د. محمد جرادات
أنثروبولوجي وإعلامي أردني
تولي المجتمعات البسيطة العلاقات القَرابيّة أهميّة تتجاوز في درجتها جميع أنواع العلاقات الاجتماعيّة، فالنظام القَرابي يمثِّل المحور الذي تُنظَّم حوله النشاطات السلوكيّة لدى هذه المجتمعات. ولا تنحصر أهميّة القرابة في مجال البحث المتَّصل بالمجتمعات البسيطة، بل تتجاوز ذلك إلى المجتمعات السياسيّة النامية الأخرى، فعمليّة انتقال هذه المجتمعات من التنظيم العشائري القَرابي إلى البيروقراطيّة الإداريّة والتكنوقراط الصناعي، كثيرًا ما تتغيَّر بسبب اصطدامها بالقرابة واعتباراتها.
• مدخل عام
ترتكز علاقة القَرابي بالسياسي من وجهة نظر أنثروبولوجية إلى فرعين أساسيين في الأنثروبولوجيا، هما: الأنثروبولوجيا السياسية، وأنثروبولوجيا العائلة والقرابة، وتعتبر الأنثروبولوجيا السياسية فرعًا حديثًا في الأنثروبولوجيا قياسًا لفروع أخرى عديدة، حيث برزت الحاجة لهذا الفرع بشكل كبير بدايات القرن الماضي على ضوء حاجة الإدارة الاستعمارية، تحديدًا البريطانية، إلى معرفة كل ما يلزم حول الشعوب المستعمَرة، كي تنجح في احتلالها واستغلالها ونهبها والسيطرة عليها، وتبعهم في ذلك الفرنسيون وصولًا إلى الأميركيين. واليوم أصبحت الأنثروبولوجيا السياسية متجاوزة فكرة دراسة المجتمعات والشعوب المستعمَرة إلى دراسة الظواهر السياسية والتنظيم السياسي والثقافة السياسية. أمّا أنثروبولوجيا العائلة والقرابة، فتميّز أساسًا بدراسة ظاهرة القرابة في المجتمعات البسيطة، خصوصًا دراسات الأوائل والروّاد، حيث يندر أن نجد أيًا منهم لم يتناول القرابة.
درس الأنثروبولوجيون العديد من المجتمعات، سواء تلك المسمّاة خطأً بدائيّة، والمجتمعات البسيطة والجماعات الهامشية أو المجتمعات المعقدة ومختلف ظواهرها، وكانت إشكالية القرابي والسياسي ظاهرة في كل تلك الحالات، وتوجد في العديد من المجتمعات ضمن أشكال ومضامين متنوِّعة، ولها ارتباط بمجمل البناء الاجتماعي الذي يشكل مجمل العلاقات الاجتماعية ويرتبط بنظم وأنساق اجتماعية عديدة، ويلعب دورًا مهمًا وحيويًا في عملية تنظيم الجماعات البشرية.
تكمن أهميّة دراسة النظام القَرابي نظرًا لمكانته في حياة المجتمعات، وتفيد في التعرُّف على أشكال النظم القرابية في المجتمع، ولأجل تحديد وفهم المجتمع المبحوث باستخدام المصطلحات القرابية، وتفسير ماهية نظام القرابة وعلاقاته بالبناء الاجتماعي والظواهر المختلفة في المجتمع، ومن ضمنها الظاهرة السياسية، كما أنَّ فهم القرابة ضروري لفهم تركيبة الجماعة الاجتماعية المعيّنة، لأنّ للجماعة القرابية وظائف مختلفة، من ضمنها الوظائف السياسية، فالقرابة تلك العلاقة الاجتماعية القائمة على الدم والمصاهرة، موجودة في مختلف المجتمعات، وتختلف أشكالها من مجتمع لآخر لاعتبارات رمزية وأيديولوجية وحضارية، متعلقة بتعبير الناس وتصنيفاتهم ووصفهم لأقاربهم، وقد تكون العلاقة حقيقية أو مفترضة، كما هي الحال بين أفراد الجماعة القرابيّة الكبيرة، وهي علاقة معترف بها اجتماعيًا، كما أنها مجموعة الروابط الناشئة عن الزواج والأبوّة والأخوّة التي تربط أعضاء الأسرة.
