سحر ملص
كاتبة وأديبة أردنية
بيت ابو جابر
في الثالث عشر من كانون الثاني 2022 نظَّمت مديرية التراث في وزارة الثقافة الأردنيّة المسار التراثي السياحي الثالث الذي خُصِّص هذه المرَّة لزيارة مدينة السلط وموقع المغطس مرورًا بوادي شعيب، وذلك ضمن برنامج (حكاية مكان) الذي أطلقته وزارة الثقافة مؤخّرًا. وفي هذا المقال تسرد لنا الأديبة سحر ملص حكاية تلك الأماكن وانطباعاتها عنها، عندما حملت بوصلتها باتِّجاه مدينة الحكمة والتسامح؛ مدينة السلط التي أُدرجت على قائمة التراث العالمي عام 2021، ثم مقام النبي شعيب، انتهاءً بالمغطس حيث تعمَّد السيد المسيح، وهو الموقع الذي اكتُشف في عام 1995 وأُدرج على قائمة التراث العالمي.
صباحًا غادرتُ عمّان وسط سماء تتوشَّح بالغيوم، وشمس خجول تطلُّ للحظات مثل ثغر طفل باسم، ثم تختفي خلف السَّحاب كصبيّ يتدثَّر بمعطف أمِّه في يوم شتائيّ.
مقصدي مدينة السلط ومقام شعيب والمغطس؛ مكان تعميد السيد المسيح، وللأرض والأماكن نداء خفيّ غامض، ينساب في ثنايا الروح فيختلج القلب، وتحجّ له النفس في خشوع..
ما بين دروب مدينة صويلح التي ما زالت نائمة عبَرَتْ بنا حافلة وزارة الثقافة الأردنية إلى طريق السلط المتوشِّح مثل شيخ بعباءة الحب والدفء وبعض الضباب، وعلى قمم أشجار السرو كانت تقف القبَّرات تهدل بخشوع وتصلّي من أجل الطلبة السائرين في دروب العلم.
في أعماقي جذوة حب وفرح... تتوهّج في قلبي لتُعيد لي فرح الشباب والصهيل كمهرة، حين كنتُ أستيقظ مع نسمات الفجر في التسعينات من القرن الماضي، أحمل ورقة وقلمًا وفنجان قهوة ثم أحجُّ إلى ربوع وطني.
أبتدأتْ الشمس مثل رضيع يفلّت كفيه الصغيرتين من القماط تتفلّت من أسْر الغيم لتغمر جسدي بالدفء مردِّدة:
"أيتها الآدميّة المصنوعة من طين العنبر، ها أنتِ تحملين بوصلتكِ باتِّجاه مدينة الحكمة والتسامح، صاحبة القلب الكبير؛ مدينة السلط التي أدرجت على قائمة التراث العالمي عام 2021".
• السَّلط
لحظة تدخل شوارعها تمدُّ إليكَ جبالها أياديها مرحِّبة، وشرفات بيوتها المعلّقة بين الصخور. ابتدأ المسير من ساحة العين... تلك المكحّلة بالذكريات الحميمية، أمام المسجد الكبير ساحة تتوسّط الشارعين.. مقاعد حجرية تظللها أشجار باسقة ضاربة جذورها عبر التاريخ، في هذه اللحظة نهضت مدينة السلط من جلستها، ارتدَتْ (الخلقة) ووضعت العصبة على رأسها وحملت دلال القهوة والفناجين، ثم طافت علينا تصبُّ قهوتها المعطَّرة بالهيل.
شيوخ المدينة من الرجال يجلسون تحت شجرة باسقة يلعبون (المنقلة). اقتربتُ من أحدهم وسألتُ عن اسم الشجرة، ليجيب: (شجرة المحبّة)، هنا كان الناس يجتمعون ويتسامرون ويحلّون الخلافات.
