٌ روحيٌّ ويجبُ على مَن يختارُه اللهُ أنْ يحكمَ على خطى المسيحِ. بدأَ "قسطنطينُ" يعيدُ ترتيبَ الشرقِ فأرادَ بناءَ روما جديدةً من أجلِ تأكيدِ بقاءِ الإمبراطوريةِ في الشرقِ واستمرارِها، وهو ما تابعَهُ عليهِ ولدَه "كونستانس" الثاني الذي شُيِّدتْ في عصرِه كنسيةُ آيا صوفيا.
بعد هذه المرحلة بدأت علاقة الكنيسة تتطوَّر بالإمبراطوية، تَحوُّلُها إلى المسيحيةِ قادَ إِلى ضرورةِ تنظيمِ العلاقاتِ بينَ الكنيسةِ وبينَ الإِمبراطوريةِ، فأُقيمَ التنظيمُ الكَنسيُّ على نموذجِ تنظيمِ الدولِ فأصبحَ لكلِّ دولةٍ أَسقفُها، وتمَّ تحديدُ أَربعةِ مدنٍ لكراسي الأَساقفةِ وهيَ: روما وأنطاكيةُ والإسكندريةُ وكرسي القسطنطينيةِ الذي اعترفَ به بطريركيّة؛ وهذا يعني تميُّزَ الكرسي، كما نالَ كرسي القدس هذهِ المكانةَ الرفيعةَ باعتبارِ القدسِ عاصمةَ الإمبراطوريةِ المسيحيةِ، وذلكَ بسببِ اكتشافِ الصليبِ الحقيقيِّ الذي ينسبُ إلى هيلانة والدة قسطنطين فيها، ليبدأَ إِطلاقُ رحلاتِ الحجِّ إِلى القدسِ. تميّزَ دورُ الأسقفِ بالأهميةِ؛ لذلكَ تنافسَ عليه الأباطرةُ وحاولوا شراءَ الكرسي لأَهميةِ صلاحيّاتِه الإداريةِ من توزيعِ الحسناتِ للفقراءِ وتمويلِ المؤسساتِ الخيريةِ.
وتميَّزَ ظهورُ الرهبانِ الذي بدأَ في مصرَ بالقرنِ الثالثِ الميلادي بشعبيةٍ كبيرةٍ بسببِ الاعتقادِ بقدرتِهم على الشفاعةِ بينَ اللهِ والمؤمنينَ، وانعكسَ تأثيرُهم في كلِّ أَوجهِ الحياةِ. حاربتِ المسيحيةُ الوثنيةَ إِلّا أَنَّ اليهودَ احتفظوا بحريّتِهم الدينيةِ ضمنَ نطاقٍ ضيّقٍ، لذلكَ قيّدتْ حريتَهم الدينيةَ وكانَ عددُهم كبيرًا في فلسطينَ، وللتعبيرِ عن غضبِهم حولَ معاملةِ الكنيسةِ لهم استقبلوا الفرسَ ثمَّ العربَ بسرورٍ بالغٍ تمهيدًا لحربهِم على القسطنطينيةِ، لذلكَ أجبرتهُم الكنيسةُ على اعتناقِ الدينِ المسيحيِّ لكن دونَ نتيجةٍ، وللحدِّ من تعدُّدِ الدياناتِ خاصةً الوثنيةَ قامَ القيصرُ "ثيودوسيوس" بهدمِ معبدِ سارابيوم –الوثني- في الإِسكندريةِ وتمَّ تحويلُ بعضِ المعابدِ إِلى مؤسساتٍ مدنيةٍ وأُخرى إِلى كنائسَ.
• بعد التَّأسيس لانطلاقة الإمبراطوريّة
كيف بدأ الصُّعود والهبوط مع جارة العرب؟
تزامنَ بدءُ الكوارثِ مع عهدِ "يوستنيانوس"، وزادَ الاختلافُ في التوزيعِ السكانيِّ، حيثُ تراجعتْ أَنطاكية بنخبتِها المحليّةِ التقليديّةِ وآلتْ للهبوطِ، وتوسّعتْ أراضي الإِمبراطوريةِ بشكلٍ كبيرٍ ممَّا جعلَ الدفاعَ عن الحدودِ مستحيلًا، وأخفقَ "يوستنيانوس" في إِيجادِ حلولٍ للإِنقاذِ، ممَّا أَدّى إِلى تدهورِ الوضعِ الاقتصاديِّ والاجتماعيِّ، ومع عودةِ الطاعونِ عام خمسِمئةٍ واثنينِ وأربعينَ للميلادِ (542م) الذي ضربَ القسطنطينيةَ وحصدَ آلافَ الأرواحِ يوميًّا، تأثّرَ عددُ السكانِ وبالتَّالي تراجعَ التطوُّعُ في الجيشِ وإِعمارُ المدنِ.