تتطلب دراسة النظام القرابي تسجيل المصطلحات القرابية المستخدمة في مناداة الأقارب والتحدث عنهم من خلال الطريقة الجينالوجية، بمعنى كيف ينادي الأقارب بعضهم بعضًا وكيف يتكلم كل منهم عن الآخر. وتعتبر عملية الالتزام بالمنهج الجينالوجي مفتاحًا لدراسة العلاقات الاجتماعية القرابية بمختلف مستوياتها، وهي ضرورية لفهم وتفسير هذه العلاقة، فاستخدام مصطلح قَرابي معيَّن يترتب عليه سلوك ما وتذكير المخاطَب بمكانته عند المخاطِب، فتعلُّم النظام القرابي ومصطلحات القرابة لدى أيّ جماعة اجتماعيه يبدأ منذ الولادة. وتعتبر مصطلحات القرابة من أساليب التخاطب العادية بين الناس، ويتحدَّد نمط العلاقات القَرابية وفق خصائص المجتمع وظروفه، خصوصًا الظروف الاجتماعية والأنساق الاقتصادية والثقافية كعوامل مؤثرة، ما يعني وجود أنواع مختلفة للأنماط القرابيّة في العالم، وبالتالي مصطلحات قرابيّة متنوعة ومختلفة.
• أنماط قَرابيّة متعدِّدة
تتعدَّد أنماط القرابة في المجتمعات البسيطة، كالنمط السوداني والهاوائي والأوماهي والكرو والإيروكي والأسكيمو، وهي أنماط تتراوح بين الطابع الوصفي والتصنيفي ذات الوظائف المتنوِّعة، مثل تنظيم العلاقات بين الأفراد خصوصًا الأقارب، فالروابط القرابيّة من أهم الروابط الاجتماعية، ولها قدرتها على توفير الاستمرارية والترابط بين الأجيال، وللقرابة وظيفة مرتبطة بأهميّة الأسرة وكون النظام الاجتماعي ينظَّم من خلال أنساق، حيث ترتبط الأسر مع بعضها بعضًا من خلال روابط تتكوَّن نتيجة الزواج "علاقات مُصاهرة" تربط الزوج بأقارب زوجته وبالعكس، وبالتالي تربط مجموعة كبيرة من أفراد الأسرتين مع بعضهما بعضًا في ظلِّ تنوُّع الجماعات القرابيّة، كالأسرة النووية والأسرة الممتدة والبدنة والعشيرة والقبيلة وجماعة النسب، ولذلك شكّل موضوع القرابة ركنًا مهمًّا في البحث الأنثروبولوجي، حيث تولي المجتمعات البسيطة العلاقات القرابية أهمية تتجاوز في درجتها جميع أنواع العلاقات الاجتماعية، فالنظام القرابي يمثل المحور الذي تنظم حوله النشاطات السلوكية لدى هذه المجتمعات. ولا تنحصر أهمية القرابة في مجال البحث المتصل بالمجتمعات البسيطة، بل تتجاوز ذلك إلى المجتمعات السياسية النامية الأخرى، فعملية انتقال هذه المجتمعات من التنظيم العشائري القرابي إلى البيروقراطية الإدارية والتكنوقراط الصناعي، كثيرًا ما تتغير بسبب اصطدامها بالقرابة واعتباراتها.