سمعتُ صوت دليلنا السياحي يتحدَّث عن ساحة العين وهو يتغنّى بأنَّ في السلط ما يقارب خمسمئة ينبوع، يسيل الماء منها على قمم الجبال لتستحمَّ المدينة، وفي هذا المكان كانت ثلاث عيون منها: "عين النسوان" و"عين الرجال" و"عين الدواب"، حيث كانت تُعقد الأحلاف، والنشاطات الاقتصادية بقدوم أهالي فلسطين عبر طريق نقل برّي، وتُعتبر السلط أوَّل عاصمة سياسيّة في الأردن، وقد سكنها جلالة الملك عبدالله الأوّل لمدة ثلاثة أشهر. كان فيها سرايا السلط التي بُنيت في عام 1869 مقابل المسجد الكبير، لكن تمَّ هدمها في الستينات.
هنا تشعر بالحميمية، أتأمل المباني الحجرية التي تشعُّ مثل شموس تبعث الدفء في الأوصال، ليخبركَ الدليل بأنها بُنيت من حجارة صفراء اقتُطعت من جبل "السلالم" في السلط.
أمّا عن سبب تسمية المدينة بهذا الاسم فقد تضاربت الآراء؛ إذ يُقال إنَّها مشتقّة من الكلمة اللاتينية "سالتوس" وتعني الغابة، ويقول بعضهم إنها مشتقة من كلمة "سلطا" السريانية والتي تعني الصخر.
محطتنا الأولى بيت أبو جابر، وهو من البيوت التراثية المميزة في المدينة والذي يعود إلى الجوابرة اللذين تملكوا ما يقارب 700 متر مربع أزيل من عليها البناء القديم وشيِّد هذا البيت.
تختلف خاصرتي البيت عن بعضهما بعضًا بنوع الحجارة ومسقط رأسها، إذ إنَّ الجهة الشرقية التي بنيت في عام 1892 تتكون من حجارة بيضاء من وادي شعيب بينما الواجهه الغربية من الحجر الأصفر من جبل "السلالم" وقد بنيبت عام 1896، واستخدم هذا النمط المعماري التقليدي السائد في تلك الحقبة الزمنية حيث تتكون الغرف من أحجام مختلفة مسقوفة إمّا بعقود برميلية أو متقاطعة؛ ممّا يتطلّب أن تكون الجدران سميكة، أمّا الأبواب فهي مقنطرة والسقف على شكل قباب، وهو من التحف المعمارية.
هنا نقرأ تاريخ السلط... نستحضر رموز ثقافتها وهنا تتعرَّف على نمط معيشة سكانها ما بين عامي 1847- 1918 في المتحف الذي افتتح في عام 2010.
من المتحف نمضي باتجاه شارع الحمّام الذي يتغلغل مثل شريان دافق في صدر البلدة القديمة. تسمع صوت الدليل يحدثك عن وجود حمّام تركي... في ثلاثينات القرن الماضي، لكنه لم يعُد يُستعمل، بينما البناء ما زال قائمًا عبر الشارع الممتد لمسافة ثلاثمئة متر، وهو من أهم شوارع المدينة. على جانبي الطريق المبلّط ببلاط مصقول تلمح الحوانيت بأبوابها الجميلة ممّا يعطي للشارع رونقه الخاص، وتشتمّ رائحة العطارة؛ شيح، قيسوم، للحظه يخيَّل إليّ أني أسير في شوارع دمشق، لمحتُ ساعة تتصدَّر برجًا حجريًّا تدقّ كل نصف ساعة.
قصدنا كنيسة اللاتين؛ بناء برميلي، ثم بوّابة خشبيّة لتعبر تحت قناطر وحنايا حجريّة وقد بنيت في عام 1879، واستمرّ العمل بها ستة عشر عامًا وتمَّت توسعتها عام 1880.
يضمُّ البناء مزارًا للقديسة "ماري ألفونسين" مؤسسة راهبات الوردية والتي عاشت في السلط لعدة أعوام.
زرنا متحف السلط الذي تأسس في عام 1983، وتمَّ تجديده عام 2007، تسلّقنا السلم الحجري لتستقبلنا الشرفة المزنَّرة بالأقواس الحجريّة والأعمدة، وبعدها عبرنا إلى القاعات الواسعة حيث تُعرض القطع الفخاريّة التي عثر عليها في تليلات الغسول من العصر الحجري النحاسي 4500-3300 ق.م. وفي خزانة أخرى بعض القطع الفخارية والأسرجة التي عثر عليها في دير علا.
