الدكتور راشد عيسى يقدِّم مساقًا تربويًّا على أوراق "لم أكُن أتوقَّع"‏

د. سلطان الخضور

ناقد وباحث أردني

 

في رواية "لم أكُن أتوقَّع" انعكست ثقافة الدكتور راشد عيسى العالية بشكل مباشر بين ‏سطور روايته، فسجّل أهدافه بكل بساطة وثقة، وأجاد السَّرد، ونجح في عرض حلول ‏للتساؤلات التي تدور في ذهن القارئ وهو يقلب صفحات الرّواية، ودسّ بين سطور ‏روايته عناوين تصلح أن تكون مساقات تربويّة لتكون مدعاة للتأمُّل تسهم في تعديل سلوك ‏الفرد وإثراء ثقافته. ‏

 

لم أكُن أتوقع أن تقع بين يديّ رواية بعنوان لافت كـرواية "لم أكُن أتوقَّع" للدكتور راشد ‏عيسى، لأني أعرف الرّجل شاعرًا متميزًا ومتحدثًا لبقًا له تجاربه الحياتيّة التي يحكيها ‏فيستفيد من دروسها المستمعون، ولم أكن أتوقع أنَّ هذه الرّواية هي الثانية للدكتور راشد ‏عيسى.‏

قرأتُ الرواية التي نشرتها وزارة الثقافة والتي اقتربت من الثمانين صفحة على جلستين، ‏وحاولتُ كعادتي في القراءة هضم محتواها، فوجدتني أستخلص أنَّ الرّاوي قد قدّم على ‏أوراق روايته مساقًا تربويًا خالصًا متنوّع المذاق، يصلح ليس فقط للناشئة كما خطَّ على ‏مقدّمتها، بل للناس كافة على مختلف الأعمار ومختلف المستويات، ولو شئت تناول ‏المواضيع التي طرحها الكاتب في روايته بالبحث والتفصيل، لخرجت بكتاب يعادل في ‏عدد صفحاته عدد صفحات الرواية. ‏

وحتى أكون موضوعيًّا في الكتابة، عدتُ للرواية أقلب صفحاتها لأقدّم الدليل على ما ‏ذكرت، فوجدتني لم أستطع فكّ المقصود بالعنوان إلا بعد الانتهاء منها، لأكتشف أنَّ بطلة ‏الرّواية المتفوّقة "دانة" هي ابنة واحد من العبيد، وأنَّ السيّدة التي كانت تعيش معها والتي ‏كانت تناديها "سيرا" في إشارة أنها ابنة خادم أي سيريلانكية، والتي تعاني من نوبات ‏الصَّرع لم تكن هي أمّها، بل هي ابنة سيّد أبيها حيث كان الهدف من الزواج أن يعتني ‏أبوها بها.‏

أجاد الدكتور راشد عيسى السّرد، ونجح في عرض حلول للتساؤلات التي تدور في ذهن ‏القارئ وهو يقلب صفحات الرّواية، ودسّ بين سطور روايته عناوين تصلح أن تكون ‏مساقات تربويّة لتكون مدعاة للتأمُّل تسهم في تعديل سلوك الفرد وإثراء ثقافته.‏

ثقافة الكاتب العالية انعكست بشكل مباشر بين سطور روايته، فسجّل أهدافه بكل بساطة ‏وثقة، ولا أريد في هذا المقام التعرُّض لتفاصيل الرّواية حتى أُبقي مساحة التشويق على ‏حالها، لكني سأتعرَّض لبعض من الدروس والعبر التي وردت في الرّواية والتي أطلقتُ ‏عليها "مساقات تربويّة" بقصد الوقوف على القيم التربويّة فيها.‏

