د. أسامة أبو الغنم
باحث أردني- دراسات تاريخية
محاضر غير متفرغ- الجامعة الأردنية
لطالما كانت الوجوه ملامح؛ ملامح الزمن وعثراته وملامح السرور وشيء من فرح. الوجوه خارطة لحياة البشر، ومسار زمانه التي خطّها وصاغ تلك الملامح حتى أصبحت تعابير الروح، وكأنَّ منها يتمثل الأنا والآخر. فكان الرسّام "دافينشي" يلاحق في بعض الأحيان أشخاصًا غريبي المظهر الخارجي خلال سيرهم في الشوارع، لكي يتذكّر وجهوهم، كما روي عن المفكر العراقي "علي الوردي" جلوسه في الطرقات مراقبًا وجوه الناس وحراكهم الاجتماعي، وكأنه يعاشر الوجوه أولًا؛ ليستنطق ملامحها لتفسير الاجتماع البشري.
كثير ما يتمثل لعقولنا رؤية وجه حتى أثناء التحديق في الجمادات، فكم من وجه حجري تخيّله الإنسان حينما شاهد تشكيلات صخرية، هذا أمر متعلق بأدمغتنا أساسًا حين يرتب الدماغُ الأشياءَ من العين والأنف ثم الفم فيأخذنا ذلك للتخيُّل، وأمر آخر متعلق بشيء من لآلئ أفكارنا؛ فهناك من الوجوه ما نراها مثل الغروب ميناءً للضوء الراحل، ذاك الغروب الذي يتلطّف شيئًا من وقت الحزن، وكأنَّ العينين سُمِلَت بالحميم مرارًا، وسُرِقت شمسها، وأطفئ قمرها، كأنَّ هذه الوجوه أصيبت بكسوف وخسوف، لقيت من العدوّ شدّة، ومن الخليل جفوة، فخُط عليها شراسة الزمن المتلاحقة، فنظنّ أنَّ نور العين خمد أُوارها، فما إنْ تشرق الشمس نقرأ في شموخ هذا الوجه لوحة.
وهناك من الوجوه وكأننا نقرأ ما في أعماقهم، غريبة هي، تطلعنا على حيوية صامتة متأجّجة، في عينها حركة متوازنة فطنة، وفي مبسمها نشاط متناغم كقافية شعر غزل، حركات ذاك الوجه تضرب مثلًا أعلى في الطمأنينة والرزانة تثير تهلّل الناظرين، وهناك من الوجوه ما تروي إحدى الحكايات الشهيرة، فكأنها بِحار عظيمة، تعلو سطحَها أمواج تلو أخرى، ترتفع وتهبط هادرة مزمجرة، تزبد ثائرة هائجة، ووسط هذا التلاطم يختلط لون العينين بسمرة الجباه، وحمرة الخدين؛ أجل، يطفو على سطحها بعض التباين والاختلاف، ولكن حينما نغوص في أعماقها يتلاشى كل ذلك، فلا نجد حسًّا لهدير، أو أثرًا لزبد، أو إشارةً لأيّ تباين في الألوان. فالوجوه ما هي إلا لحن لصروح الفكر، تعبّر عن أنماط الحياة المتنوعة، وعن أحواض الحضارات المتتالية، وعن ثراء ثقافي من العالم القديم والجديد، فيصيبها على مر الزمن تبديل وتحريف وإبعاد عن الأصل.
للوجوه مخيال عميق، فهي القادرة على مناجاة السماء في عناق كوني لا يتطلب إلا مقابلة وجه لعليين محدقًا وشاخصًا للاسترسال في الأفلاك، فالوجه تعابير كونيّة قيل فيها هلال وقمر ومجرّة، وإذا ما قيل عن التعدديّة كانت تعابير الوجوه، باعتبارها معنى مرادف للأشكال والتقسيم.
نحن لا نعرف إلا تلك الوجوه؛ هي ما نعاملها وما نقابلها، أو ما تقع عليها أعيننا للوهلة الأولى، فمنها نبحر في كوامن النفس البشرية متعلقين في فلسفة الوجوه بعيدًا عن الأحكام الأولية والنمطية؛ لذا ارتكز الفن على رسم الوجوه وبراعة ريشة الفنان بالقدرة على نقل التفاصيل إلى لوحته. وفي ذلك يُروى عن "دافينشي" أنه كان يلاحق في بعض الأحيان، أشخاصًا -غريبي المظهر الخارجي- خلال سيرهم في الشوارع، لكي يتذكّر وجهوهم، حتى أنه في إحدى المرات، استدعى غرباء لدخول منزله، ومازحهم ليتذكر ضحكاتهم، ويرسمها فيما بعد، وفي رسمته الشهيرة الموناليزا سرّ للوجه، كما أنه برع بشكل كبير في رسم وجوه رجال ونساء، تحتشد بالتفاصيل المشوّهة بصورة غريبة، وقد أطلق عليها اسم "الوجوه الوحشيّة".
كما روي عن المفكر العراقي "علي الوردي" جلوسه في الطرقات مراقبًا وجوه الناس وحراكهم الاجتماعي، وكأنه يعاشر الوجوه أولًا؛ ليستنطق ملامحها لتفسير الاجتماع البشري. وكأنَّ كلًا من "دافنشي" و"الوردي" يطويان مداءاتِ حياة الوجوه ويرتميان في عُمْقِها متوسِّدين سماء الجباه، ولعلّ المعنى اللغوي للوجه قد استحكم في التفسير القائم على "استقبال الشيء".
سياقات الخلود عند البشر انحازت إلى الوجوه، فالعرب القدامى مثلًا خلّدوا الوجوه بالتصوير والنحت والرسم، وكثير من الأمم والحضارات اتخذت من التماثيل النصفية فنًا لتقتصر فيه على سرمدية الوجوه دون باقي الجسد، ربما تكون ميثولوجيا البشر في عشق الوجوه سببًا في إبداع حضارتنا البشرية في تخليد الوجوه. إنَّ أزليّة المعنى والمرتبط قادت النظر مقتصرًا ضيقًا شاملًا متناقضًا إلى الوجوه دون سواها.
عودٌ على ذي بدءٍ أقول ربَّما مفتاح بوابة السفر عبر قطار الذكريات، أو من غياهب الجب تُنْتَشل الأحاسيس والعواطف التي تنتابنا حين رؤية الوجوه، فنؤمن بأنَّ الوجه هو لبّة الروح، نتخيّر من تعابيرها مــا نشاء، وننظر فيها بإحكام وفي إنعام وكأنَّ فيها شيئًا يأخذ الانسان لزمان مضى، وكأنَّ الوجوه متعلقة بشكل صارخ بالزمان تنتقل منه إلى زمان مضى في رحلة بين الفصول وما بين البدايات والنهاية، وكل وجه نراه يبدو لنا وكأنه يعيش رحلة وصال وعشق ممض، ويتماوج من حين لآخر مع الأماني والآمالي، ثم يتحوَّل إلى شلال من المشاعر التي تجري لتصبَّ في اللانهاية، وكلما فارت تلك المشاعر فارت معها كينونة الوجوه. والعجيب أنَّ الوجوه تتشابه أحيانًا لأسباب وراثيّة تكوينيّة ولكن يبقى هناك وجهٌ لا يشابهه شيئًا، هذا التشابه لا يمكن أن يكون ولو لحدّ قريب تلك الروح القابعة خلفه، ولكننا نألف الوجوه أوّلًا وأخيرًا.