• روّاد
كثر هم الروّاد الذين درسوا القرابة، من بينهم "مورغان" الذي كتب "أنساق وروابط الدم والمصاهرة والعائلة البشرية"، و"المجتمع القديم"، واعتبر أنَّ النسق القرابي مبني على العلاقات البيولوجية، لكن الأبحاث الأنثروبولوجية اللاحقة أكّدت جوانب أخرى غير بيولوجية من حيث كونها وسائل تصنيف وتعيين وتحديد المسؤوليات والحقوق والواجبات لأفراد المجموعة، فالقرابة هذه الظاهرة الحضارية والاجتماعية تشكل العلاقة البيولوجية فيها نقطة البداية لظهور المفاهيم الاجتماعية المتعددة للقرابة، والعلاقات القرابية علاقات تفاعلية تقوم على التفاعل المباشر بين الأفراد، ويفتخر الأقارب بانتماءاتهم، ويلتزمون تجاه بعضهم بعضًا بواجبات اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية، فنسق القرابة ينطوي على الحياة بكل أبعادها، ما يعقد وظيفة القرابة. واعتمد "مورغان" في أبحاثه على المادة الإثنوغرافية التي جمعها خلال دراسته لجماعة "الهنود الحمر" السكان الأصليين في قبائل أيروكي، وعلى المواد التاريخية التي جمعها؛ وتحدَّث عن نوعين من المصطلحات القرابية، الأول: المصطلحات الوصفية، حيث يتمايز الأقارب المباشرون عن الأقارب غير المباشرين. والثاني: المصطلحات التصنيفية، حيث يتم ضمّ الأقارب المباشرين وغير المباشرين في فئة واحدة، ويتم استخدام مصطلح واحد في مناداتهم. واعتبر دراسة المصطلحات القرابية السبيل الأكثر أهمية في توضيح طبيعة القرابة وارتباطاتها المختلفة، حيث يعتمد النظام القرابي على المصطلحات التي ترمز لأصناف الأقارب وعلى السلوك المتوقع إزاء كل منهم.
استمرَّت الأبحاث الأنثروبولوجية بعد الروّاد، وعمل الباحثون على تطوير تلك الدراسات والأبحاث باعتبارها الجانب المهم من جوانب البناء الاجتماعي، فدرس "هنري مين" القرابة من زاوية الأبوّة والزعامة الأبويّة في العائلة كمنطلق للتنظيم القرابي ولتحديد حقوق الميراث، وأكد أنَّ العائلة الأبويّة هي الحلقة الأولى في سلسلة التطور القرابي التي بدأت أولًا بنظام زعامة الأم، ودرس "راد كليف براون" القرابة من ناحية العلاقات الاجتماعية وأشكالها المختلفة، حيث تمثل القرابة نظامًا مؤلفًا من الحقوق والواجبات وترتبط بالبناء الاجتماعي الخاص بالمجتمع.
تميَّز الأنثروبولوجيون البريطانيون بشكل خاص في دراسة القرابة بالمجتمعات الأفريقية، فدرس "بريتشارد" قبائل النوير في السودان، ودرس "فورتس" قبائل تالنسي، واهتمّا بدراسة جوانب محددة في أنظمة القرابة مثل السلطة والزعامة والوحدة والتجزئة، وأكّد "فورتس" أنَّ الوحدات السياسية القبلية في أفريقيا هي ذاتها الوحدات القرابيّة، أمّا "كروبر" فاعتقد أنَّ المصطلحات القرابية لا يمكن الاعتماد عليها في فهم حقائق التنظيم الاجتماعي، خصوصًا أنَّ بعضها لا يمثِّل أكثر من عُرف قوي دارج لا يعكس حقيقة ما يجري في حياة أعضاء الجماعة، وكشف "كروبر" و"لوي" عن المعايير الرئيسة التي يعتمد عليها سلوك الناس، وبيَّنا الاختلافات الاصطلاحية القرابية كالجنس والعمر والمصاهرة والتشعب والاستقطاب، وركّز "مردوك" على عملية إخضاع البحث القرابي للطريقة العلمية الإحصائية المقارنة وإبراز الجانب التطوري والديناميكي للبناء الاجتماعي خصوصًا البنية القرابية، وتناول "مالينوفسكي" جماعة (التروبرياند) حيث لفت نظره موقف الولد من الخال هناك؛ وهو من أبرز الذين درسوا القرابة من زاوية الحاجات العاطفية للفرد.