فقد طرق الكاتب في تفاصيل الرّواية مسألة العبد والسيّد، وبيّن نظرة المجتمع السّلبيّة تجاه ‏مَن يطلقون عليهم لفظ "العبيد"، فقد جاء في الرواية (ص16) في إشارة إلى اللون على ‏لسان سمر صديقة دانة: "اسمعي.. يا أم سويد لا تتدخّلي بكلامنا"، وفي (ص63) في ‏حديث العبد عن سيِّده أنه طرق عليه الباب عند منتصف الليل، وجلس على حافة السرير ‏وطلب منه ألا يتكلم إلا بكلمة واحدة هي "موافق" وعرض عليه الزواج من ابنته المريضة ‏بقصد رعايتها، فقال العبد ورأسه يكاد يلمس الأرض بانحناءته: "موافق"، وطلب منه ‏سيِّده أن يعيش في مدينة أخرى، وأن لا يزوره قائلًا: "لا أريد لأيّ بشر أن يعرف ما ‏بيننا"، فوافق وتزوَّج سرًّا كما أراد سيّده، فكان ممرِّضًا لابنة سيّده لا زوجًا لها.‏

هذا عرض يوحي بنظرة المجتمع السلبية تجاه مَن يُطلق عليهم "عبيد" دون اعتبار ‏للإنسانية التي دعت إليها الأديان والمواثيق الدولية والتي تفيد في المجمل وجوب الحفاظ ‏على كرامة الإنسان، دون اعتبار للّون أو الجنس أو أيّ من الإثنيات المعروفة. ‏

وقد أوضح المؤلف في الصفحة الأولى أنَّ معايير المجتمع في الحكم على الأشخاص ‏تعتمد المظهر والحالة الاجتماعية من فقرٍ وغنى والكيد لمن يشعرون بتفوُّقه عليهم، ‏والأهم هو غياب البُعد الإنساني في التعامل بين الناس، وأورد على لسان بطلة الرّواية ‏وهي تتحدث عن صديقاتها في المدرسة: "ويعيّرنني بطرق مختلفة أنني فقيرة وقبيحة، ‏وأحياناّ أشعر بكيدهنّ منّي لأنّني متفوّقة في دراستي".‏

وفي الصفحة الثانية تقول "دانة" -بطلة الرّواية- وهي تتحدَّث عمّن تفترض أنها أمّها: ‏‏"تتركني آكل وحدي في غرفتي وكأنني فكرة منبوذة... كانت تسكتني، فأضع في فمي ‏حجرًا أمضغه بصبر بعيد".‏

وفي موقف تربوي ناجح من مديرة المدرسة عندما قرأت دانة في الطابور الصباحي ‏قصيدة لإيليا أبي ماضي حيث صفّقت المديرة بحرارة وأثنت عليها عندما قرأت:‏

‏"والـذي نفســــه بغيـر جمــــالٍ

لا يرى في الوجود شيئًا جميلا".‏

فجعلتها تحبّ المدرسة وتضاعف حبّها للكتب وللّغة العربيّة تحديدًا، وهنا نلاحظ الأثر ‏التربوي والنفسي حيث قال المؤلف على لسان بطلة الرواية: "كان موقف المديرة غيثًا ‏وقع على كل عشبة جافة في حقل نفسي... وأصبحتُ خلال أيام قليلة مسؤولة الإذاعة ‏المدرسيّة".‏

‏"ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل"، هذه عبارة كتبتها معلمة اللغة العربية وطلبت من ‏الطالبات الكتابة عنها كموضوع للتعبير، تصلح أن تكون عنوانًا آخر من عناوين المساق، ‏وعندما لاحظت "دانة" تململ الطالبات وعدم قدرتهن على التعبير، استأذنت المعلمة ‏وحكت قصة وطلبت من زميلاتها التعليق عليها، أوردها كما هي:‏

‏(أهدى جوني صديقه جاك أرنبًا.. في الصباح وضع جاك الأرنب في قفص بابه مفتوح ‏وترك القفص عند باب البيت المفتوح أيضًا.. عاد جاك في المساء يتفقد الأرنب فوجده ‏متمسكًا بقضبان القفص وهو يرتجف خوفًا من الحريّة). ‏