أمّا بيت طوقان الذي يقع في سفح جبل "السلالم" فقد بني على مرحلتين؛ الأولى بين عامي 1900- 1905 ثم 1910- 1915، وهو من أجمل بيوت المدينة، وقد سكنه آل طوقان، ويشكِّل جزءًا من المسار التراثي في المدينة، وتشغله الآن وزارة السياحة. وهو تحفة رائعة من حيث الأقواس والنوافذ والأبواب وحجارته المزخرفة.
صعدنا درج الإسكافيّة، وهو من أقدم أدراج المدينة، وكان يضمّ دكاكين الإسكافية، ومع تسلّق الدرجات تحلّق الروح في سماء المدينة. وصلنا شارع الخضر المبلط والمخصص للعربات والمشاة وعلى جانبه بعض الحوانيت التي تبيع التحف التراثية.
في كنيسة الخضر استقبلنا الأب الذي راح يتحدَّث بخشوع عن المكان، والمعجزات الكثيرة التي حصلت هنا. أسفل الكنيسة مغارة اعتاد الناس أن يزوروها ويكتبوا أمانيهم على ورقة يضعونها هناك. ويؤم الكنيسة المسلمون والمسيحيون الذين يشعلون الشموع ويتبرّكون بالمكان. يُقال إنَّ الزيت يسيل من جدرانها، وكثيرًا ما يُسمع في الليل صوت صهيل حصان الخضر. أمدُّ يدي أتلمَّس الحجارة الجميلة التي تشكل حنايا وقباب تتدلّى منها ثريّا تضيء المكان.
قصدنا مدرسة السلط وسط صوت الأذان الذي ينثال من على مآذن المساجد، فتخشع الجبال وتتمايل أشجارها.
على قمّة جبل "الجادور" وسط أشجار اللزاب تتربّع أقدم مدرسة، تلك التي خرَّجت العديد من رجالات الدولة الأردنيّة... بضع درجات لتصل الى محراب العلم بكل هيبته وقد تغطت جدرانه بلوحات تحمل أسماء وصور الأفواج التي تخرَّجت فيها. تأسست المدرسة عام 1918 وبدأ التدريس عام 1919، يتصدَّر المدخل ساحة مبلّطة ببلاط مزخرف معتّق يذكِّر بالزمن الماضي، ثم تشاهد سُلَّمين حجريين يوصلان للطابق الثاني، أقتربُ من أحد الصفوف المغلقة، أفتح بابه وأطلُّ إلى داخله فألمح أطياف مَن درسوا فيها وأسمع نشيدهم وهتافاتهم للوطن.
• وادي شعيب
من هنا انطلقنا إلى وادي شعيب الذي غصَّت جنباته ببساتين الحمضيّات، ويخترق صدره ماء يسيل رقراقًا يحدِّث بقصة النبي. منذ زمن لم تهدهد روحي شمس الوادي، أو أتنسَّم عبير بيّاراته التي جلستُ فيها مع طفلي حين كان رضيعًا نتلقط أخبار النهر، من بعيد ألمحُ زغب العشب النابت يشير إلى مسير الغنم في الجبال، ومن بعيد تلوح حبّات البرتقال على الأشجار تبتسم مثل ثغر صبي، قبل المقام بلحظات شاهدتُ شجرة لوز مزهرة تشبه ثوب نبي أبيض قد خرج للوضوء، وبغصنها المثقل بالزهر أشارت إلى المقام.
شعيب أيها النبي المبارك ها أنذا أعود إليكَ بعد عقدين من الزمن لأجد مسجدًا حديثًا قد أقيم تتوسّطه ساحة سماوية وقبّة ذهبيّة تعلو بحرة ماء مخصَّصة للوضوء. أمّا المقام فهو وحيد مجلّل بغطاء مخملي أخضر مطرَّز ببعض الآيات. قرأتُ الفاتحة، ثم صليتُ في المسجد، وعدنا للحافلة تسير بنا عبر الوادي. كان الجبل عن الشمال يتدثَّر بغلالة سلك معدنيّة خشية تدحرُج الحجارة، وعن اليمين أشجار الصفصاف والكينا ترخي جدائلها وتستحمّ بماء النهر.