• تغيُّر العلاقات القرابيّة
تعتبر المجتمعات البسيطة والنامية من أصدق صور الواقع القرابي المتغيِّر، وتعرَّضت مفاهيم القرابة وقواعدها إلى تيارات التحديث التي يفترض أن تضعف منها، فنُظُم القرابة أصبحت تواجه ضغوطًا متزايدة بسبب عملية التغيير الاجتماعي والتمدين والتحديث والتصنيع، لكنها على الرغم من تنوُّع أنظمتها الاجتماعية تشترك في عدة صفات مثل: استقلالها السياسي الحديث واستمرارية اعتمادها التكنولوجي والاقتصادي على الغرب الاستعماري. سيادة الطابع الزراعي الريفي على الرغم من وجود بعض الصناعات في بعض المدن. عدم تبلور مفاهيم المدنية الصناعية نتيجة عدم انسجام هذه المفاهيم مع قيم الأعراف المحلية القبلية. ضيق مجالات الحراك الاجتماعي، وضعف مبدأ الكفاءة والإنجاز أمام الاعتبارات العرفية. سيادة العضوية الثنائية (بين الولاء للدولة الحديثة والعشيرة/ القبيلة المعتمدة على التماسك القرابي والعلاقات القرابية الحقيقية والمفترضة)، حيث تمثل العشيرة أو القبيلة النظام الاجتماعي والفكري والاقتصادي والسياسي والأخلاقي لأفرادها، من دون أن يعني ذلك خلوّ هذه الأنظمة من صراعات داخلية لدى الجماعات الكبرى كالقبيلة، لاعتبارات عديدة منها انقسامها إلى بطون وأفخاذ وعشائر، أو عدم توحُّدها عند مواجهة الأخطار الخارجية.
• الظاهرة السياسيّة
تمثل الظاهرة السياسية مفهومًا صعب التحديد، لكن من الممكن تسخيره لدراسة وجوه التنظيم السياسي في المجتمعات المختلفة من دون أن ننفي وجود خصائص نوعية مشتركة لما يعتبر سياسيًا في ظواهر الحياة الاجتماعية مثل: العمومية، أي أنها تهمّ المجتمع بكامله. الأهداف المحددة، بمعنى أنها ذات طابع جماهيري بما تلقاه من اهتمام وتأكيد جماعي. السلوك الواعي، أي اقتران الظاهرة السياسية بدرجة من الوعي السلوكي باعتبار أنَّ السلوك السياسي سلوك قصدي. البحث عن حلول، ويجب أن تكون مقبولة لدى الرأي العام. طابع السلطة أو القوة على مستوى الزعامة والقيادة بشكل خاص. الشرعية، مع الأخذ بعين الاعتبار مقاييس ومعايير الشرعية (القوة والانسجام). تجانس المواقف؛ مع ملاحظة أنَّ المجتمعات المسمّاة "بدائيّة" تُظهر درجة عالية من تماثل وتجانس المواقف لدى أفرادها تجاه الأدوار السياسية والنتائج المترتبة عليها لاعتبارات العلاقات القرابية. وهناك اختلاف في منطلقات الباحثين الأنثروبولوجيين النظرية والتحليلية؛ التي درست الظاهرة السياسية، فمنهم مَن تطلّع للبحث السياسي من زاوية ستاتيكية معتمدة على مفهوم البناء الاجتماعي والمكانة الاجتماعية؛ مثل "بريتشارد" و"فورتس"، حيث اعتبرا البناء الاجتماعي الأساس الذي لا غنى عنه لدراسة جميع ظواهر الحياة الاجتماعية بما فيها من وجوه التنظيم السياسي، ومنهم مَن اعتمد على الزاوية الديناميكية وركز على مفهوم الدور والتنظيم الاجتماعي في البناء الاجتماعي من دون إهمال المكانة الاجتماعية في دراسة مختلف الظواهر بما فيها الظاهرة السياسية.
• مبادئ البحث السياسي الأنثروبولوجي
هناك مبادئ عامة وأسس اعتمد عليها البحث السياسي الأنثروبولوجي، مثل مبدأ الوحدة والانقسام: حيث يتم النظر للتنظيم الاجتماعي والسياسي من زاوية درجة الانقسام البنائي في المجتمع، ومن روّاد هذا المجال "مارشال ساهلين" في دراساته حول القبائل الأفريقية. ومبدأ التصادم والعُرف: حيث يتم التركيز على مشاكل التصادم والنزاع والوسائل العرفية السائدة والمستخدمة لحسمها؛ وكيفية حلها عبر اعتمادها على قواعد أخلاقية وأعراف وشعائر وعقائد روحية غير مكتوبة تمكنها من تنظيم علاقاتها الداخلية. ومبدأ شكل السلطة: وهو الأكثر شيوعًا؛ حيث يحدد الظاهرة السياسية على ضوء شكل السلطة المشرفة على تنظيم الشؤون العامة. وتحدَّث الأنثروبولوجيون عن عدة "أنظمة" للجماعات "البدائية" مثل:
النظام الأوليجاركي؛ الذي يتميَّز بانفراد عدد قليل من أفراد المجتمع بالحكم والسلطة. النظام الملكي؛ وهو وجود الحاكم الواحد. النظام الديموقراطي؛ الذي يتعلق بسيطرة الغالبية العظمى على السلطة أو ما يسمّى حكم الأغلبية الشعبية. النظام الجيرونتكراسي؛ وهو حكم الشيوخ المسنين "كبار السنّ". النظام الثيوقراطي؛ وهو حكم الكهنوت ورجال الدين.