هذا عنوان مهم من عناوين المساقات التي تتحدث عن الأمل في المستقبل وعن الحرّيّة، ‏إلا أنه يفيد أنَّ هذا لا ينطبق على مَن يستمرؤون العبوديّة والعيش في الأقفاص، والأجمل ‏هو إعجاب المعلمة بالتعليقين الأخيرين وهما:‏

‏"الجبان لا تهمّه الحرّيّة" و"الحرّيّة تليق بالشجعان فقط".‏

وفي عنوان آخر (ص15) جعل الكاتب بطلة روايته تعدل من سلوك صديقاتها في كتابة ‏الرسائل على الهاتف المحمول، حيث لم تعجبها رسائلهن "بليز أنتي مستعجلة ليه.. ألْتلك ‏حاجي يعني مش حتأخر.."، هذه نماذج جعلت "دانة" تخاطب صديقاتها قائلة: "أرجو ‏منكنّ أنْ تكتبن باللغة الفصيحة الميسّرة.. فاللغة العربية أمانة في أعناقكن". وقد ظهرت ‏ثمرة هذا التعديل (ص26) عندما تلقّت من صديقاتها ست رسائل بالفصيحة، إضافة لما ‏ورد في الصفحة نفسها بصيغة تحذير فكانت الجملة التالية: "أبارك لكِ بالهاتف، لكن ‏احرصي ألا تضعيه جانب رأسك عندما تنامين فالذبذبات الإلكترونية تؤذي الدماغ". وهذه ‏نصيحة علميّة تستحق التأمل والأخذ بما جاء بها، عدا عن الحرص على اللغة العربية ‏التي باتت لدى الكثير من الأجيال الحالية في مهبّ الريح، وقد باتت مستهجنة عندما ‏يسمعونها من النخب الثقافيّة وأهل الأدب. ‏

وقد بيّن الرّاوي في العنوان التالي على لسان البطلة أيضًا حين قالت: "إذن من أسباب ‏ضعف الطلبة في اللغة العربية قلة دافعية المعلم أو المعلمة"(ص18). هذا يشير إلى أهميّة ‏المعلم/ة كعنصر أساس في العملية التربوية والتعلميّة يضاف للإدارة والمنهاج ‏والتشريعات وأولياء الأمور.‏

وفي الصفحة ذاتها يقرِّر الكاتب أنَّ مبدأ الحنيّة مقرون بالأمومة، حيث عرض مشهدًا ‏مثيرًا للبطلة عندما دخلت على مديرتها لتخبرها عن مسابقة القصة حين قالت: "قامت من ‏خلف مكتبها -وهذا من سلوكات الكبار- قابلتني بسرور وحنان وهي تقول: تفضلي ‏طلباتك كلها مستجابة.. اطلبي.. فاندفعتُ لأقبِّل يدها.. فرفضت.. فقلت لها من غير وعي: ‏هل أنتِ أمي؟"، فهمست المديرة: "نعم أمك الثانية والثالثة والرابعة" بالإضافة لإهدائها لي ‏مجموعة من الكتب الثمينة"، فكأني بالكاتب يريد القول إنَّ الأمومة ليست بالولادة بقدر ما ‏هي بالعطف والحنان والتفاهم والقدرة على التواصل الإيجابي، فهذا المشهد يقف أمام ‏مشهد آخر على الصفحة التالية مع مَن كانت تفترض أنها أمها، حيث وضعت كتبها في ‏كيسين وأرادت أن تلقي بهما في الحاوية فخاطبتها قائلة: "هيّا ساعدي الخادمة في إخراج ‏الكيسين من البوابة أو انقلعي من البيت" ثم شدّتني من يدي.. وكادت تصفعني، وراحت ‏‏"دانة" تسمع اعتذار كل ما في غرفتها من جماد- الرف والخزانة والطاولة والسرير ‏والوسادة عن هذا التصرُّف المشين، فحتى الجماد يخجل من رمي الكتب في الحاوية، وما ‏هذه الاعتذارات إلا لاستنكار هذا السلوك وهذه العداوة للثقافة التي تظهر من بعض الناس.‏