• نهر الأردن والمغطس
استقبلتنا الشونة الجنوبية بباعتها الذين يعرضون محاصيل الأرض على الطرقات، وفي البساتين تصطفّ أشجار الموز بأوراقها الخضراء وكأنها تلوِّح لنا. فلاحون ينحنون على الأرض وقد لوّحت الشمس وجوههم السمراء. من بعيد تظهر في الأفق جبال القدس الملفَّعة بالضباب، شجر السيسبان بزهره الأصفر يتمايل في الطرقات، وتطلُّ نخلات قديمة تحدِّث بقصة النهر وأنبياء الله يحيى وعيسى وطقوس العُمّاد في نهر الأردن وحديث المغطس.
وقفنا تحت قوس حجري يرمز للموقع، استقبلنا المهندس "رستم مكجيان" وتحدَّث عن المغطس الذي اكتشف في عام 1995 وأدرج على قائمة التراث العالمي، فهو مكان الحجّ المسيحي المقدَّس، يبعد عدة كيلومترات عن مدينة أريحا، هنا تل الخرار الذي يسمى تل إيليا، حيث نبي الله إلياس الذي قدم من أريحا بوحي من الله ووقف برفقة إليشا عند مياه نهر الأردن ثم ضرب النهر بعباءته وعبر إلى التل المقدَّس.
مضينا في جولة على التل عبر منصّة خشبيّة فيها بقايا دير روتوريوس من العصر البيزنطي في القرن الخامس الميلادي، ويتكوّن من صحن وقدس الأقداس ومكان إقامة الرهبان، وقد وجدت عبارة مكتوبة (بهمّة وعظمة السيد المسيح قام ببناء الدير الراهب روتوريوس المحب لله)، وفي الموقع أيضًا بركة قديمة للعماد هي البركة الجنوبية أقيمت في القرن الثالث للميلاد.
أخذتنا الحافلات عبر درب ترابي باتِّجاه النهر. من بعيد ظهرت ثلاث كنائس حديثة أقيمت من قبل الطوائف المسيحية بعد تأهيل الموقع. توقفت الحافلات وترجَّلنا عبر ممر خشبي مظلّل تحيط به أشجار الأثل برماديّتها وحزنها على النهر.
أسيرُ صامتة خاشعة أسمع صوت خطواتي تلامس الحصى، قربي ساقية حزينة تثرثر بكلام غير مفهوم؛ ربّما كانت تسرد قصة العمّاد وكيف عمَّد النبي يحيى سيدنا عيسى عليهما السلام لتظهر فوق رأس المسيح حمامة بيضاء...
وصلتُ بركتي العمّاد ووقفتُ قرب الدرابزين الحديدي، وقد أضيف للبركتين حجارة مربعة وثمّة مظلّة خشبية في المكان، هل شاهدتُ سحابة مُمطرة في تلك اللحظة أم خُيِّل إليّ؟
أتابع سيري لألمح كنيسة حديثة، أتجاوزها لأصل البوّابة الخشبيّة التي يتكئ عليها حجر يتربَّع أرضًا مكتوب عليه نهر الأردن، تلك اللحظة دمعت عيناي وأنا أتساءل هل بات النهر غريبًا يحتاج إلى التعريف به؟ ذاك النهر الذي عبرناه صغارًا في طريقنا إلى القدس قبل عام 1967 وغسلنا بمائه وجوهنا وكنّا نشتمُّ رائحته لحظة نصل أرض الغور.
دخلتُ إلى ساحة صغيرة مبلَّطة بالحجارة... هبطتُ بضع درجات تحفُّ بها أعواد القصب التي كانت تتمايل مرحِّبة وقربها شجرة كينا تغتسل، لأجدني وجهًا لوجه أمام النهر الذي بات كالعرجون القديم... فتحتُ ذراعيّ لكي أحتضن حبيبًا، وبخشوع ناسك ركعتُ على حافّته أردِّد صلواتي. مددتُ كفّي وحفنتُ من الماء والطين..... انساح دمعي على خدّي... غسلتُ وجهي بمائه الذي عكّره الزمن وهمستُ: "سلام عليكَ أيها النهر المقدَّس".