وتأويل الواقع من منظور التخييل التاريخي
أشرف قاسم
كاتب مصري
ترصد بشرى أبوشرار في ثنايا ثلاثيّتها الروائيّة تلك الأوضاع المتردِّية وما آلت إليه الأمور عقب ثورات ما أطلق عليه "الربيع العربي" من ناحية، وما كان عليه الوضع قبل ذلك في سورية وفلسطين بشكل خاص من ناحية أخرى. فتحاول أبوشرار قراءة التاريخ من منظورها الخاص، دون الاعتماد على الأحكام الجاهزة، معتمدة على خيال المبدع الذي يرى الأحداث من زاوية رؤيةٍ مختلفة عن زاوية المؤرِّخ، ودون الاعتماد على أحكام مسبقة على هذا التاريخ.
أتابع تجربة الكاتبة الفلسطينية المبدعة بشرى أبوشرار الإبداعية منذ بدايتها، تلك التجربة التي تتلخص في الإخلاص للقضية الفلسطينية، قضية كل العرب.
يمثل الوطن بمدلوله العام حجر الزاوية في تلك التجربة، هذا الوطن المنتهك السليب، بكل تفاصيله ودقائقه، بكل ما يحيط به من أحداث، ورؤى، وخيالات هي في أصلها أحلام مجهضة لأبناء ذلك الوطن.
انتهت بشرى أبوشرار مؤخرًا من إتمام ثلاثيتها المدهشة "مدن بطعم البارود"، والتي صدرت في طبعة فخمة، ذات أغلفة دالة ومميزة.
إنَّ تلك التغيرات التي صاحبت ما أطلق عليه "الربيع العربي" في كل أرجاء وطننا العربي، من سقوط دول، وتفتت قوى في مواجهة تلك الثورات التي اندلعت متتابعة قد تركت جسد الوطن العربي نهبًا لكل طامع في الداخل والخارج، وأعادت تشكيل الخارطة السياسية والاقتصادية على مستوى العالم العربي كله، وبالتالي لا بد أن يصاحب تلك التغيرات العديد من الندوب والجراح في هذا الجسد الهزيل الذي لم يكن مهيّأً من الأساس لإعادة الهيكلة.
ترصد بشرى أبوشرار في ثنايا ثلاثيتها الروائية تلك الأوضاع المتردية وما آلت إليه الأمور عقب تلك الثورات من ناحية، وما كان عليه الوضع قبل ذلك في سورية وفلسطين بشكل خاص من ناحية أخرى.
تتشكل الأوطان على سندان الوجع ومطرقة الألم المتشعب الذي يقطر من قلم الكاتبة فيعيد حكايات الصبا والطفولة، وكأننا في أحزاننا نلتمس الفرح من أبواب ذاكرتنا الطفولية، لنحافظ على اتزاننا ونستطيع تجاوز المحن، ولو من خلال خيال الطفل الذي نحتفظ به داخلنا.
فمن رصد الواقع الدامي الذي رصدته الكاتبة في الجزء الأول "مدن بطعم البارود"، والذي وثقت فيه بطولات شهداء الحرب السورية توثيقًا تاريخيًا على لسان أبناء تلك الأرض، وعلى لسان مَن رصدوا يوميّات تلك الحرب في كتاباتهم كمحمود درويش ونزار بني المرجة والشهيد ماجد أبوشرار شقيق الكاتبة وغيرهم، معتمدة على تقنية اليوميّات التي تروي أحداث وتداعيات تلك الحرب الملحمية، وتشابك أحداثها مع كل ما يجري على صعيد الوطن العربي من ناحية، وعلى صعيد العالم من ناحية أخرى، وتفاعل الكاتبة من خلال الذات الساردة مع ما يحدث على تلك الأرض، إلى الربط فنيًا وإنسانيًا بين ما يحدث في سورية وما يحدث في فلسطين كما رصدته في الجزء الثالث "تاج الياسمين"؛ فلا فرق بين ما يجري هنا وما يجري هناك، فالعدو واحد، والألم واحد، والنتيجة بالتالي واحدة.
وربما أرادت بشرى أبوشرار في الجزء الثاني من ثلاثيتها "قارورة عطر" أن تتخفف قليلًا، أو تخفف قليلًا عن المتلقي حدة رصدها الواقعي القاسي لما يدور على الأرض، وما تخلّفه رحى الحرب من دمار، في الروح والبدن، وألم لا ينتهي؛ فاتَّجهت إلى أسطرة هذا الواقع، متكئة على صيغة وصبغة التساؤل عن ماهيّة الوجود الإنساني، وجدوى انتظار الحلم، حتى إنها أسطرت اسم الراوية في قارورة عطر "بسيشية" والذي جاءت به من أسطورة يونانية كما ذكرت في أحد مقاطع الرواية، ولعلها محاولة للتشبُّث بالجذور والهوية، إنه عطر الزمان والمكان، وقصة الوطن السليب الذي ما زال يحلم أبناؤه بالعودة إلى تراب الأجداد.