أمّا العنوان التالي من عناوين المساق، فقد جاء فيه على لسان "دانة" أيضًا: "ليس ‏بالضرورة أن يكون العبقري ابن أسرة غنيّة.. العبقرية موهبة خاصة يضعها الله فيمن ‏يشاء" جاء ذلك في تناص مع قول المتنبي (أورده الرّاوي ص24):‏

‏"ما بقومي شرفت بل شرفوا بي ‏

وبنفســــي فخـرت لا بجـدودي".‏

فمن المعروف أن لا علاقة بين الغنى والفقر والعبقرية، بل أجيز لنفسي هنا القول إنَّ ‏العباقرة والمتفوقين من الفقراء أكثر عددًا من الأغنياء.‏

سبعة من العناوين وردت متتالية ومرقّمة (ص27-28) وهي العبارات الأجمل التي ‏وردت من الطالبات المشاركات استجابة لاقتراح من بطلة الرّواية في فنّ كتابة العبارة ‏القصيرة، يصلح كل منها عنوانًا لجلسة عصف ذهني يستنهض الأفكار لدى الطلبة على ‏مختلف مستوياتهم، أوردُها كما هي:‏

‏1- الاعتذار ممحاة الضغينة.‏

‏2- لسانك صورة قلبك ومرآة عقلك. هكذا قال الصمت.‏

‏3- لأنَّ سمعي ثقيل فلا أسمع إلّا ضجيج الفراشة.‏

‏4- ليت المدرِّسات والمدرِّسين يدركون أنَّ التعليم طريقة تفكير وليست معلومة.‏

‏5- يدا أمي تضعهما على شعري.. (سشوار) حنون.‏

‏6- لا تراهني على رجل في أيام الحب بل بعد الزواج.‏

‏7- مشكلة الوردة أنها لا تعاتب قاطفها.‏

عناوين تستحق التفكير التأمُّلي الذي يفيض إلى نقاش، لأنَّ كل شخص لديه تجاربه ‏الخاصة التي من الممكن أن يستحضرها في كل مجال من هذه المجالات التي تشكل ‏فضاءً رحبًا يتسع لكل ما يمكن أن يُقال فيه.‏

بعض الرجال لا يستوصون بالنساء خيرًا، هذه جملة وردت على هامش حديث "دانة" ‏عمّن اعتقدت أنها أمها لتبرِّر لها سلوكاتها التي ظنّت أنها جاءت كردة فعل على غياب ‏أبيها المتكرر والطويل والمستمر، وهي دعوة لكل رجل أن يحرص على توثيق علاقته ‏بزوجته، وغير ذلك يجب الخروج من غابة الهَمّ والغمّ وليسير كل منهما إلى سبيله على ‏طريقة "إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان".‏

وفي سياق آخر يسوق إلى ذات المساق، ذكر الكاتب مهارات الاتصال الأربع بقصد ‏تعليمها (القراءة والكتابة والتحدث والاستماع)، وهنا تمنيت أن تكون مرتَّبة بحسب ‏المنطق اللغوي حيث تكون (الاستماع والمحادثة والقراءة والكتابة)، جاء ذلك في معرض ‏الحديث عن شعور معلمة اللغة العربية بالتقصير في تطوير هذه المهارات، إضافة إلى ‏خوفها من المبادرات، كل ذلك بسبب دراستها للغة العربيّة دون رغبة، لأنها لم تستطع أن ‏تنال التخصص الذي تريد كما ذكرت الرواية (ص32)، وفي ذلك حث مباشر على حريّة ‏الاختيار وعدم الضغط على الطلبة لدراسة تخصصات لا يرغبون بها، والنتيجة حتمية أنَّ ‏الإبداع يجب أن يتوافق مع الرغبة.‏