• ميدان السياسي
منذ زمن بعيد قال أرسطو: "الإنسان سياسي بطبعه". وكشفت أبحاث الأنثروبولوجيين عن تنوُّع الأشكال السياسية "البدائية"، ما ساهم في كشف الحقل السياسي وتحديده حيث لا وجود لمجتمع من دون "حكومة" فهناك دومًا الأعلويّون والأدنويّون. ويؤكد "ماكس فيبر" على أسبقيّة السياسة على الدولة. وقال مهدي عامل: "السياسة ليست كل شيء لكنها في كل شيء". وهناك مَن يقول إنَّ نطاق السياسي يبدأ حيث ينتهي نطاق القرابة. وعمومًا تميّز ميدان السياسي بالوظائف المؤدّاة أكثر منه بطرق التنظيم؛ بمعنى طرق تنظيم حكم المجتمعات البشرية وأنواع العمل المساعدة في إدارة الشؤون العامة، والاستراتيجيّات الناجمة عن تنافس الأفراد والجماعات، والمعرفة السياسية والاستدلال، سواء من حيث طرق التنظيم المكاني، أو الاستدلال بالوظائف وطرق العمل السياسي والخصائص الشكلية.
الميدان السياسي بحسب "مورغان" و"مين" بالنسبة لطرق التنظيم المكاني يُفهم أولًا كنسق تنظيمي يعمل في نطاق أرض محدَّدة ووحدة سياسية أو كحيِّز يشتمل على جماعة سياسية، ما يشير إلى إمكانية التوافق بين عنصري القرابة والمكان. وبالنسبة للاستدلال بالوظائف فغالبًا ما يُعرف السياسي بالوظائف التي يؤدّيها، حيث تؤمِّن هذه الوظائف التعاون الداخلي والدفاع عن سلامة المجتمع ضد المخاطر الخارجية، وتكون مسألة تأدية الوظائف نفسها من قبل جميع الأنظمة السياسية، والتعددية الوظيفية للبنى السياسية، وأحيانًا كثيرة توصف الوظائف كالبنى السياسية بالإكراه المستخدم شرعًا. أمّا الاستدلال بطرق العمل السياسي ففيه تنتقل نقطة الارتكاز في التحليل من الوظائف إلى مظاهر العمل السياسي باعتبار أنَّ الحياة السياسية مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية ونظام عمل، ويكون العمل الاجتماعي سياسيًا عندما يسعى إلى السيطرة أو التأثير على القرارات المتعلقة بالشؤون العامة.