تتبدّى الحرب هنا في ثلاثية بشرى أبوشرار خيطًا رفيعًا يربط بين الأحداث، من خلال التفاصيل المتشابهة، وآثار تلك الحرب، وما يترتب عليها من تغيرات اجتماعية واقتصادية، وآثار نفسية مدمرة، وهذا هو الواقع نفسه الذي تحياه فلسطين منذ العام 1948م وحتى الآن، وذلك الصراع غير المتكافئ مع العدو المحتل الغاصب الذي يمتلك كل الأسلحة المتطورة، في مقابل أصحاب الحق، الذين لا يملكون سوى أرواحهم يدفعونها كل يوم ثمنًا لعودة هذا الحق المستلب، وهو الأمر نفسه الذي فعله الشعب السوري في مواجهة آلة الحرب، وما خلفته تلك الحرب من دمار، وفواجع في المجتمع السوري.
كما يلعب عنصر التخييل التاريخي دورًا مهمًا ومحوريًا في أحداث تلك الثلاثية، بأبعاده التوثيقية، وإبراز العلاقة المضطربة بين الشرق والغرب من ناحية، وبين أبناء الوطن العربي من ناحية أخرى، نتيجة تلك الهوّة السحيقة التي حفرتها المصالح والتوازنات السياسية في طريق وحدة هذا الشعب وتكاتفه.
كما تتشابه مصائر الشخصيات في أجزاء الثلاثية، ما بين الاستشهاد أو الإصابة أو انتظار المصير، لا فرق بين مصائر شخصيات "مدن بطعم البارود"/ الجزء الأول، و"تاج الياسمين.. أغنية كنعانية"/ الجزء الثالث، وكذا جزء التقاط الأنفاس، أعني الجزء الثاني/ "قارورة عطر"، وهو الجزء الذي تماهت فيه الذات الساردة مع روحها، وما يعتمل في نفسها من ألم ومرارة، فتركت العنان لقلمها ليفضفض ويبوح بشكل أشبه بالمونولوج الداخلي، حتى إنَّ المتلقي ربما يشعر أنه داخل متاهة لا تنتهي من التساؤلات التي لا جواب لها.
ولأننا إزاء عمل ملحمي، فمن الطبيعي أن تتعدّد الشخصيات، ويزدحم الكادر بالأحداث التي يتوالد بعضها من بعض، ليكتمل المشهد، وتتضح الصورة، فبشرى أبوشرار في جزئها الأول "مدن بطعم البارود" تحاول أن تستعيد الزمن المفقود على أرصفة الغربة وأن توثق تلك الذكريات التي ذهبت بلا عودة؛ فكما كتبت لصديقتها "إلهام المزيني": (أكتب إليك لأستعيدها من جديد).
كما تستعيد صورة الأب/ الرمز: "أذكرك يا أبي في يوميّات موجعة..."، والأصدقاء الذين استشهدوا في سورية، صفوح المصلح، ميرابو عاقل، علي نظير خزام وغيرهم، حتى الأطفال الأبرياء الذين استشهدوا دون ذنب "زهراء وساندرا الحسن"، تستعيد صورهم وسيرهم فيما يشبه المراثي الحزينة بألحانها الجنائزية التي تعلو وتيرة شجنها كلما اقترب اللحن من النهاية المفجعة.
وفي "تاج الياسمين" يلعب التخييل التاريخي دورًا كبيرًا في أحداث الرواية، ومن خلاله تنسج الكاتبة علاقات متشابكة وملتبسة أحيانًا بين شخصياتها، في محاولة لتأويل الأحداث وفهم الواقع السياسي الذي يمر به الوطن العربي بشكل عام، والسوري على وجه الخصوص.
تحاول بشرى أبوشرار في روايتها قراءة التاريخ من منظورها الخاص، دون الاعتماد على الأحكام الجاهزة، معتمدة على خيال المبدع الذي يرى الأحداث من زاوية رؤيةٍ مختلفة عن زاوية المؤرِّخ، ودون الاعتماد على أحكام مسبقة على هذا التاريخ.
ومن هنا، فإنَّ هذه الرواية ليست رواية تاريخيّة بالمعنى المعروف، ولكن التاريخ يتشكل فيها من منظور الوعي والخيال معًا، بالإضافة إلى كون هذا التاريخ مرجعيّةً أولى لأحداثها، يؤدّي وظيفة جماليّة ومعرفيّة.