وعلى (ص33) قرأتُ نقدًا مباشرًا للمناهج التي تقدِّم المعلومة، لكنها لا تعلِّم الطلبة ‏مهارات الحياة وفن بناء الشخصيّة وتحقيق الأهداف، وقلّما تلتفت إلى قيم التسامح ‏والمحبة واحترام الرأي الآخر وفن الحوار وتشجيع المواهب. كل نقطة ممّا ذكر تستحق ‏أن تكون عنوانًا لحلقة نقاشيّة، لأنَّ كل منها مبدأ أساس من مبادئ بناء الشخصيّة، وكل ما ‏ذكر جاء على لسان "دانة" لمديرتها عندما قابلتها لتكون هناك مرونة في تدريس المواد ‏وعدم التمترس خلف المعلومة التي يقدِّمها الكتاب، فاللامنهجية تكشف عن مكامن الإبداع ‏وتصقل الشخصية وتسهم بالتالي في خلق قيادات مجتمعيّة منتجة. ‏

وأحسن الراوي عرض بعض من الهمّ العربي بطريقة تربويّة صحيحة لمّا جعل البطلة ‏تكتب البيتين التاليين وتخضعهما للنقاش في الصف، ليظهر أنَّ الطالبات انقسمن بين مَن ‏تغلِّب الهمّ الفردي على الهمّ القومي ومنهنّ مَن رأت العكس؛ فكان الهمّ الوطني هو الأهمّ، ‏والبيتين لشاعرين مختلفين(ص34):‏

يقولون ليلى في العراق مريضة ‏

فيا ليتنـي كنـتُ الطبيب المداويا

والثاني قال: ‏

يقولون ليلى في العراق مريضة

فقلت لهـــم كـل العراق مريـض

وقد كشف الجدال الذي دار بين الفريقين من الطالبات كنموذج معبِّر عن مشروعيّة ‏الاختلاف وحتميّة اختلاف الرُّؤى في المجتمع، وإن كنتُ أميل إلى المجموعة التي كانت ‏مع البيت الثاني لأنَّ مصلحة الفرد يجب أن تذوب في مصلحة الجماعة ولا يجوز أن تقدّم ‏عليها، أميل أيضًا إلى أنَّ الشاعر المعاصر الذي كتب البيت الثاني هو ذاته كاتب الرِّواية.‏

يطرح الدكتور راشد على (ص35) موضوع فنّ الإلقاء كواحد من فنون القيادة، ويظهر ‏هذا في الفقرة التالية "الإلقاء الجيِّد المعبِّر عن المعاني يجذب الانتباه فيجعل الفهم متاحًا، ‏وممتعًا. وهو يُكسب صاحبه شخصيّة واثقة من نفسها قادرة على الإقناع والتأثير، الإلقاء ‏فنّ إدارة أصوات الكلمات وحروفها بأسلوب رشيق ساحر، لا شيء كالإلقاء يزيل التردُّد ‏والتلعثم والكآبة ويقوّم اللسان ويشرح الأحاسيس"، ولا أرى أنَّ هذه الفقرة تحتاج إلى ‏تعليق، غير أني أضع خطًا تحت كل من الكلمات التاليات: (فن، القيادة، المعبِّر، يجذب، ‏الفهم، متاحًا، ممتعًا، واثقة، قادرة، الإقناع، التأثير، إدارة، أسلوب، رشيق، يزيل، التردد، ‏التلعثم، يقوم، اللسان، الأحاسيس. ‏

وتعرض الرِّواية (ص38) مسألة أخرى وهي قراءة الفرد من خلال السلوك، وهذه ‏الحاسة تشبه الحاسة السادسة وهي حاسة الحدس، يظهر ذلك على لسان بطلة الرّواية ‏وهي تتحدث عن أبيها حين قالت: "أشعر أنك مغلوب على أمرك أو أنَّ بينك وبين أمي ‏خطًا ما.. يا أبي الهارب.. يا أبي الغامض المتردِّد"، فقد قرأَتْ الخطأ بل الخلل في العلاقة ‏بين أبيها وزوجته من خلال سلوكه فوصفته بالهارب بدل المسافر، والغامض المتردِّد من ‏خلال سلوكه مع زوجته وسلوك زوجته معه ومعها أيضًا.‏