وشهدتِ الأَريافُ تطوُّرًا غيرَ متساوٍ من مكانٍ إلى آخرَ، وتراجَعَ الإِنتاجُ الزِّراعيُّ، بينما كانتِ المهنُ المنظَّمةُ داخلَ المدنِ كالصناعاتِ اليدويةِ منها (النقوشُ الكتابيةُ وتطريةُ الجلودِ والعطارةُ) المتركزةُ بكثرةٍ في قسطنطينيةَ وفلسطينَ وسوريا تشهدُ تراجعًا، حاولَ "يوستنيانوس" أَنْ يلعبَ دورَ الباني والمحسنِ، فأعادَ بناءَ كنيسةِ آيا صوفيا ببذخٍ وشيَّد ورمَّمَ عدةَ كنائسَ أَيضًا ككنيسةِ القديسةِ مريمَ الجديدةِ في القدسِ ودير العوسج في سيناءَ وأَرسلَ الأَموالَ لإِعادةِ بناءِ أَنطاكيةَ خاصةً بعدَ الزلزالِ الذي أَصابَها، بمحاولةٍ لتفادي تدهورِ الأَوضاعِ، لكنَّه لم يتمكّنْ من استعادةِ النشاطِ الاقتصاديِّ ممَّا أَدّى لتراجعِ التبادلِ التجاريِّ.
ثمَّ وضعَ "يوستنيانوس" برنامجًا لتحفيزِ الإِنتاجِ المحليِّ فيما يخصُّ البضائعَ الحريريةَ، وهو ما جعلَ التبادلَ التجاريَّ البحريَّ يتأثرُ أَيضًا، فتوقفتِ المحاصيلُ السنويةُ من القمحِ المصريِّ عن الوصولِ إِلى القسطنطينيةِ وحصلَ نقصٌ حادٌّ في التموينِ، ولم يعُد الأَمنُ قائمًا في الطرقاتِ البحريةِ منذُ أَنْ بدأتِ الزوارقُ السلافيةُ تجولُ بحر أيجة، وهذا الانهيارُ الاقتصاديُّ سبقَ وصولَ العربِ لبيزنطةَ.
أدَّتْ سياسةُ "يوستنيانوس" لإِنقاذِ بيزنطةَ لفترةٍ طويلةٍ قبلَ أَنْ تتعرَّضَ للهجماتِ في الحقبِ التاريخيةِ التاليةِ لعهدِه.
سياسيًّا قررَ القيصرُ أَنْ يشتريَ السِّلمَ مع الفرسِ، واستعادَ روما وأَسقطَ آخرَ التحصيناتِ في الشمالِ وأَعادَ تنظيمَ ولايةِ إيطاليا. كانتِ المسيحيةُ الرومانيةُ تلقى معارضةً في حينِها من أَصحابِ مذهبِ الطبيعةِ الواحدةِ وهم الذينَ يعارضونَ المذهبَ الخلدوقيَّ الذي تتبنَّاهُ المسيحيةُ الشرقيةُ وتنصُّ على أنَّ للمسيحِ طبيعتينِ إِلهيةً وبشريةً، لذلكَ حاولَ القيصرُ أَنْ يكسبَ ودَّهُم وهو ما سبَّبَ عداوةَ الكنيسةِ اللاتينيةِ له، واستغلَّ الأمرَ حراسُ الحدودِ السوريةِ للإمبراطوريةِ –الغساسنةِ- وشجَّعوا أَصحابَ المذهبِ من إِقامةِ كنيسةٍ موازيةٍ تحتَ قيادةِ الراهبِ يعقوبِ البرادعيِّ وسمِّيتِ "الكنيسةَ اليعقوبيَّةَ" وأُقيمتْ في سوريا.
مرَّتِ الإِمبراطوريةُ البيزنطيةُ بعدَ ذلكَ بعددٍ من الأَزماتِ العسكريةِ والسياسيةِ التي أَفقدتْها عددًا من أراضيها في مواقعَ استراتيجيةٍ مختلفةٍ، إِلى أَنْ وصلنَا للقرنِ السادسِ الميلادي، حيثُ حصلتْ آخرُ حربٍ كُبرى في العصرِ القديمِ بينَ فارسٍ وبيزنطةَ من أَجلِ السيطرةِ على أَرمينيا التي يقطنُها المسيحيونَ، ورأى كسرى بأنَّ الضَّربةَ القاضيةَ آنَ أَوانُها مستغلًا تمرُّدَ "هرقل" على القيصرِ الإِمبراطورِ "فوكاس"، وعلى الرغم من أَنَّ "هرقلَ" أَزاح "فوكاس" إِلَّا أنَّه لم يستطعْ مواجهةَ الفرسِ الذينَ استولوا خلالَ بضعةِ أَعوامٍ على سوريا وفلسطينَ ومِصرَ وسقطتِ القدسُ، وذبحَ سكانها ونقل الصليب، وتقدَّمَ الفرسُ إِلى القسطنطينيةِ.