• السلطة السياسيّة والضرورة
السلطة مفهوم خطير ومعقّد، وهو ظاهرة طبيعية في أيّ مجتمع سواء كان "بدائيًا" أو غير ذلك، فكل شيء في الوجود يوحي بوجودها، وتنوّعت تعريفات السلطة، فهي مقولة خاصة للعلاقات الاجتماعية والقدرة على إجبار الآخرين ضمن النظام. وهي الإمكانية المتاحة لأحد العناصر داخل علاقة اجتماعية معيّنة ليوجِّهها حسب مشيئته، وهي أكثر قدمًا وأساسية من ظاهرة الدولة، فالسيطرة الطبيعية لبعض الأفراد على بعضهم أساس التنظيمات والعلاقات الإنسانية والتطور البشري، وظاهرة السلطة ترافق الفرد منذ طفولته فهو ينشأ ويتعوّد على تقبُّل الأوامر والطاعة والخضوع لأهله، ودور المدرسة ورقابتها، وكلّما شبّ الفرد ووعي المجتمع الذي يعيش فيه، شعر بوجود السلطة في كل فئة اجتماعية، وهي دومًا في خدمة بنية اجتماعية لا يمكنها المحافظة على نفسها بتدخُّل العُرف أو القانون فقط أو بنوع من التقيد التلقائي بالقواعد. وهي المقدرة (ضمنية أم مكتسبة) على ممارسة السطوة والهيمنة على مجموعة ما، ومظهر للقوة تتضمّن الطاعة، وهي القوة الرسمية، فعند القول إنَّ شخصًا ما يملك السلطة فذلك لا يعني أنه يملك القوة لكن المعادلة السياسية هي التي تمنحه القوة. السلطة مبنية على الفعل، وهي ضرورة إلزامية في التنسيق بين فئتين؛ بين الحكام والمحكومين، وأساسها الشرعية، حيث لكل سلطة شرعية خاصة بها، ويكمن الفرق بين السلطة والقوة والإرغام والعنف في الشرعية، وغالبًا هناك ثلاث سلطات؛ السلطة التقليدية المتعلقة بالإيمان الراسخ في قدسية التقاليد. السلطة الأسطورية المتعلقة بالعبادة والتفاني الشعبي في سبيلها. السلطة العقلانية القانونية التي تستمدّ شرعيّتها من القانون والطاعة والخضوع للقانون. ومن المؤكد أنَّ سلطة الحكّام مستمدّة من سلطة المنصب وليست مستمدّة من سلطة أشخاصهم.
• السلطة السياسيّة في المجتمعات "البدائيّة"
تعتبر دراسة ظواهر السلطة من ضمن ميادين الأنثروبولوجيا الحديثة، والبريطانيون روّاد في هذا الحقل، فقد طرح "مالينوفسكي" مشكلة العلاقات بين المؤسسات الاجتماعية للمجتمعات "البدائية" والمؤسسات البريطانية من منظور تعادل الوظائف، واليوم تغير موضوع الأنثروبولوجيا السياسية من التركيز على دراسة السلطة إلى النزاعات والعمليات المتعلقة بتفكيك البنى السياسية وإعادة تركيبها أكثر من الاهتمام بالتوازنات والمؤسسات، وبالتالي أحدثت الأنثروبولوجيا السياسية على هذا الصعيد انقلابًا في مفهوم السلطة من حيث تنوُّع الأنساق ومبادئ التنظيم، فهناك محاولات تحديد الأشكال السياسية للدولة في إطار الأشكال الأخرى لتنظيم السلطة وانتقالها ومعارضتها، وهنالك علاقة وثيقة بين السلطة والقرابة والسلطة والدين والسلطة والشرعية.
والسلطة في أبسط التعريفات هي القدرة على التحرُّك والتأثير في الواقع وامتلاك وسائل تغييره وتحريكه، وبالتالي ليست السلطة السياسية الشكل الوحيد للسلطة، فهناك سلطة اقتصادية، ودينية، واجتماعية وعسكرية، ويقاس الوجود الفعلي للسلطة تبعًا لمدى تأثيرها في الواقع، وترتبط بمفهومي الشرعية والفعالية، وليست دائمًا شرعية ومتطابقة مع المعايير. وعند الحديث عن السياسي فإنَّ المقصود بذلك مجمل العمليات المؤسسية والطقوسية والشخصية أو غير الشخصية التي تقوم بواسطتها مجموعة اجتماعية ما بالمعارضة أو التأييد، بمعنى إعادة تركيب متواصل لسلّم القيم والمصالح والنماذج السلوكية التي تشكل المجموعة، وهنا لا يتحوّل الديني والاقتصادي والحقوقي واقعًا سياسيًّا إلا بمقدار ما يتدخل في إعادة التركيب هذه ويعبِّر عنها.