إضافة إلى العِبَر التي ساقتها الرّواية على الصفحة نفسها وهي تتحدث عن الأشجار ‏والنباتات، فالجوريّة لم تكره الحجر الرابض عليها، بل تحايلت عليه وخرجت من تحت ‏إبطه لتؤنسه.. إنها لا تعرف الحقد.. لأنها تحب الحياة، وفسيلتا النخلة ناهضتان كأنهما ‏طفلتان، وحبّة الرمّان شاهقة كأنها مصباح، والشوكة والطبيعة أطاحت بـِ"دانة" حين ‏أرادت قطفها، كأنها تدافع عن الرمانة، والدودة داخل حبة الرمّان من حقها أن تبحث عن ‏رزقها. هذه معانٍ انتقاها الكاتب من النباتات والأشجار وحاول سحبها على البشر.‏

أمّا العنوان التالي فهو عن الخير والشر الكامن في البشر (ص41-42)، تقول "دانة": ‏‏"العجوز الداهية التي تعرف أسرار الحارة وتقوم بدور المرشدة حينًا ومخرِّبة البيوت حينًا ‏آخر هي الآن مع أمي، أطرقت أذني وسمعتها تقول: (روحي عند القاضي.. إخلعيه.. ‏الذهب والمال ما بنفعك...)، لم أتمكّن من سماع رأي أمي، خجلتُ ممّا فعلت فتسلّلتُ إلى ‏غرفتي". هذا عنوان يقودنا إلى التساؤل هل من الناس مَن هو مجبول بالخير أو بالشر؟ ‏وهل هناك مَن هو مجبول بكليهما؟ ثم هل يجب احترام خصوصية الغير عندما يتعلق ‏الأمر بمن يخترق خصوصيّته؟ أجزم أنَّ المؤلف سمح باختراق الخصوصيّة لأنَّ هناك ‏لغزًا محيّرًا، يريد المخترق أن يمسك بخيط من خيوطه ساعيًا للوصول إلى الحقيقة التي ‏غُيِّبت عنه لسنوات طويلة. ‏

وما أجمل أن يتقيَّد أحدنا بآداب الحوار التي لخّصها الرّاوي (ص44-45) على لسان ‏إحدى المعلمات، وهذه أيضًا تصلح لجلسة عصف ذهني ممتعة للطلبة على مختلف ‏مستوياتهم، ليتبادل المشاركون من خلالها آراءهم وتجاربهم التي ستثري الجلسة وتكون ‏فرصة لتبادل الخبرات. أعرضها كما وردت:‏

‏-‏ حُسن الاستماع إلى الآخر وتجنُّب مقاطعته حتى يكمل حديثه.‏

‏-‏ استخدام الجمل القصيرة واضحة المعنى.‏

‏-‏ التحدُّث بصوت مسموع ملائم للمكان.‏

‏-‏ تقبُّل الرأي الآخر وعدم السخرية منه.‏

‏-‏ النظر إلى المتكلم باهتمام واحترام.‏

لقد أراد الدكتور راشد من خلال الرّواية أن يعلِّم طرق الحوار لمن لا يجيد هذه الطرق، ‏لأنَّ مجتمعاتنا العربية تغصّ بالكثيرين الذين يتخذون من الصراخ والفوضى أسلوبًا؛ ‏وخاصة الذين يتحدّثون بقصد الحديث ويحاورون بلا هدف. ‏