ولتفاديَ هذا الغزوِ استجمعَ "هرقلُ" شتاتَ نفسِه وقامَ ببناءِ جيشهِ بكنوزِ الكنائسِ، واستطاعَ بمساعدةِ الأَتراكِ دخولَ بلادِ ما بينَ النهرينِ وهزمَ الفرسَ. لم تنتهِ ضرباتُ الغزاةِ على القسطنطينيةِ فبعدَ صدمةِ الغزواتِ بدأَ الهجومُ العربيُّ يُلقي بظلالِه على بيزنطيةَ، خاصَّةً بعدَ توحُّدِ العرب في الإِسلامِ واجتياحِهم فلسطينَ وفتحِ دمشقَ، في حينِها كانَ "هرقلُ" مرهقًا من خسارةِ جيشِه الكُبرى في معركةِ اليرموكِ (رافد نهر الأُردن)، فأخذَ يسحبُ باقيَ جيوشِه، وضاعَ كلُّ ما صنعَهُ بعدَ فتحِ مصرَ لأَنه لمْ يمتلكِ احتياطيًّا لتعويضِ ما فقدَهُ من رجالِ جيشِه، وفي الوقتِ نفسِه كانَ العربُ قد بدأوا بتقليصِ الإمبراطوريةِ الفارسيةِ.
• عودةُ ازدهارِ الإِمبراطوريّة البيزنطيّة
وتغلُّبِها على الهجماتِ الإسلاميّة
استطاعتْ بيزنطيةُ التغلبَ على تراجعِها العسكريِّ بفضلِ أَسوارِ عاصمتِها ومقاومتِها، فتمكَّنتْ من الرَّدِّ بحزمٍ على هجماتِ المسلمينَ وتحسَّنتْ ظروفُها الماديةُ، لكنْ هذا لمْ يطلْ حيثُ بدأَ ما يسمَّى بـ"حربِ الأَيقوناتِ"، وهي عبادةُ صورِ مريمَ العذراءِ، حيثُ ارتفعتْ وتيرةُ عبادةِ الأَيقوناتِ للحدِّ من الغضبِ الإِلهيِّ في عهدِ اللاهوتيِّ "قسطنطين" الخامسِ وهو ما سبَّبَ عِداءً بينَ رجالِ الدِّينِ، فأَدانَ القيصرُ هذا التَّعبدَ وأَسماهُ "حربَ الأَيقوناتِ"، ممَّا دفعَ أَنصارَ الأيقوناتِ لمهاجمةِ القيصرِ والرافضينَ لهذا التَّعبُّدِ.
وتزامنَ التَّحدي لإِعادةِ بناءِ بيزنطيةَ مع إقامةِ الجبهةِ العربيةِ في أفريقيا من المسلمينَ وبدءِ هجماتِهم ضدَّ صقليةَ حتى أصبحتْ باليرمو عاصمةَ إمارتِهم، وفتحتْ كريت على يدِ عربٍ من الأَندلسِ، وفي عامِ ثمانِمئة وثمانيةٍ وثلاثينَ للميلادِ (838م)، استعادَ البيزنطيونَ توازنَهم، وفي عامِ ثمانِمئةٍ وسبعةٍ وستينَ للميلادِ (867م)، انتهى الانقسامُ الكنسيُّ إلى مصالحةٍ بينَ فوتيوس وبينَ البابويةِ -التي تحتاجُ الإِمبراطوريةَ- وتمَّت الموافقةُ على المساواةِ بينَ الكرسيينَ الكنسيينَ في القسطنطينيةِ وفي روما والاعترافُ بالعاداتِ الخاصةِ بكلِّ كنيسةٍ.