• خاتمــة
أيّ مجتمع هو أكثر من تجمُّع للأفراد، بمعنى تنظيم، ولا يتصرَّف الأفراد إلا ضمن قوانين وقواعد تنظم سلوكهم وعلاقاتهم، والسياسة متعلقة بمشكلة التنظيم، والضبط الاجتماعي عبر التنظيم للأفراد وعلاقاتهم، ولعلَّ السلطة تبدأ من البيت أساسًا وتكون استعمالاتها لأجل التعزيز والإمداد العسكري (القوة) والإدارة والقضاء، وهناك بُعد تتموضع فيه السلطة خارج المجتمع وفوقه وتؤثر على قدراتها الإكراهية، فالسياسة تؤثر على الجماعة بشكل يذكر بالأسباب الطبيعية، فهي (الجماعة) تخضع للسلطة كما تخضع للتقلبات الطبيعية، فتظهر السلطة كقوة مرتبطة بالقوى التي تحكم الكون وكطاقة هيمنة تربط بين نظام العالم المفروض من قبل الآلهة ونظام المجتمع المنشأ على يد مؤسّسي الدولة، فالطقوس تؤمِّن الحفاظ على نظام الآلهة والعمل السياسي يؤمِّن الحفاظ على الدولة، وبالتالي فإنَّ هناك علاقة بين المقدَّس والسياسي تضفي صفة تدنيسيّة على كل أشكال ومحاولات التعدّي ضدّ السلطة، وهذا يؤكد أنَّ الشأن السياسي يعتبر تعبيرًا واضحًا عن الواقع الاجتماعي؛ وإلا إذا لم يكن كذلك فكيف يحدَّد ويُصاغ ويوصف؟ وكيف تحدَّد وظائفه إذا وافقنا على فكرة حرمان بعض المجتمعات "البدائية" من أيّ تنظيم سياسي؟ وعلى كل الأحوال "إذا تكافّ الناس عن التظالم استغنوا عن السلطان".
• المراجع باللغة العربية
- أبو عزالدين، فريدة، الفكر العربي، ما هي السلطة، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1983.
- بالانديه، جورج، الأنثروبولوجيا السياسية، ترجمة علي المصري، بيروت، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، 1990.
- جوبر، بيتر، السياسة والتغير في الكرك، ترجمة خالد الكركي، عمّان، 1988.
- جورداني، ج. الفكر العربي، السلطة السياسية في المجتمعات البدائية، ترجمة ماري جنابزي، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1983.
- الجوهري، محمد، الأنثروبولوجيا أسس نظرية وتطبيقات عملية، ط1، مطابع سجل العرب، القاهرة، 1980.
- الحداد، محمد؛ والنجار، محمود، الأنثروبولوجيا مقدمة في علم الإنسان، الكويت، الناشر الدولية، 1985.
- السيد، رضوان، الفكر العربي، المجتمع والسلطة؛ إشكالية الاستمرار والوحدة، بيروت، معهد الإنماء العربي، 1983.
- مير، لوسي، مقدمة في الأنثروبولوجيا الاجتماعية، ترجمة شاكر مصطفى سليم، بغداد، وزارة الثقافة والإعلام، 1965م.
- النوري، قيس، طبيعة المجتمع البشري في ضوء الأنثروبولوجيا الاجتماعية، الجزء الأول، بغداد، مطبعة الآداب، 1972.
- النوري، قيس، طبيعة المجتمع البشري في ضوء الأنثروبولوجيا الاجتماعية. الجزء الثاني، بغداد، مطبعة الآداب. 1972.
• المراجع باللغة الإنجليزية
- Barnard, A. & Good, A. Research practices in the study of kinship. London, Academic press. 1984
- Ember, C. & Ember, M. Cultural anthropology, 7th edition. USA. 1993
- Fortes, M. & Pritchard, E. African political systems. London, oxford university press, 1950
- Fox, R. Kinship & marriage. Cambridge, C.U. press, 1967
- Hicks, D. & Gwynne, M. Cultural anthropology. USA, Harper collms college publishers. 1984
- Hunter, D. 7 Whitten, Ph. Anthropology contemporary perspectives. 3rd edition, Boston. 1982
- Keesing, R. Kin groups & social structure. New York, USA. 1975
- Sahlins, M. Tribesmen. New Jersy. USA. 1968
- Schusky, E. Manual for kinship analysis. Lanham, university press of America. 1931
- Service, E. The Hunters. USA. 1979