وفي السياق ذاته وعلى (ص44-45)، لخَّص الراوي فوائد قراءة النصوص الأدبية ‏الجيدة بقصد التعليم والحث والبحث عمّا هو مفيد، أجمَلَها بأنَّها تنشِّط المدارك والذهن، ‏وتقدِّم خبرات حياتية مختلفة، وتنمّي الثروة اللغوية، وتجدِّد طرق البوح والتعبير عن ‏الأفكار والأحاسيس، وتزيد المعرفة بأسرار النفوس، وتثير البهجة في الوجدان، وتعلّم ‏التفكير المبدع، وهي بالتالي تصقل الشخصيّة وتطوِّر موقفها من الحياة.‏

وقدَّم الراوي على الصفحة 49 صفات المدير القائد حين وصف المديرة، محاولًا توضيح ‏الفرق بين مَن يكتفي بالإدارة وبين مَن يجيد من خلالها فنّ القيادة فيتمكّن ويمكِّن ويقود ‏إلى النجاح، ويتعامل بروح القانون لا بحرفيّة نصّه، فهي -بحسب الرواية- حكيمة، ‏رؤوم، مؤثرة، متواضعة، مقنعة، هادئة، مرنة، تحترم القوانين وتطوِّعها لصالح العمل، ‏كل هذه الصفات لا تتفق مع صفات المدير الذي يتمترس خلف القوانين ويسير خلف ‏موظفيه لا أمامهم ولا يدرك معنى التمكين الإداري. ‏

ومن خلال قصة قصيرة (ص51-53) كتبتها بطلة الرواية، يتعرَّض المؤلف لبعض من ‏مآلات الفقر المدقع ونتاجاته ومؤشراته، التي تجبر بعضًا من الفقراء على بيع أحد ‏أعضائه، أو البحث في مكب النفايات، لا من أجله هو، بل من أجل مَن يعيل، وهذا ‏لعمري درس في الإيثار قلَّ نظيره. فقد ورد في القصة أنَّ أحدًا باع شبكيّة عينه من أجل ‏دار يقطنها، وآخر باع وحدتين من دمه مقابل قسط للمدرسة التي تدرس فيها ابنته، ‏والثالث باع واحدة من كليتيه ليعالج بثمنها أمه، والرابع يبحث في النفايات، ويعرض ‏رجله للدَّهس، لعله يحصل على درّاجة مستعملة لصغيره، ولمّا سأله ابنه أين قدمك ‏الثانية، أنزل الدرّاجة عن كتفه وقال بسعادة: (هذه هي قدمي، العب بها كما تشاء يا ‏ولدي).‏

وثمرة العمل جاءت في (ص54) على شكل إعجاب المشرفين التربويين، وأنَّ الوزارة ‏قرَّرت أن تبني مسرحًا كبيرًا في المدرسة والتبرُّع بألف كتاب أدبي بالإضافة لمئة كتاب ‏من الأدب المترجم، وأدخلت البهجة في قلوب كل مَن في المدرسة، وتبرَّع أخو مديرة ‏المدرسة الجديدة بجوائز عينيّة عديدة للطالبات، بالإضافة لفوز الطالبة "دانة" بالجائزة ‏الأولى في مسابقة القصة، فلكلّ مجتهد نصيب.‏

وقد نجح الكاتب في حلحلة عقد الرّواية وقدَّمه على ما تبقى من صفحات، فـ"دانة راضي ‏مزيود الفضلي" تتلقى اتصالًا من المكتب الوطني للمحاماة، وتعلم أنَّ أباها كان قد أودع ‏لها رسالة تشير أنه من شذّاذ الآفاق الطرقيين المشتتين في فضاء الله خلف ستر الحال ‏ونصف الرغيف، وتحصل على نصف حصتها من تركة أبيها لأنها دون الثامنة عشرة، ‏اشترت بيتًا جعلت الطابق الثاني منه "مركز دانة للمواهب الجديدة" وبلغ عدد صديقات ‏المركز مئتين وثلاثين صديقة، وصار لكلٍّ مكتبة منزليّة خاصة.‏

أترك الحلول على الصفحات الباقيات، لعلَّ المتلقي الكريم يبحث عن الحلّ ويقلّب ‏صفحات الرّواية. ‏