• سقوطُ القسطنطينية آخر معاقل البيزنطيين
على يدِ السُّلطان مُحمَّد الفاتح
تأرجحتِ القسطنطينيةُ بينَ استردادِ أَراضٍ وغزواتٍ على أَراضيها؛ إِذْ إِنَّها وقعتْ تحتَ تهديدِ اللاتين القادمينَ من إِيطاليا والأَتراكِ المحاربينَ على عدةِ جبهاتٍ، وتعرَّضَ اقتصادُ الدولةِ البيزنطيةِ للانهيارِ، ثمَّ حاولَ الإِمبراطورُ "أندرونيك" الثاني ابنُ "ميخائيل" الثامن الذي واجهَ اللاتينَ إِيجادَ حلٍّ، لذلكَ أَبرمَ اتفاقًا مع أَعدائِه اللاتينِ على صدِّ العثمانيينَ، ثمَّ طلبَ الحصولَ على مساعدةٍ ماليةٍ من أُوروبا لمواجهةِ التهديدِ التركيِّ بعدَ أَنْ تزعزعَ الأمنُ الماليُّ إثرَ غزواتِ اللاتينِ، ولجأَ إِلى قواتِ الكتالونيينَ ولكنهُ لم يدفعْ لهم أَموالَهم فانقلبوا عليهِ، ممَّا أَدَّى لهزيمتِهِ أَمامَ الأَتراكِ وتبعيَّته لهم، فانقسمَ الشعبُ البيزنطيُّ بينَ تابعينَ لقوةِ الأتراكِ وبينَ رافضين.
ازدادتْ قوةُ الأتراكِ العثمانيينَ حتى إنَّ قرارَ اعتلاءِ العرشِ في القسطنطينيةِ كانَ يتطلَّبُ موافقتِهم، ولذلكَ حاولَ أباطرةُ بيزنطيةَ التصدي لتهديداتِ الدولةِ العثمانيةِ عن طريقِ التحالفِ مع اللاتينِ الصليبيينَ أَعداءِ الأَمسِ، ولكنْ رفضَ بعضُ رجالِ الكنيسةِ البيزنطيةِ هذا التحالفَ، وفي وقتِ التناحرِ الكنسيِّ بينَ البابواتِ والبطريركِ خرجتِ الجملةُ الشهيرةُ تعبيرًا عن كرهِ اللاتينِ من الدوقِ الأَكبرِ "لوقا نوتاراس" حيثُ قالَ: "من الأَفضلِ أَنْ نرى عمامةَ الأتراكِ تحكمُ القسطنطينيةَ من أَنْ يحكمَها تاجُ البابا"، ومنْ ثمَّ وصلَ السلطانُ محمد الثَّاني عامَ أَلفٍ وأَربعِمئةٍ وواحدٍ وخمسينَ للميلادِ (1451م)، ولأنهُ كانَ يافعًا لم تقلقِ القوى الغربيةُ من قدومِه حيثُ اعتبرُوه غيرَ كفؤ.
بدأَ السلطانُ محمد الفاتح مهمّتَه الجديدةَ ببناءِ قلعةِ روميلي -قصر البسفور- لتهيئةِ الحصارِ على القسطنطينيةِ، وحيثُ إِنَّ جيشَهُ امتلكَ مدافعَ قويةً كانتْ جاهزيتُه مصدرَ رعبٍ للبيزنطيينَ، حاولَ آخرُ قيصر بيزنطيٍّ وهو "قسطنطينُ الحاديَ عشرَ دراغاسيس" الاستنجادَ بالغربِ دونَ جدوى لضعفِ قوتِهم في ذلكَ الوقتِ، ثم بدأَ محمَّد الثاني الحصارَ في إِبريل عامَ أَلفٍ وأربعِمئةٍ وثلاثةٍ وخمسينَ للميلادِ (1453م)، وكانتِ البدايةُ غيرَ مبشرةٍ إِلا أنَّ جيشَ الانكشاريةِ قد انتهزَ اجتيازَ سورٍ ضخمٍ واستطاعَ العثمانيونَ إِسقاطَ القسطنطينيةِ وماتَ آخرُ الأباطرةِ وهو يقاتلُ أَحدَ المقرّبينَ منه، وأَمرَ السلطانُ بوقفِ عملياتِ النهبِ والقتلِ، ودخلَ كنيسةَ آيا صوفيا التي أَصبحتْ فيما بعدُ مسجدَ المدينةِ الرئيس.
في نهاية هذا الموجز التاريخي يبقى السؤال الحقيقي يحوم حول مدى صحة ما كُتب بأيدي الغرب عن تاريخنا المشترك كمسلمين وعرب معهم؟! وهو ما يدفعني للسؤال عن الأقلام العربية التي يجب أن تسطر التاريخ المشترك بماء حبرها ليتسنى للأجيال القادمة معرفة الحقائق، أين هم؟! هل من تنقيح لهذا الكتاب الذي اختصر ألف صفحة من تاريخ المسيحية في العصر الوسيط في مئة صفحة؟!
- - - - - - - - - - - - - - - - - - -
(*) نُشر هذا الكتاب لأول مرة باللغة الفرنسية عام 2005، وصدر باللغة العربية عام 2008 عن دار الكتاب الجديد المتحدة، ترجمة الدكتور جورج زيناتي.